الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده
ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين وسلم تسليماً ، وبعــــد:
أيها الإخوة
المؤمنون : ها هو شهر الله المحرم يهل علينا هلاله ، حاملا في طياته العديد من الذكريات
الهامة، التي ينبغي أن يقف معها المؤمنون ويتأملوا في دلالاتها ؛ ليستلهموا منها
العبر والعظات ، وذكريات محرم ودلالاته كثيرة جدا ، نقف في هذا المقام مع أبرزها وأهمها:
الوقفة الأولى : هي أن شهر محرم هو بداية عام ونهاية آخر ، وبذلك نكون فد ودعنا عاما كاملا من
أعمارنا ، مضى ذلك العام بما أودعنا فيه من أعمال ، منها ما هو حجة لنا ومنها ما
هو حجة علينا ، وإذا كان من طبيعتنا أننا نعمل ثم ننسى ، فإن الله تعالى لا يسهو
ولا ينسى ، وسيواجهنا يوم القيامة بما عملنا ، قال تعالى :" يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ
وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ".
فجميع أفعالنا محصاة علينا ، ومسجلة في ديوان عادل ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها ، قال تعالى :" وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي
عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ". وقد يفاجأ كثيرون بما يواجهون به في سجل أعمالهم ، كما قال
جلت قدرته وتقدست أسماؤه :" وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ". أي ؛ ظهر لهم ما لم يكونوا يتوقعون المؤاخذة عليه.
ولهذا ينبغي أن
نحاسب أنفسنا في نهاية هذا العام ، فإن
وجدنا خيرا حمدنا الله وشكرناه ، وإن وجدنا غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرناه ، وقد
روي عن الحسن البصري أنه قال :"
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق
جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة". فإذا كان مرور يوم واحد من عمر الإنسان ، له كل هذه الخطورة
البالغة ، فكيف بمرور عام كامل من حياتنا !! ونحن نعلم يقينا أن كل عام - بل كل يوم - يمضي من حياتنا يقربنا
نحو نهاية حياتنا الدنيوية ، وبداية حياة الأخروية ، فإذ عرفنا ذلك اندفعنا
إلى تعمير باقي أيامنا بصالح الأعمال .
فهذه هي الوقفة الأولى التي ينبغي أن نقف عندها ، ونحن نستقبل عاما ونودع
آخر من أعمارنا؛ لنحاسب أن أنفسنا ، ولنتعظ بتعاقب الأيام ، وتقلبات الليل والنهار، قال الله تعالى : "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا" أي ؛ جعلهما يتعاقبان ويختلفان ، وإن
في اختلافهما لعبرة لأولي الألباب ، وإن في تعاقبهما لصحوة ويقظة للغافلين ، وإن في ميدانهما لفسحة
للمتسابقين إلى الخيرات، فمن فاته
عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل ، على
نحوه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه
عزَّ وجلَّ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"[رواه مسلم].
أما الوقفة الثانية : فهي أن شهر محرم شهر عظيم ومبارك ، فهو أحد
الأشهر الحرم التي فخم الله شأنها ، وحذر من إيقاع الظلم فيها ، فقال جلت قدرته وتقدست أسماؤه :" إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ". فظلم العبد لنفسه بالمعصية ،
أو ظلمه لغيره بالاعتداء على دمه أو عرضه أو ماله ... محرم على مدار أيام السنة ،
لكنه في الأشهر الحرم أشد تحريما ؛ لأن المعصية والطاعة كلاهما تتضاعف فيها.
وقد ذهب كثير من
أهل العلم إلى أن شهر محرم هو أفضل الشهور على الإطلاق ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
:"وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم "[رواه النسائي]. وفي إضافته إلى الله تعالى دليل آخر على
شرفه وأفضليته، وأيضا أنه عليه الصلاة والسلام قد عد أفضل صيام التطوع ما كان في شهر محرم ، ففي صحيح مسلم :" أفضل
الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ".
فهذه هذه ثاني الوقفات
التي ينبغي أن نقف معها المسلم في مقتبل هذا الشهر ؛ ليعظمه ويستثمر أيامه في الإكثار من الصيام
والقيام والصدقة والإحسان ، وسائر الأعمال الصالحة.
وأما الوقفة
الثالثة: فهي
أن شهر محرم اشتمل على العديد من الأحداث الجسام والانتصارات العظام ، ففيه انتصر نبي الله موسى عليه
السلام، وفيه غرق الله فرعون قومه في البحر ، وفد كان ذلك في العاشر من محرم ؛ ففي
صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم
النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟
قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال:
فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
وفي شهر محرم
كانت الهجرة النبوية ، من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة النبويَّة المنورة ، تلك الهجرة
التي غيرت مجرى تاريخ العالم أجمع ، وأنهت عهد الشرك والطغيان ، وكانت سبيلاً إلى
إنشاء الدولة الإسلامية ؛ حيث شعَّ نور الإسلام في البقاع والأصقاع ، ودخل النَّاسُ في الدين
أفواجًا.
وفي الفاتح محرم
من عام 1375 هـ كان هجوم الشمال القسنطيني ، الذي فك الحاصر عن المجاهدين
المرابطين في الأوراس ، وأكد للعدو
والصديق شمولية الثورة وشعبيتها ، وأعطاها دفعا قويا فأخذت تشق طريقها نحو فجر
الحرية والسيادة.
فهذه هذه ثالث وقفة
ينبغي أن يقف معها المسلم في مقتبل هذا الشهر ؛ ليجعل
من شهر محرم نقطة تحول في حياته ، فينتصر على مكايد الشيطان ، وعلى غوائل نفسه
الأمارة بالسوء ، ويهجر المعاصي بمختلف أنواعها ، فإن
الهجرة قبل أن تكون رحلة جسدية ، فهي رحلة نفسية ، يهجر المسلم فيها الباطل والمعاصي والمنكرات ... ويقبل فيها على الانتصار للحق وفعل الخيرات ، تطبيقا
لقوله عليه الصلاة و السلام" : الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى
اللَّهُ عَنْه"[متفق عليه].
وإذا كان باب الهجرة من مكة إلى المدينة قد أُغلق بعد الفتح ، كما جاء في حديث البخاري ومسلم :"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". فإن باب الهجرة من الباطل والفساد ، والفتن والنفاق ، والشبهات والشهوات ... لا يزال مفتوحا إلى يوم القيامة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ". والهرج - بسكون الراء - يعني كثرة الفتن وانقلاب الموازين ، فعندما يصير المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، والمدافع عن أرضه إرهابيا ، والمجرم المعتدي مدافعا عن نفسه ... وغير ذلك من التناقضات التي نشهدها في هذا العالم المظلم ، فإن للمستمسك بالحق ، المحافظ على دينه وعبادة ربه .. في ظل هذا الهرج أجر المهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان باب الهجرة من مكة إلى المدينة قد أُغلق بعد الفتح ، كما جاء في حديث البخاري ومسلم :"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". فإن باب الهجرة من الباطل والفساد ، والفتن والنفاق ، والشبهات والشهوات ... لا يزال مفتوحا إلى يوم القيامة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ". والهرج - بسكون الراء - يعني كثرة الفتن وانقلاب الموازين ، فعندما يصير المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، والمدافع عن أرضه إرهابيا ، والمجرم المعتدي مدافعا عن نفسه ... وغير ذلك من التناقضات التي نشهدها في هذا العالم المظلم ، فإن للمستمسك بالحق ، المحافظ على دينه وعبادة ربه .. في ظل هذا الهرج أجر المهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله صلوا وسلموا
على سيدنا وحبيبنا محمد ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطه المستقيم
أقول ما تسمعــــون
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفــــــــروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه ومن والاه، أيها الإخوة الكرام:
الوقفة الرابعة : مع شهر الله المحرم : هي أن الصحابة الكرام
أجمعوا في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه على أن يكون ابتداءُ السنةِ من شهر الله المحرَّم ، وآثروا أن يكون
التأريخ لأحداث المسلمين مرتبطا بهجرة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ؛ باعتبارها
أعظم حدث في مراحل السيرة النبوية ، واستئناسا
بإشارة القرآن الكريم إلى ابتِداء التَّاريخ
الإسلامي بالهجرة ، وذلك في قول الله تعالى: "لَّمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ". فقوله جلت قدرته وتقدست أسماؤه: "من أوَّل يوم" يتضمن إشارة إلى أن ذلك اليوم
ينبغي أن يكون هو أول أيام تاريخ المسلمين؛ ولهذا أجمع الصَّحابة رضِي الله تعالى عنهم على ابتداء التَّاريخ الإسلامي من هجرة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإجماعهم حجة بلا نزاع.
ولهذا ينبغي للمسلمين أن يتمسكوا ويعتزوا بتاريخهم الهجري ، وألا يجعلوا
منهم تاريخا ثانويا ، بعد التاريخ الميلادي للنصارى ، فإن لكل أمة خصائصها وحضارتها ، التي تتمسك بها وتفخر بالانتماء
إليها ، وتربي أولادها على الاعتزاز بها ، فمن العيب ومن الجناية على ديننا وحضارتنا ، أن
نجعل أولادنا في المدارس يؤرخون بالتقويم الميلادي ، ثم نهمل التاريخ الهجري
بالكلية ، حتى أصبح الكثير من أولادنا لا يعرفون أسماء الأشهر الهجرية ، وهذا يعتبر سلخا للأمة عن أصالتها ، وطمسا لهُويتها
وثوابتها ، بل كان ينبغي أن يكون التاريخ الهجري هو التاريخ الرئيسي في المراسلات
الرسمية بين كافة المؤسسات والإدارات ... فالعمل بالتاريخ الهجْري يعتبر ثابتا من
الثوابت الوطنية ، لارتباطه بهوية الأمة وأصالتها وتاريخها وأمجادها ... ثم هو جزء من ديننا؛ لارتباطِه بالهلالِ الَّذي
ترتبِط به الكثير من العبادات ، وبتجاهل التاريخ الهجري تَضييع المعالم الشرعيَّة
والشَّعائر العباديَّة ، فالحج والزكاة والصيام والمواسم والأعياد والأضاحي وكثير
من الصلوات ... مرتبطة بالتاريخ الهجري.
فنسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الأخذ بهذه التوجيهات ، وأن
يجعلنا من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، واعلموا عباد الله : أن الله تعالى قد أمركم بأمر عظيم ، بدأه فيه
بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه ، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وانسه ، فقال
عز من قائل ، ولم يزل قائلا عليما ، وآمرا حكيما :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً).
فاللهم وصل وسلم وبارك على البشير النذير ،
والسراج المنير ، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار ، خصوصا على أجلهم قدرا
وأرفعهم ذكرا ، ذوي المقام العلي والقدر الجلي ، ساداتنا وأئمتنا الفضلاء ، أبي
بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة ، وعلى
الحسنين الأحسنين أبي محمد الحسن وأبي عبدالله الحسين ، وعلى أمهما الزهراء وخديجة
الكبرى وعائشة الرضى ، وبقية أزواج النبي المصطفى ، وعلى الصحابة أجمعين ،
وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين
، وانصر الإسلام والمسلمين ، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين ، واخذل الكفرة
والمشركين ، وأصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ، وأهلك من في هلاكه صلاح
للإسلام والمسلمين ، وكن اللهم لإخواننا
في فلسطين وبورما وسائر بلاد المسلمين عونا ونصيرا ، اللهم أيدهم بنصرك ودمر
أعداءهم تدميرا ، واجمع شملنا ووحد كلتنا ، وانصرنا على من خالفنا
، واحفظ بلادنا وأصلح أزواجنا وذرياتنا ، واشف مرضانا وعاف مبتلانا ، وارحم موتانا
، واغفر اللهم لوالدينا ولمن علمنا ولمن أحسن إلينا ، ولسائر المسلمين والمسلمات ،
والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات ، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.