بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا
ونبينا ومولانا محمد
وعلى آله الطاهـرين ، وصحبه أجمعين ، ومن والاه
إلى يوم الدين
أما بعد / أيها الإخوة الكرام : السلام عليكم
ورحمة الله تعالى وبركاته ، مرحبا بكم في هذا لقاء الطيب المبارك
عنوان هذه المحاضرة هو :
المرجعية الدينية في الجزائر
مفهومها
وتأصيلها وجــــذورها ودواعي اختـيارها وواقعها
وحقيقة مناوئيها ودورها في الحفاظ على الوحدة والتماسك
|
وقد قسمتها إلى سبعة مطالبَ حسب مفردات عنوانها ، وتفصيلها كالآتي :
المطلب الأول: مفهوم
المرجعية وتأصيلها
الفرع الأول : تعرف المرجعية لغة:
هي اسم مفرد مؤنَّث منسوب إلى مَرجِع
، ومَرْجِعيَّة دينيَّة: أي ؛ سلطة ، أوجهة ، أو شخص تَرْجِع إليه طائفة دينيَّة
معيَّنة فيما يخصُّها أو يشكل عليها من أمرها.
ويقال للكتاب مرجع ؛ لأنه يُرجع إليه في معرفة مسائل العلم والأحكام. ولم يرد لفظ
"مرجعية " في القرآن ولا في السنة ولا في كتب التراث الإسلامي ،
وإنما ورد في القرآن لفظ "مرجع" في ستة عشر موضعا ؛ منها قوله
تعالى: "إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ".
أي ؛ رجوعكم ، كما ورد ذلك أيضا في السنة النبوية وكتب التراث الإسلامي بكثرة.
الفرع الثاني : تعريف المرجعية
اصطلاحا:
لم يستعمل العلماء المتقدمون
هذا المصطلح ، وإنما شـــاع بكثرة في كتب المعاصرين ، ويعتبر الشيعة الإمامية أكثر استعمالا
له ، وهم يقصدون به الأئمة المجتهدين المعصومين
، الجامعين للشرائط الشرعية المنصوص عليها في رسائلهم العلمية.
وأما المتأخرون من أهل السنة فيطلقون مصطلح "المرجعية"ويقصدون
به معنيين :أحدهما: مرجعية الفكرة: المتمثلة في الاختيارات الفقهية
أو العقائدية أو السلوكية. والثاني: مرجعية الأفراد: المتمثلة في الفقهاء
والعلماء الذين يُرجع إليهم في معرفة وفهم أحكام الشرع وفق المذهب المختار. ولم أجد - في ما تيسر لي الاطلاع عليه - تعريفا واضحا محددا لمصطلح "المرجعية"
، ما عدا ما ذكره فضيلة أستاذي الدكتور كمال العرفي ، الذي عرفها لي بأنها
:" كل الأسس المعتمدة في فهم الدين وتطبيقه في مجتمع ما "، وهو تعريف جيد غير أنه تناول مرجعية الفكرة دون مرجعية
الأفراد ، ومرجعية الفكرة إنما ينطق بها ويجسدها الرجال، وقد بدا لي أن أعرف المرجعية
بأنها :
"الأصول الشرعية المختارة في فهم الدين وتطبيقه والهيئات العلمية المخبرة بأحكامها ".
وفي ما يلي شرح وبيان محترزات هذا التعريف:
1- الأصول الشرعية المختارة: أشرت بهذا إلى مرجعية الفكرة : فالأصـول: هي مجموعة القواعد والأسس والدلائل التي ينطوي عليها المذهب المختار. والشـرعية: المستمدة من الشرع الإسلامي ، وهو قيد
مانع لدخول الأصول غير الشرعية في التعـريف. والمختارة: إشارة إلى أن المرجعية هي عبارة عن اختيار لأصول وقوانين
شرعية ، يختارها علماء قطر معين ؛ ليسيروا وفق ما تنص عليه أحكامها ،
ويحتكموا إليها في ما يلم بهم من وقائع وأحداث ، كمرجعية هيئة كبار العلماء في السعودية الذين اختاروا
التعبد بالمذهب الحنبلي ، ومرجعية المجلس الإسلامي الأعلى في لبنان التي اختار
علماؤها المذهب الشيعي ، ومرجعية الأزهر في مصر التي اختار أربابها المذهب الشافعي
، ومرجعية علماء المغرب العربي - ومنه الجزائر- المتمثلة في اختيار الفقه المالكي - كما سيأتي بيانه - وهكذا نجد أن لكل أهل بلد
مرجعيتهم التي اختارها علماؤهم واعتمدوها ، وتوارثوها جيل بعد جيل ، على نحو ما قال الإمام مالك لأبي جعفر المنصور: "يا أمير
المؤمنين أن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، ومع كل منهم علم ، فدع الناس
وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم".
4- وقولنا :" في فهم الدين وتطبيقه ". هو بيان لماهية المرجعية ومجالاتها ، المتمثلة في فهم الدين وتطبيقه وفق أصول المذهب المختار.
الهيئات العلمية المخبرة بأحكامها : أشرت بهذا إلى مرجعية الأفراد : المتمثلة في الأجهزة العلمية المؤهلة للإفتاء ، والمخولة ببيان أحكام الأصول المختارة ، وعبرت عنها بالمخبرة ؛ لأن الفتوى إخبار بحكم شرعي في إلزام أو إباحة ، كما عرفها القرافي رحمه الله.
الفرع الثالث : التأصيل
الشرعي للمرجعية الدينية
تقدم بأن المرجعية لا وجود لها بهذا اللفظ في
القرآن و السنة و كتب التراث الإسلامي ، لكن مفهومها موجود في القرآن العظيم ، ومن
الألفاظ التي أطلقها القرآن الكريم للدلالة على المرجعية - والتي يمكن اعتبارها من
دلائل التأصيل لها - لفظ :" أُولِي
الْأَمْر" وقد ورد في القرآن مرتين ، قال تعالى:"وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ".
وقال تعالى:" وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
".
وأولوا الأمر في مجال الحكم هم الساسة والقادة ، أما في المجال الديني هم العلماء ،
الذين منحهم الشرع سلطة استنباط الأحكام، وأمر بالرجوع إليهم ، وأوجب طاعتهم في ما
يصدر عنهم من فتاوى ، قال ابن العربي: "والصحيح
عندي أنهم – يعني
أولي الأمر - الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم
والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم،
وامتثال فتواهم واجب".
وإذن فمرجعية
الأفراد التي ذكرنا هي ذاتها أولوا الأمر ، وهي نفسها أهل الذكر في قوله تعالى : " فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون" .
فأهل
الذكر وأولوا الأمر : هم العلماء المتخصصون المؤهلون لفهم الشريعة وتطبيقها بشكل صحيح، وإذا كنا في مجال الطيب نرجع إلى المتخصصين فيه ، ولا يعقل أن نرجع فيه إلى نجار
أو جزار ؟ فمن باب أولى
أن نرجع في أمور الشريعة إلى أهلها
العارفين بها ، الذين يعتبر وجودهم في الأمة ضرورة شرعية ، ولا يمكن الاستغناء
عنهم بحال من الأحول وإلا فسدت الخليقة.
ولقد أدرك الصحابة الكرام رضي الله عنهم ضرورة هذه المرجعية في الأمة ؛ فبادروا
إلى إنشاء ما اصطلح عليه بـــ "أهل الحل والعقد " وهو جهاز رفيع
المستوى ، مكون من العلماء الربانيين ووجوه الناس ، للفصل والحسم في في قضايا
الأمة ، فكانوا لا يُتخذ قرار بدونهم ، ولا يُبت في قضية إلا بعد الرجوع إليهم ، وما
كان يسمى بأهل الحل والعقد ، هو ما يسمى اليوم بالمرجعية الدينية ، إلا أن الفرق
بينهما أن ذلك كان جهازا له صلاحيات أوسع ؛ حيث يبت في أمور الدين والسياسة معا ،
أما المرجعية عندنا اليوم فتختص بالمجال الديني فقط ، ولذلك قيدت بلفظ " الدينية
". ويمكن أن يعير عنها – أيضا - بالمرجعية الوطنية ؛ باعتبارها مرجعا وملاذا لجميع أبناء الوطن
الواحد ، مهما تعددت مشاربهم الثقافية ،
وتنوعت أصولهم العرقية ، ومهما تباينت وجهاتهم السياسية.
المطلب الثاني : المرجعيات
الدينية في المذهب السني
يعد المذهب السني
أكبر المذاهب الإسلامية في العالم ، وإليه
تنتمي الغالبية العظمى من المسلمين ، ويتفرع إلى عدة مذاهب عقائدية وفقهية ، والجزائر منذ الفتح الإسلامي
، ومرورا بالموحدين إلى يومنا هذا ، وهي
تتعبد الله تعالى بمذهب أهل السنة والجماعة ، وأرى أنه من الفائدة أن نعرف قليلا بأشهر
وأبرز هذه المذاهب السنية في كل من العقيدة والفقه ، حتى تتضح لنا رؤية الهياكل
التي يتألف منها المذهب السني ، ثم نحدد دائرة المرجعية
الدينية في الجزائر من بين تلك البنية الهيكلية ..للمذهب السني.
الفرع الأول : المذاهب العقائدية السنية :
· مذهب الأشاعرة: نسبة لأبي الحسن
الأشعرى [ت 324هـ] الذي خلع ثوب
الاعتزال ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، وحاجج المعتزلة
بالدلائل الشرعية والعقلية والمنطقية في كثير من
مسائل الاعتقاد ، ويعد المذهب الأشعري من أكبر المذاهب السنية في العالم.
· مذهب الماتُريدية:
نسبة لأبي منصور
الماتريدى[ت333هــ] وقد استخدم هو
الآخر العقل و المنطق وعلم الكلام
في العقائد ، على خلاف بينه وبين أبي الحسن الأشعري.
· مذهب الأثرية:
نسبة إلى الأثر ، ويسمي أربابه أنفسهم بالسلفية
نسبة إلى السلف ، ثم أطلق عليهم في ما بعد اسم الوهابية نسبة إلى محمد بن عبد
الوهاب [ت 1206هـ ]، ويعتمد الأثريون على ظواهر النصوص الشرعية من القرآن والسنة ، ويقدموها على العقل والمنطق
، ويرفضون التأويل الكلامي
، ويصنفون الأشاعرة والماتريدية ضمن الفرق
الضالة ويخرجونهم عن دائرة أهل السنة بالمعنى الخاص.
الفرع الثالني: المذاهب الفقهية السنية :
· المذهب الحنــــفي: نسبة لأبي حنيفة النعمان بن
ثابت الكوفي[ ت150هـ].
· والمذهب المـالكي: نسبة لمالك بن أنس إمــــام دار الهجـــرة[ ت179هـ].
· والمذهب الشافعي: نسبة لمحمد بن إدريــــــــس الشــــافعـي[ ت204هـ].
· المذهب الحنبـــلي: نسبة لأحمد بن
حنبل بن هــلال الشيباني[ ت241هـ].
فالحنفية
اختاروا في العقيدة المذهب الماتريدي . والمالكية والشافعية اختاروا المذهب
الأشعري ، كما اختارته جماعة من أئمة الحنابلة المتقدمين ، منهم العلامة شيخ
الإسلام علِيُّ بْنُ
عَقِيْلِ الحَنْبَلِيّ [ ت513هـ] ، وكذا تلميذه ابن
الجوزي [ت579هـ]وغيرهما . أما معظم
الحنابلة فهم على المذهب الأثري في العقيدة ، وتجدر الإشارة إلى أن معظم الطرق
الصوفية في العالم تتعبد الله تعالى بالعقيدة الأشعرية.
المطلب
الثالث : تاريخ المرجعية الدينية في الجزائر وأسباب اختيارها
الجزائر كغيرها من الأقطار السنية ، لها مرجعيتها
الدينية الخاصة بها ، فقد اختار علماؤها منذ قرون المذهب الأشعري في العقيدة ،
والمذهب المالكي في الفقه ، وقد تقدم بأن المالكية والشافعية كلهم على العقيدة
الأشعرية ، أما في مجال السلوك أو التربية الروحية أو ما يعبر عنه بالتصوف ، فقد
اختارت الجزائر طريقة العارف بالله أبي القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري[ت297].
وقد عبر الفقيه المالكي المغربي الفاسي عبد
الواحد بن عاشر (ت 1040هـ) عن هذا الاختيار الثلاثي في منظومته المسماة بــ"المرشد
المعين" فقال رحمه الله:
في عقد
الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك
وسأكتفي في هذا المقام بإلقاء نظرة خاطفة على الجذور التاريخية لعقد
الأشعري وفقه مالك في الجزائر ، وعناية
علمائها بهما ، وأسرار اعتمادهما كمرجعية دينية
، حتى نكشف لكم أن هذه المرجعية لم تولد حديثا ، بل لها جذور عميقة في
تاريخ هذا البلد الطيب ، كما أن اختيارها لم يأت عبثا ، وإنما أتى نتيجة لعوامل وخصوصيات
شتى.
الفرع الأول : تاريخ العقيدة الأشعرية في الجزائر وأسباب اختيارها
أولا : تاريخ العقيدة الأشعرية في
الجزائر
لقد دخلت
العقيدة الأشعرية إلى المغرب الإسلامي بصفة عامة في القرن الرابع الهجري ، وكان
أبو إسحاق إبراهيم الزبيدي المعروف بالقلانسي (ت 359هـ) أول من أدخل العقيدة الأشعرية إلى القيروان ، وقد انبرى علماء كثيرون لنشر العقيدة الأشعرية
في المغرب الإسلامي ، من أبرزهم : أبو بكر الحضرمي القيرواني (ت 489هـ) الذي
ألف فيها كتابا سماه :"التجريد في
علم الكلام".
وظلت العقيدة الأشعرية منحصرة في الأوساط العلمية
في عهد المرابطين ، حتى نشرها الموحدون بين العامة ؛ حيث وظفوها
في نزع مشروعية السطة من المرابطين ، متهمين إياهم بالتشبيه والتجسيم في
الأسماء والصفات. ومن أهم الكتب التي كانت معتمدة في العقيدة الأشعرية بالمغرب الإسلامي:
- كتاب : "العقيدة البرهانية" لأبي عمرو السلالجي الفاسي[ت574].
- ثم
ألف العلامة الجزائري محمد بن يوسف السنوسي التلمساني[ت895] كتاب :"العقيدة
الصغرى" المسمى بــ" أم البراهين ". وقد كتب الله لها
القبول فانتشرت انتشارا واسعا.
- كما نظم العلامة الزواوي [ت884هـ] "المنظومة
الجزائرية في العقائد الإيمانية" المؤلفة من 355 بيتا ، والتي كان لها
دورا كبيرا في تثبيت العقيدة الأشعرية في
الجزائر ، وقد شرحها السنوسي شرحا مفصلا في كتاب سماه :" المنهج السديد في شرح كفاية المريد".
وهكذا نجد أن العقيدة الأشعرية في الجزائر لم تكن
حدثا عابرا أو طارئا ، وإنما تأصلت جذورها وترسمت معالمها منذ القرن الخامس الهجري
إلى يومنا هذا.
وقد أثير جدل كبير حول أشعرية ابن باديس ، فمنهم يثبتها
ومنهم من ينفيها ، ولم أجد في بحثي دليلا صريحا يعول عليه في النفي أو الإثبات ، فآثرت الاستغناء عن مناقشة هذه المسألة ؛ لأنه لا طائل منها ، فلا أشعريته دليلا على صحة العقيدة
الأشعرية ، ولا عدمها دليلا على بطلانها ، فابن باديس ليس نبيا ولا رسولا ، وإنما هو
عالم يؤخذ من أقواله ويرد كبقية العلماء.
والمهم والمؤكد أن بن باديس عمل على ترسيخ مرجعية
الفقه المالكي – كما سيأتي – وأنه لم يطعن في الأشاعرة ، ولم يخرجهم من دائرة
الكيان السني كما يفعله بعض مدعي السلفية ، بل كان رحمه الله يجلهم ويدرس كتبهم ،
وكان أول من حقق ونشر كتاب :" العواصم من
القواصم" لابن العربي الأشعري المالكي ، ولا يهم بعد هذا إن كان على
عقيدة الأشعرية أو على خلافها .
ثانيا: أسباب
اعتماد الجزائر للمذهب الأشعري كمرجعية عقائدية
من الأسباب التي دعت الجزائريين إلى اختيار
العقيدة الأشعرية:
·
اعتقاد الجزائريين أن الأشاعرة هم الفرقة الناجية التي جاء ذكرها في الحديث
الشريف: "افترقت
بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين، فرقة ناجية،
واثنتين وسبعين في النار"[أخرجه
الدارمي]. ومما عضد هذا الاعتقاد ما ورد من تزكية نبوية لاختيار أهل المغرب ، ففي صحيح
مسلم:" لَا
يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". ورواه أوبوعوانه في مستخرجه بلفظ " لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ
....". والمعنى واحد.
· كما كان للتمسك بالمذهب المالكي دورا قويا في
اختيار العقيدة الأشعرية ، باعتبار أن فقهاء المالكية كانوا أشاعرة كما سبق ، فثمة
ارتباط وثيق بين عقد الأشعري وفقه مالك إلى جانب طريقة الجنيد السالك.
·
وأيضا أن دولة الموحدين كان لها تأثير في بسط
العقيدة الأشعرية ، فقد وظفوها كما ذكرنا سابقا في نزع مشروعية السلطة من
المرابطين ، مما جعل العامة ينفرون من عقيدة التجسيم والتشبيه ويتمسكون بعقيدة
التنزيه الأشعرية.
الفرع الثاني: تاريخ المذهب المالكي في الجزائر وأسباب اختياره
أولا : تاريخ المذهب المالكي في الجزائر :
أما المذهب المالكي فأول من
أدخله إلى المغرب العربي بصفة عامة، هو الإمام
سحنون القيرواني ت240) ،
ثم كان للسلطان المعز بن
باديس - الذي يدعى بالخليفة الزناتي (ت453هـ) - دورا بارزا في استقرار المذهب
المالكي في الديار المغربية ، وقد حسم
النزاع بينه وبين المذهب الحنفي الذي كان منتشرا قبله ، كما قضى على ما بقي من
آثار المذهب الشيعي الموروث عن الدولة الفاطمية.
ثم تلقى الجزائريون المذهب
المالكي بالقبول ، واعتنى به علماؤهم عناية فائقة ، وأقبلوا عليه دراسة وشرحا
وتأليفا:
·
فشرح كتاب الموطأ الشيخ أحمد
الداوي المسيلي أو البسكري [ت402هـ].
· كما شرحه أيضا الشيخ مروان بن محمد الأسَدي
البُوني العنابي [ت قبل 440هـ].
· وكتب حسن بن عبد الله الأشيري التلمساني(ت 569هـ) شرحا على
الموطأ سماه: "مجموع في غريب الموطأ".
·
وكتب الفقيه محمد بن الحسن
أبركان الراشدي التلمساني (ت868هـ) كتابا سماه :"المشرع المهيأ في ضبط
مشكل رجال الموطأ ."
·
ووضع الشيح محمد بن أبي القاسم المشدالي
– نسبة إلى مشدالة من قبائل زواوة - البجائي (ت866هـ) حاشية في غاية الحسن والتحقيق على تعليقة الوانوغي على تهذيب المدونة للبراذعي.
· كما شرح المدونة أيضا كل من عيسى بن مسعود الزواوي (ت743هـ) وسليمان بن
يوسف الحسناوي (ت877هـ) . وكلاهما من فقهاء بجاية.
·
أما جامع
الأمهات المسمى بمختصر ابن الحاجب فقد دخل
إلى بجاية في القرن السابع الهجري ، عن طريق الشيخ ناصر الدين المشدالي الزواوي ت731. ويقول المؤرخون ان جامع الامهات انتشر في اقطار المغرب العربي انطلاقا من بجاية. وممن
شرحه من علماء الجزائر: الشيخ عبد الرحمن أبو زيد الجزولي (741هـ) ، وهو من قرية تيغزيرت
بتيزي وزو. كما شرحه أيضا الشيخ محمد بن أحمد بن مرزوق ( ت ت842هـ) وسمى
تأليفه بــ " إزالة الحاجب عن فروع ابن الحاجب".
· أما مختصر خليل فقد دخل الجزائر في القرن التاسع عن طريق الشيخ
محمد بن عمر بن الفتوح التلمساني (ت818هـ) ، وقد شرحه أيضا الشيخ محمد بن أحمد بن مرزوق (ت842هـ) وسمى تأليفه بــ "
المنزع النبيل في شرح مختصر خليل".
·
ومن أهم مؤلفات فقهاء الجزائر
كتاب "القواعد" للشيخ محمد بن محمد المقري(ت757هـ) . هذا وإن مؤلفات وشروح فقهاء
الجزائر في المذهب المالكي كثيرة جدا ،
يصعب علينا إحصاؤها في مثل هذه العجالة.
·
ودحضا لبعض الشبهات المثارة ،
نشير إلى أن جمعية العلماء في عهد الاحتلال الفرنسي ، قد عملت هي الأخرى على ترسيخ
مرجعية الفقه المالكي ، حيث اشتغل ابن باديس رحمه الله بتدريس كتاب "الموطأ
" وشرحه لطلابه في الجماع الأخضر بقسنطينة ، كما قرر أيضا تدريس " مختصر
خليل " و "متن ابن عاشر" و " رسالة أبي زيد
القيرواني " و" أقرب المسالك " و " وبداية
المجتهد " وغيرها من كتب الفقه المالكي التي ورد ذكرها في كتاب "آثار
ابن باديس 3/ 229".
ثانيا : أسباب
اعتماد الجزائر للمذهب المالكي كمرجعية فقهية
فلا شك أن هذا الاختيار لم
يأت عبثا كما قلنا ، بل له أكثر من دلالة في هذا الموروث الثقافي للمجتمع الجزائري،
وله عوامل عديدة ترجع في مجملها إلى ما اختص به المذهب المالكي من الخصائص والمميزات
:
فقد امتاز المذهب المالكي على الصعيد الفقهي : برحابة صدره ، و
انفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية ، والشرائع السماوية السابقة ، واعترافه
بالجميع واستعداده للتعايش معها والاستفادة منها ، فهو
يعتمد في التشريع على أصل "شرع
من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ" ، ويبيح الاقتداء
بالمخالف في الفروع ولو ترك شرطا من شروط الصلاة أو ركنا من أركانها ، ويرفض
تكفير المسلمين بذنب أو شبهة ، وقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم ؟ فقال:
"من الكفر فروا".
وعلى المستوى المقاصدي : امتاز
المذهب المالكي بمراعاة المصالح والمفاسد في الأحكام الشرعية ، فنجد من ضمن أصوله
التشريعية " المصالح المرسلة " و "سد الذرائع "
المتفرعة عن أصل اعتبار المآل وهو أصل مقاصدي عظيم ، مما جعله منسجما مع الشريعة المعظمة في غاياتها وتصرفاتها
وأسالبيها التشرعية.
أما على المستوى الأصولي : فقد امتاز المذهب المالكي بكثرة مصادره
وتعددها ، وتنوعها إلى نقلية وعقلية ، وهذا التنوع في الأصول ، وتلك المزاوجة بين العقل والنقل ، هي الميزة الأساسية التي
ميزت المدرسة المالكية عن مدرستي أهل الرأي وأهل
الأثر ، وهي سر
وسطية مذهب مالك وانتشاره والإقبال الشديد عليه ،
وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.
وإذا ثبت هذا
للمذهب المالكي فلن نكون مبالغين إن قلنا أنه أولى المذاهب بالاتباع ؛ تطبيقا
للقاعدة المقصدية التي ذكرها الشاطبي في موافقاته :"ما كان من المذاهب وسطا كان
أخلق بالإتباع" ، لأن الإسلام
دين الوسطية ، ولأن خير الأمور أوسطها كما ورد في الأثر ، وبهذا يتجلى لكم – أيها
السادة - سر اعتماد الجزائر للمذهب
المالكي كمرجعية فقهية لها عبر مراحل تاريخها.
المطلب
الرابع : الاختيارات الفقهية من خارج المذهب وعلاقتها بالمرجعية
مما يلحق بالمرجعية
الدينية " الاختيارات الفقهية " التي قد يختارها فقهاء البلد من
خارج المذهب المالكي ، فهذه تعتبر هي الأخرى من المرجعية التي يتعين التزامها ،
لأننا عندما نقول أن مرجعيتنا هي فقه مالك ، لا يعني أننا نتعصب له ونلغي ما سواه
، من الموروثات الفقهية الأخرى ، ولا نقول أيضا أن مذهبنا هو الحق الذي لا ريب فيه
، وما عداه فباطل ، بل شعارنا كما قال جميع الأئمة "رأيي صواب يحتمل الخطأ
ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". ولذلك فلا مانع أن يتخير فقهاء البلد من الآراء الأخرى ، مما يتبين لهم رجحانه
أو تلاؤمه مع مقاصد الشرع ، وتضمنه لمصلحة مستجلبة أو مفسدة مستدفعة ... ومن
مميزات المذهب المالكي أنه يبيح للمفتي الخروج عن المذهب لضرورة أو حاجة ، ولذلك إذا وقعت واقعة وكان الإفتاء فيها بالمذهب المالكي مفوتا
لمقصود شرعي ، أو مفضيا إلى مفسدة غالبة ،
جاز حينئذ و قد يجب العدول عن الأخذ بالمذهب في تلك المسألة ؛ وأصل "مراعاة الخلاف"
في المذهب المالكي يرجع إلى هذا المعنى ، وكذلك "أصل الاستحسان"
، بل والشريعة كلها قائمة على اعتبار المصالح ، ولما كان
المفتي ناظرا في مصالح الخلق ، لزم أن يكون نظره ملائما لما عهده وتحققه من أسلوب
الشريعة في جلبها للمصالح ودرئها للمفاسد.
وتوجد عدة اختيارات
اختارها فقهاؤنا من خارج المذهب ، وقد اتخذها بعض المغرضين غرضا للطعن في المرجعية
الدينية في الجزائر ، نذكر منها في المقام اختيارا واحد ونناقشه ، وهو: " إخراج
القيمة في زكاة الفطر" فالمشهور في المذهب المالكي أنها لا تجزئ ، لكنْ علماؤنا أفتوا بالجواز والإجزاء ، لأن المعتبر
في زكاة الفطر هو حصول الغنى للفقير والمسكين ؛ امتثالاً لقول النبي - صلى الله
عليه وسلم " : أغنوهم عن الطلب
في هذا اليوم". والاغناء يحصل بالقيمة قطعا ، وقد يحصل
بالطعام وقد لا يحصل ، فقد يكون الفقير في غنى عن الطعام ، وقد يتعذر عليه
بيع الطعام لو أراد بيعه ، بينما تمكنه القيمة من شراء ما يلزمه من الأطعمة
والملابس وسائر الحاجات ... لذلك كانت القيمة أقرب إلى دفع الحاجة وحصول
الاغناء المطلوب والمقصود شرعا.
ورجحان هذا
القول لا غبار عليه ولا مدفع له ، لا سيما إذا
أضفنا إليه كون الناس في زمن توفر فيه الطعام وعز فيه الدينار ؛ فيكون
إخراج القيمة أنفع للفقراء وأرعى لمقاصد الشارع.
ولربما لو كان
مالك في عصرنا هذا لما وسعه الإفتاء بغير هذا ، وقد قيل لأبي زيد القرواني
أتتخذ كلبا وقد كره مالك ذلك ؟ فقال : " لو أدرك مالك زماننا لاتخذ
أسداً ضارياً " . وقد منع عمر سهم
المؤلفة قلوبهم وهو منصوص عليه ، لأن المقصد الذي شرع لأجله لم يعد له وجود ، وهو
التاليف لصالح الإسلام لما كان ضعيفا ، ومن القواعد المجمع عليه لدى أرباب الأصول
(الحكم يدور مع علته عدما ووجودا).
وعند التحقيق لا
نجد خروجا عن المذهب المالكي في هذه المسألة ، فقد قال الباجي وابن رشد والعلامة
العدوي بالإجزاء مع الكراهة ، وقال ابن حبيب واللخمي بجواز إخراج القيمة للمصلحة ،
وبالتالي فالقول بالجواز لم يعد خروجا عن المذهب ، وإنما هو تخير لأقاويل من
المذهب.
وهكذا يقال في بقية
المسائل التي أثيرت حولها الشبهات ، وقد كتبت في بعضها أبحاثا خاصة منها:
المطلب
الخامس: واقع المرجعية الدينية في الجزائر ومظاهر تهديدها
رأينا في ما تقدم أن الجزائر منذ القرون الأولى
وهي تعتمد المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية مرجعية لها ، ولم تخلو مرحلة من مراحل
تاريخها من العلماء المجتهدين ، الذين بذلوا جهودهم في شرح مكونات هذه المرجعية، وتبسيطها
للعامة بالمتون والمنظمات والمؤلفات
المتوالية.
واليوم أصبحت هذه المرجعية مهددة في ديارها ، فهي
تتعرض في كل مرة إلى الانتقاص من قدرها ،
والدعوة إلى هجرانها واستبدالها بموروثات ثقافية واردة من هنا وهناك ، وتسفيه أو تبديع المتمسكين بها ، هذا ما تتعرض
له مرجعية الجزائر اليوم ، من طرف بعض التيارات التي ليس لها انتماء مذهبي أصيل ، لا
نتحدث في الصدد عن الدعوات الشيعة أو الأحمدية المنزوية في دوائر ضيقة خفية ،
وإنما نتحدث عن أولائك المتعصبين الذين يسمون أنسهم بالأثريين أو السلفيين ، الذين
يبدعون المسلمين ويضايقونهم في مساجدهم ومؤسساتهم التعليمية ، ويشنون حربا متواصلة
على طمس معالم المرجعية المختارة لهذا البلد ، ومن لم يكن منهم متصفا بتلك
الصفات التي ذكرنا ، فلا يشمله حدثنا هذا ، وعلينا احترامه في شخصه وقناعته الفكرية ؛ إذ لا نمارس وصاية
على عقل أحد من الناس.
ولقد
تفطن أهل العلم وأولوا الأمر لخطورة هذا الأمر ، فعقدوا لذلك ملتقيات وندوات ،
وخصصوا له بعض المنشورات ، وما فتئ معالي الوزير الدكتور محمد عيسى مذكرا – في كل محفل
– بضرورة الحافظة على هذه المرجعية ، التي تعتبر الأداة الأولى للحفاظ على وحدة
الوطن ، ونسيج المجتمع الجزائري ، ورغم ذلك لا بد أن نقر بأن المرجعية لا تزال
مهددة في الواقع ، وأن تلك المحاولات لا تزال منحصرة في أقاويل أو أطروحات أو
تعليمات ..... ولا تجسيد لها على أرض الواقع.
وذلك أن المرجعية الدينية لها شقان أو جانبان : أحدهما
علمي ، والثاني مؤسساتي، ولا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر ؛ فلن تحفظ المرجعية
إلا بتفعيل الجانبين معا.
فأما الشق العلمي : فأعني به المرجعية
الدينية العلمية
، المتمثلة في
الطاقات العلمية
المؤهلة للفصل في
القضايا
التي تلم بالأمة
، والتصدي لدحض
الشبهات الواردة ، وتعريف الناس بموروثاتهم الفكرية والثقافية فقها أو عقيدة أو
سلوكا... وهذه المرجعية هي
التي عبرت عنها في المقدمة بمرجعية الأفراد: المتمثلة في الفقهاء والعلماء الذين
يُرجع إليهم في معرفة وفهم أحكام الشرع وفق المذهب المختار ، الذين أمرنا بالرجوع
إليهم وطاعتهم في شؤون ديننا كما تقدم.
وهذا
الجانب – أعني المرجعية الدينية العلمية
– متوفر في جزائرنا والحمد لله ، فعندنا علماء وأساتذة وأئمة مؤهلين ناشطين في
الزوايا والمساجد والمعاهد الدينية والجامعات الإسلامية ... الزاخرة بالكفاءة العلمية
، المؤهلة لصون المرجعية وتطويرها وشرح عناصرها والذود عن حياضها.
أما الشق
المؤسساتي : فنعني به المرجعية الدينية
المؤسساتية ، المتمثلة في المؤسسة
الإدارية الشرعية التي توفر الدعم المادي
والمعنوي للكفاءات العلمية المؤهلة ، وتنظم جمعها تحت سقف واحد مكفولة حمايته
دستورا ؛ حتى تتمكن من أداء مهامها في أحسن الأحوال ، وتكون لها وسائلها الإعلامية
الخاصة بها ، التي تمكنها من بث أفكارها ، وإيصال صوتها للناس.
وهذا
الشق لا يزال ضعيفا في بلادنا للأسف الشديد ، على الرغم من
أهميته لا سيما في هذه المرحلة الحاسمة ، فهو يعتبر ضرورة شرعية ،
تفرضها علينا العولمة وتحديات المرحلة ، فالجزائر لحد الساعة ليس لها مفتٍ
للجمهورية ، ولا مجمع فقهي أو دار للإفتاء، ولا إمام مفتي على مستوى كل ولاية
كما كان مقترحا ... وإنما توجد مجالس علمية مؤلفة من بعض الأئمة ، غير أن دور هذه المجالس لا يزال ضعيفا في الواقع ، وكان
ينبغي أن يفعل دورها :
-
بحيث يكـــــــــــــــون
لها دورات تعليمية وثقافية
-
ومنشورات شهـــرية تتضمن نشاطاتها المختلفة
-
ومتابعة لسير
الإفتاء على مستوى مساجد الولاية
-
والأهــــم من
ذلك أن تكون لها ومواقع الكترونية.
فكم هو مؤسف أن تبحث اليوم عن مسألة في الانترنت فتخرج لك
فيها عشرات العناوين من مواقع مختلفة كلها على المذهب الحنبلي - مما يعني أن القوم قد خدموا مرجعيتهم - بينما لا تكاد تجد
فيها عنوانا واحدا على المذهب المالكي ، فكيف فرطنا في مذهبنا إلى هذا الحد !! ثم
كيف يمكننا الحفاظ على مرجعيتنا ، ومذهبنا لا يزال مدفونا في بطون
المصنفات ، ونحن في زمن السرعة والاختصار !!فلا ينبغي أن نتخلف عن المرحلة
، لأننا إن تركنا الكأس فارغا ملأه الهواء.
ونتيجة
لهذا التفريط نجد أن كثيرا من شبابنا اليوم قد زلّت أقدامهم ، وسقطوا في أوحال
الغلو والتكفير والتبديع، والتنكر لموروثاتهم الفكرية والثقافية .. أحيانا تجد بعض
الشباب في مساجدنا يتوب حديثا ، فيصلي عدد أيام ، فإذا هو يجلس للاستراحة ويشير
بيديه للكوع والسجود والرفع منهما ، ثم
سرعان ما يتحول إلى كائن مرعب ، في هيئته وحركاته ونظراته ومناصبة العداء لإخوانه
؛ لأنه فهم من العناصر التي تصيدته على حين غفلة ، ومن شبكة الانترنت الخاوية من
مفردات مرجعيتنا ، فهم من ذلك أن الدين هو هذا ؟؟
فماذا قدمنا نحن لحماية أبنائنا
من هذه المنزلقات ، بل – وللأسف – يوجد حتى في موظفي مساجدنا من يعمل ضد المرجعية
الوطنية ، وقد قف أحد أئمتنا على المنبر وخاطب الناس قائلا : " من
أخرج زكاة الفطر نقودا فإني بريئ منه". وكأنه يضع نفسه في مقام الشارع ! وآخر يفتي بسقوط الجمعة يوم العيد ، وثالث بحرمة
الاحتفال بالمولد وهكذا .. فكيف يمكن حفظ المرجعية الدينية في ظل هذه الفوضى ؟
وماذا لو حدث مثل هذا في السعودية أفكان يسمح به ويسكت عنه ؟ فإن الألباني الذي
فتحت له الجماعات والمعاهد السعودية يتنقل بينها ؛ مدرسا ومحدثا ومفتيا ، لما
انتقد تدريس متن " زاد المستقنع في اختصار المقنع" في الفقه
الحنبلي ، سفرته السعودية ومنعته من دخولها حتى توفاه الله رحمه الله ، لماذا ؟
لأنهم شعروا بتهديده لمرجعيتهم الدينية ، فلماذا يحمي الآخرون مرجعياتهم بينما نسمح نحن بثلم مرجعيتنا من داخلها ؟ أو ليس "المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة " كما هو مقرر في الفقه الإسلامي.
المطلب
السادس: المناوئون لمرجعية الجزائر وعلاقتهم
بمنهج السلف
تقدم أن
المرجعية في الجزائر مهددة من قبل الأثريين أو السلفيين أو الوهابيين ، ومن أهم
التلبيسات التي يغلطون بها عامة الناس ، ادعاؤهم بأنهم على منهج السلف الصالح ،
الذين أمرنا بالاقتداء بهم ، وترك ما لم يفعلوه ؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه
كما يقولون .
ونحن لا نتحاج
في ترسيخ مرجعيتنا إلى ثلم مرجعيات الآخرين أو تسفيه مناهجهم ، ولكن ينبغي أن ننبه إلى أن مصطلح (السلف)
قد طاله ظلم وتزوير ، وتشويه وتحريف ، من هذه
التيارات الفكرية التي ليس لها مرجعيات مذهبية أصيلة ، فهي كالنبات الشيطاني الذي
ينبت دون حرث ولا سقي ولا تعهد ... فكان لا بد من العمل على تبرئة هذا المنهج مما لحقه من تشويههم وتحريفهم
له ؛ لئلا ينخدع العامة فيتوهموا أن المذاهب الفقهية خارجة عن منهج السلف.
فمصطلح
(السلف) يطلق على أمرين: أحدهما
: السلف زمنا : والثاني : السلف اتباعا.
أما
الأول: فقد اختلف في تحديد زمنهم على اربعة أقوال:
- 1 فقيل
هم الصحابة فقط وإليه ذهب شراح الرسالة لأبي زيد القيرواني
- 2 وقيل
هم الصحابة والتابعون وهو اختيار أبي حامد الغزالي
.
-3 وقيل
هم الصحابة والتابعون وتابعوهم أي اصحاب القرون الثلاثة المفضلة التي ورد فيها الحديث:
" خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ..
".
وهو اختيار الشوكاني .
والسفاريني
. وابن تيمية
- 4وقيل هم من كان
في القرون الخمسة الأولى ، وهو اختيار البيجوري في شرح الجوهرة
.
وأما
الإطلاق الثاني: وهو السلف اتباعا.
فيراد به التمسك
بالقرآن والسنة والتحلي بأخلاقهما على ضوء ما فهمه سلف هذه
الأمة من الصحب الكرام الذين عايشوا التنزيل ، وفقهوا أسرار التشريع ، والسلف بهذا المفهوم لا
يرغب مسلم عن الانتساب إليه ، كما لا يصح أن تحتكره مجموعة معينة ، أو تستأثر به
من دون المسلمين ؛ فمن تمسك بالقرآن والسنة وتحلى بأخلاقهما .. واقتدى بما كان عليه سلف هذه الأمة من فهم للشريعة ومقاصدها ومراميها
.. وما كانوا عليه من اعتقاد واتباع .. وأخلاق وآداب ..فهو سلفي اتباعا : سواء كان
حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا أو ظاهريا
، وكل أولاء تجمعهم رابطة واحدة هي : "
انما المؤمنون اخوة
."
ويمتاز منهج
السلف بميزات عديدة ، وبما أن الموضوع لا يسعه المقام هاهنا ، فإني اكتفي بذكر بعضها
؛ لنرى إن كان مناوئوا المرجعية الدينية في الجزائر حقا على منهج السلف ، أم أنهم
على نقيضه؟
الميزة الأولى لمنهج السلف: سلامة الصدور والألسن تجاه العلماء خاصة والمسلمين عامة
على نحو ما ذكره
الله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ
فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم".
وقوله تعالى: "يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ."هذا منهج السلف
تجاه إخوانهم المسلمين عامة .. والعلماء خاصة الذين قال فيهم الطحاوي رحمه الله
تعالى:
"ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل". أما هؤلاء فيشترطون – حسب القواعد التي وضعوها - أن يكون القلب
مشحونا بكل ألوان الحقد والكراهية لكل المخالفين، ويعتبرون سلامة القلب وصفاءه
بدعة وانحرافا عن الدين .. والغيبة التي حرمها الله ، واعتبر المغتاب كمن يأكل لحم
أخيه ميتا ، حولوها إلى غيبة في الله .. فلا تصلح مجالسهم إلا بها ، ولا تشحن منشوراتهم
إلا بها .. والعلماء الذين أمر الله بإجلالهم قننوا الطعن فيهم تحت مسمى ( الجرح والتعديل) ، وهذا
المسلك يتنزه عنه منهج السلف تنزها كبيرا.
الميزة الثانية لمنهج السلف: احترام المخالف وإنصافه
من منهح السلف
احترام المخالف وإجلاله ، ومحبته وإنصافه ، والثناء عليه بما هو أهله ، وما كان
خلاف ذلك فلس بمنهج سلفٍ وإن زعم أصحابه أنه كذلك ، فقد اختلف عمر وابن مسعود رضي
الله عنهما في نحو مائة مسألة ذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين
، وعلى الرغم من
ذلك الاختلاف كان الاحترام سائدا بينهما ، والمودة قائمة بينهما في أعلى صورها .فيقول عمر بن
الخطاب عن ابن مسعود: "كنيف ملئ فقهاً أو علماً؛ آثرت به أهل القادسية".ويقول
ابن مسعود عن عمر: "كان للإسلام حصناً حصيناً؛ يدخل الناس فيه ولا يخرجون،
فلما أصيب عمر انثلم الحصن".
كما اختلف ابن
عباس مع زيد ابن ثابت وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود في بعض المسائل ، وكان
ابن عباس يقول : وددت أن أبالهم – يعني مخالفيه - فنجعل لعنة الله على
الظالمين. وعلى الرغم من ذلك الخلاف
كان ابن عباس - على جلالة قدره - يتواضع ويأخذ بخطام ناقة زيد ويقول لزيد:"هكذا
أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا"
. وكان زيد يقبل يد ابن
عباس ويقول:
"هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم".
ذلك هو
منهج سلفنا الصالح ، فلم يصف أحد منهم مخالفه بأنه ضال ، أو مبتدع ، أو فاسق، أو
متبع للهوى ، وما هجر أحد منهم مخالفه ، كما هو الشأن عند هؤلاء الأثريين الذين
جعلوا منهج السلف منهجا عدائيا ، قائما على الطعن في المخالفين والتقرب ببغضهم إلى
الله تعالى ، و لا أزال أذكر عندما مات العلامة البوطي رحمه الله ، قال قائل من مخالفيه: " استراحت
البلاد والعباد من شره وضلالاته..وأن الفرح بموته مطلوب شرعا وتقتضيه
الفطرة" . فقارنوا أيها السادة بين
هذا السلوك المشين ، وبين سلوك السلف الماضين ؛ لتروا براءة منهجهم من أولاء
المنتسبين إليه.
الميزة الثالثة لمنهج السلف: عدم ادعاء امتلاك الحقيقة
المطلقة
فليس من منهج
السلف التعصب لرأي فقهي وإلغاء ما سواه .. بل ليس من أخلاق السلف أن تتمسك بالآراء الاجتهادية في حضرة عالم يرى
خلافها .. أو في بلد له مذهب أو مرجعية
فقهية تخالف ما لديك من الآراء الاجتهادية.
فقد روي عَن الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه زار الإِمَام أَبَا حنيفَة
بِبَغْدَاد قَال: " فأدركتني صَلَاة
الصُّبْح وَأَنا عِنْد ضريحه فَصليت الصُّبْح وَلم أَجْهَر بالبسملة ولا قنت
حَيَاء من أبي حنيفَة".
ولما كتب الإمام
مالك الموطأ أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس جميعاً عليه، فأبى مالك – رحمه
الله – وقال : "يا أمير
المؤمنين أن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، ومع كل منهم علم ، فدع الناس
وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم".
فانظر إلى فقه
الشافعي في الدين كيف دفعه إلى ترك آرائه الاجتهادية بحضرة عالم ميت يخالفه فيها
.. فكيف لو كان ذلك العالم حيا ؟ وانظر الى فقه مالك في الدين كيف دفعه إلى أن
يرفض حمل الناس على موطئه الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة ، وأقوى ما حفظ
وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة .. ومع ذلك لم يدع امتلاك الحقيقة
المطلقة ، ولم يقل للمخالفين ما أريكم إلا ما أرى ، كما يفعل هؤلاء الأثريون
؟ وأين هم من فقه الإمامين الجليلين ؛ ليحملوا
الناس على ترك مذاهبهم ومرجعياتهم الفقهية التي ساروا عليها قرونا من الدهر ..
وتوارثوها عن فقهائهم جيلا من بعد جيل ؟؟
المطلب
السابع: أهمية المرجعية الدينية ودورها في المحافظة على الوحدة والتماسك
وفي ختام هذه
المحاضرة ننبه إلى أهمية المرجعية الدينية ودورها في الحفاظ على وحدة الوطن وتماسك
المجتمع، تعلمون – أيها السادة الأئمة - أن
الأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة عسيرة ، قد تعددت وتداخلت مخاطرها، وأمام هذه المخاطر الواقعة أو المتو قعة ، وجب علينا أن نتحلى بالوعي واليقضة
والحذر ، وأن نتهيأ للمحافظة على وطننا ، فهو بيتنا وفيه مستقرنا
وإليه مأوانا ، و فيه نبتنا وعلى حبه ثبتنا ، ومن نباته غذينا وفي سبيله أوذينا ،
وقد فديناه بمليون ونصف من الشهداء أو يزيدون.
من أهم ما يجب
أن نعمل على تحقيقه في هذه الظروف الصعبة ، أن نعمل على ترسيخ الوحدة الوطنية ، فهي الأساس في
المحافظة على قدرات الأمة و بنائها ، وهي السبيل إلى تمكينها من الوقوف في وجه أي خطر
محتمل.
ولن
تتحقق تلك الوحَدة في كيان أمتنا ونسيج مجتمعنا ، إلا بوجود مرجعية دينية موحدة ، والتي
تتجلى أهميتها في جوانب عدة نذكر منها أربعة:
أحدها
: أن المرجعية تعني وجود ديوان أو هيئة أو مؤسسة تجمع
تحت سقفها فقهاء مؤهلين للإفتاء ، عارفين بالأصول الكلية التي قام عليها بنيان
التشريع الإسلامي ، خبراء بالموازنة بين المصالح والمفاسد الناجمة عن الإفتاء ، فيتخيرون من الأحكام ما كان أكثر ملائمة
لأهداف الشريعة وأساليبها في رعاية مصالح الخلق ، مما يجعل تلك المرجعية درعا واقيا للأمة من ذرائع التفكك والشقاق ، وأداةً لجمع كلمتها وتوحيد صفوفها.
والثاني: أن المرجعية
الدينية تعمل على توحيد الفتوى وضبطها وتنظيمها ، وتسد الأبواب أمام المتقولين في
الشرع بغير علم ، وتقطع الطريق أمام
مُروّجي الفتاوى الشاذة ، التي تفضي في
غالب الأحوال الإخلال بمرجعية الأمة وفصم وحدتها
وتمزيق صفوفها ، وقد رأينا كم تربت من
ويلات على الفتاوى المستوردة التي لا تنتمي إلى مرجعية أصيلة ، والتي لا تزال
الكثير من المجتمعات الشقيقة تدفع ثمنها إلى اليوم !!
والثالث
: أن المرجعية الدينية تشكل مصدر قوة وتوحيد
وتكامل لتماسك الجزائريين ، بجميع
مكوناتهم وأطيافهم واتجاهاتهم السياسية .. وتعمل على ترسيخ فكرة انتساب الفرد إلى شعبه ووطنه
، من خلال الروابط المشتركة التي تجمعه مع غيره من أبناء وطنه.
والرابع: أن المرجعية الدينية
تعتبر بمنزلة القاعدة المتفق عليها ، والتي يرجع إليها في حسم الأمور المتنازع
فيها ، في أي مجال من المجالات ، مثلما رأينا في الآونة الأخيرة من تضارب الفتاوى في
بعض المسائل ، كبيع الحيوان وزنا وكالاشتراك في ثمن الأضحية إذا كانت من البقر أو
الإبل ... ومن ذلك أيضا حذف البسملة من الكتاب المدرسي ، وما أشبه ذلك مما أثير
حوله جدول كبير ، فكان لا بد من مرجعية دينية لها الكلمة العليا للفصل والحسم في
مثل هذه القضايا المتنازع فيها ، حفظا لتراث الأمة وثوابتها ووحدتها واستقرارها
...
والخلاصة : أن المرجعية
الدينية ضرورة حتمية ، وقد كان لها - عبر التاريخ - دور عظيم في حفظ وحدة
الأمة وتماسكها ، وينبغي للسادة الأئمة أن يكونوا خير خلف لخير سلف ؛ فيعملوا على
ترسيخ هذه المرجعية في المجتمع الجزائري ، فإن الأمة قد إئتمنتهم عليها " فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ".
وعليهم أن يمثلوها أحسن تمثيل ، بفقههم وسلوكهم ، وحتى في هندامهم ولباسهم
المغاربي المعهود الذي يدل على اعتزازهم بانتمائهم الحضاري.
وعلى الوزارة –
والدولة عموما - أن تفعل دور هذه المرجعية في شكل مؤسساتي ؛
ليرتقي إلى مستوى مواجهة التحديات المعاصرة، حتى تبقى جزائرنا محفوظةً
في وحدتها وتماسكها ، وفي تراثِها الفقهي والعقدي والسلوكي .
والحمد لله رب العالمين