......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الثلاثاء، 18 أبريل 2017

موانع الأخذ بظواهر نصوص السنة النبوية فقها وتنزيلا

الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
وزارة الشؤون  الدينية والأوقاف
مديرية الشؤون  الدينية والأوقاف
لــولاية ميلة
محاضـرة بعنوان:

موانع الأخذ بظواهر  نصوص السنة النبوية فقها وتنزيلا


إعداد: العيد بن زطة

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وآله وصحبه الشرفاء ، اللهم اشرح صدورنا ، وافتح ختم قلوبنا ، وأنر اللهم  بصائرنا ،  وأجرنا من غوائل أنفسنا ، حتى نبصر الحق فنتبعه ، وينكشف لنا الباطل فنجتنبه.
أيها السادة  الحضور الكرام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد/ فقد أخرج الإمام البهيقي في السنن الكبرى عن عبد الرحمن الْعُذْرِيِّ  قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله , ينفون عنه تحريف الغالين , وانتحال المبطلين , وتأويل الجاهلين"[1] . هذا الحديث الشريف تضمن الإشارة إلى قضتين متدافعتين :
-    أولاهما : أنه لا يخلو زمان من أدعياء العلم ، الذين يضعون نصوص الشرع في غير مواضعها ، أو يفسرونها  حسب أهوائهم ،  أو  يحملونها ما لا تحتمل  من المعاني.
-    والثانية : أن الله تعالى يقيض دائما وأبدا أئمة عدولا لصون شريعته من عبث المتلاعبين بها ، أوالمتقولين فيها بالهوى والتشهي.
ومن أبرز المنزقات التي كثيرا ما يقع فيها معشر الغلاة - المشار إليهم في هذا الحديث - وقوفهم عند ظاهرالنص النبوي ،  واكتفاؤهم بثوبته ثبوتا صحيحا  ، دون الالتفات إلى معانيه وعلله ومقاصده ، ودون التنقيب عما قد يعتريه من ملابسات ، وهذا المسلك مصادم لمناهج الاستدلال الشرعي المقررة لدى أرباب الأصول ؛ لأن النص النبوي قد يكون عاما وهناك ما يخصصه ، وقد يكون مطلقا وهناك ما يقيده ، وقد يكون منسوخا ، وقد يكون معارضا بما هو أقوى منه ، وقد يكون قضية عين لا  تتعدى إلى غير صورتها ولا يقاس عليها غيرها ، وقد يكون واردا في مقام دون مقام ، وقد يكون مشتملا على الفاظ مشتركة  تحتمل أكثرمن معنى ... وما إلى ذلك من الملابسات التي قد تعتري النص النبوي.
لذلك كان الوقوف عند حرفية النص والاكتفاء بظاهره  مدعاة للوقوع في الزلل ، والسقوط في أوحال التشدد والتنطع ، والخروج عن مقاصد الشرع ، ويقابل هذا الإتجاه اتجاه آخر ، وهو ذلك الإتجاه الذي أفرط أصحابه في الأخذ بالرأي ومراعاة المعاني ، حتى قدموها على ظواهر النصوص بإطلاق ، وكلا الاتجاهين غير سليم ، ولو دققنا النظر في ما جرى  في تاريخ الأمة الاسلامية من خلافات مذمومة ،  لوجدناها عائدة  - في الغالب - إما إلى الإفراط في  الأخذ بالظاهر ، وإما إلى إهمال الظاهر والإسراف في إعمال الرأي والقياس   ،  والشريعة المعظمة مبرأة من تحريفات وتأويلات  الطرفين المتناقضين ، فهي جارية على الطريق الوسط الآخذ من الطرفين بقسط لا إفراط فيه و لا تفريط ، ومن القواعد التي قررها الشاطبي في موافقاته:" العمل بالظواهر عَلَى تَتَبُّعٍ وتغالٍ بَعِيدٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وإِهْمَالَهَا إِسْرَافٌ"[2].
و سنكشف في هذه المحاضرة  بإيجاز عن أهم المواضع التي يتعين العدول فيها عن الأخذ بظاهر النص النبوي، وقد قسمتها الى ثلاثة مطالب حسب ما تقتضيه طبيعة الموضوع:
المطلب الأول: التعريف بالظاهر وحكم العمل به
المطلب الثاني: نشأة الإفراط في الأخذ بالظاهر وبعض آثارها السلبية
المطلب الثالث: موانع الأخذ بظواهر النصوص النبوية وبعض تطبيقاتها الفقهية
المحاضرة  طويلة  جدا ، نظرا لطبيعة موضوعها ، الذي يتطلب تأصيلا  وتفصيلا ، لكني سأختصرها اختصارا لا  يخل ببيان الحقائق المراد إيضاحها.

المطلب الأول : التعريف بالظاهر وحكم العمل به

أولا : التعريف بالظاهر
يقسم علماء الأصول الألفاظ الواضحة الدلالة على معانيها  إلى أربعة أقسام ، فأشدها وضوحا المحكم  ثم يليه المفسر ثم يليه النص ثم يليه الظاهر ، فالظاهر أضعف هذه الأقسام من حيث دلالة اللفظ  على المعنى.
والظاهر في اللغة : خِلَافُ الْبَاطِنِ ، وَهُوَ "الْوَاضِحُ البين الْمُنْكَشِفُ "وَمِنْهُ ظَهَرَ الْأَمْرُ: إذَا اتَّضَحَ وَانْكَشَفَ[3].
وأما الظاهر في اصطلاح الأصوليين : فقد عرفوه بتعاريف متعددة ومتقاربة [4] ، والذي يؤخذ من تلك التعريفات أن الظاهر هو : ( اللفظ الذي يدل بنفسه على معناه دلالة راجحة ولكنه  يحتمل معنى آخر احتمالا مرجوحا وسمي  ظاهرا لأنه احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر) ، كما في كلمة (أسد) فإنها ظاهرة في دلالتها بنفسها على الحيوان المفترس المعروف ، ولكنها تحتمل معنى الرجل القوي الشجاع ، ودلالتها على الحيوان المفترس راجحة ، وعلى الرجل الشجاع مرجوحة ،  لكن أحيانا قد ينعكس الأمر لوجود قرينة ، فتصير دلالتها على الرجل الشجاع هي  الراجحة ، كما لو قلت : (رأيت أسدا صاعدا منبرا ويخطب  في الناس( ، فيضعف انصراف المعنى حينئذ إلى الحيوان المفترس المعروف لأجل هذا السياق ؛ والذين يقفون عند ظواهر النصوص ، ولا يلتفون إلى  معانيها ، شأنهم  كشان من يفسرهذا بأنه حيوان حقيقي ...
ويقابل الظاهر المؤول وهو "حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ بِدَلِيلٍ يُصَيِّرُهُ رَاجِحًا"[5].    
أما إذا كان اللفظ لا يتضمن إلا معنى واحدا فلا يسمى ظاهرا ، وإنما يسمى نصا كقوله تعالى :" تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ"، إذ لا يفهم من من لفظ عشرة إلا  معنى واحدا ، وإلى ذلك  أشار إبراهيم العلوي الشنقيطي - في متن مراقي السعود – بقوله :
نص إذا أفاد ما لا يَحتمل     غيرا وظاهر إن الغير احتُمل
يعني أن اللفظ  إذا كان لا يحتمل إلا معنى واحدا فهو نص ،  وإن احتمل معنى آخر فهو ظاهر ، ثم اذا استعملنا هذا الظاهر في المعنى غير المتبادر إلى الأذهان فهو مؤول حينئذ كما تقدم.
ثانيا : حكم العمل بالظاهر
لا خلاف بين أهل العلم في وجوب العمل بالظاهر ما لم يقم دليل يصرفه عن ظاهره ،  لأن الأصل  عدم صرف اللفظ عن  ظاهره  إلا بدليل صحيح يقتضي ذلك ، أي يقتضي تأويله ، كأن يخصص إن كان عماما أو قيد إن كان مطلقا ،  أو يحمل على المجاز لا على الحقيقة ، أو يحمل  الأمر على  الندب لا  الإيجاب ، أو يحمل  النهي على التنزيه لا التحريم ، وما إلى ذلك من أنواع التأويل. 
ونكتفي بمثال واحد في هذا المقام : وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"[6]. فصيغة النهي (لَا يَغْمِسْ)وإن كانت ظاهرة في إفادة التحريم ، إلا أنها محمولة على التنزيه في هذا الحديث ، والقرينة الصارفة عن التحريم  - هاهنا - هي التعليل بالأمر المقتضي للشك (فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) فهذا شك ، والشك لا يقتضي تحريما ولا إيجابا في هذا الحكم  ؛ استصحابا لأصل الطهارة كما  قال حجة الزمان ابن حجر  رحمة الله تعالى[7].
وبذلك يتجلى لنا أن العمل بظواهر النصوص أو صرفها عن ظواهرها ليس متاحا لكل من هب ودب من العوام ، وإنما هو من شأن  العلماء العارفين  بأساليب اللغة العربية ، الممكنين من فهم دلالات النصوص على أحكامها ، العالمين بطرق الاستناط وقواعده ، والمدركين لأسرار التشريع ومراميه ، حتى تكون أساليبهم في الاستنباط ملائمة لما عهدوه وتحققوه من أسلوب الشريعة في تشريعاتها للأحكام  ، ولهذا قال ابن الصلاح - في أدب المفتي والمستفتي - :"إثبات الأحكام بالأحاديث أو غيرها مفوض إلى العلماء الأئمة العارفين بوجوه الدلالات وشروط الأدلة"[8]

المطلب الثاني: نشأة الإفراط في الأخذ بالظاهر وبعض آثارها السلبية

تعود نشأة الغلو في الأخذ بالظاهر إلى القرن الثالث ، على يد  داود الظاهري البغدادي [270 هـ = 884م] الذي أنكر القياس وتعليل الأحكام ، وأفرط في الأخذ بظواهر النصوص ، وقد كان من جهابذة العلماء ، إلا أن الأمة – خاصة وعامة – لم تتلق مذهبه هذا بالقبول ، فبقي خافتا منحصرا  في أوساط محدودة ، حتى جاء ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس الهجري ، فأحيا هذا المذهب من جديد ، وأعاد إليه اعتباره.
وعلى الرغم من أن أرباب هذه المدرسة كانوا على علم غزير، إلا  أن  العلماء انتقدوا مذهبهم بشدة   ،  واعتبروه بدعة في الدين ، كما قال  الإمام الشاطبي:" وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ.."[9]. وقال  االإمام النووي:" الأصح أنه لا يعتد بخلافه -  يعني داود الظاهري -  ولا بخلاف غيره من أهل الظاهر، لأنهم نفوا القياس، وشرط المجتهد أن يكون عارفاً بالقياس"[10].
ثم بعد المذهب الظاهري – وفي العصور المتأخرة - برزت الطوائف السلفية الداعية إلى نبذ الرأي ورفض التأويل ، والاكتفاء بأخذ  الأحكام الشرعية  من  ظواهر النصوص ، دون الالتفات إلى معانيها  وعللها  ومقاصدها ، ولكن هناك فرق دقيق بين الظاهرية القدامى  ، وبين هذه الطوائف التي سماها بعض أهل العلم بالظاهرية الجدد [11]، والفرق بينهما – حسب علمي - من ناحيتين:
1- أن هؤلاء ليس لهم فقه الظاهرية فأحسنهم حالا من  طالع بعض الصفحات ، أو قرأ بعض المطويات ، أو  استمع إلى بعض الدروس والمحاضرات ، اما القواعد اللغوية والفقهية والأصولية والمقاصدية ، ومناهج الاستدلال الشرعي ، وتعدد مدارك الفقهاء .. فبينه وبينها حجاب وحجاب .. ولو قرأها ما فهمها ،  لأنه  لا يملك  مفاتيح فهمها ،   فلكل علم مصطلحاته التي لا يفهمها إلا أهله المتخصصون  فيه.
2- أن هؤلاء المتظهرين بغير فقه قد مزجوا بين آراء الظاهرية الجامدة ، وبين آراء الخوارج التي تبيح دماء المسلمين ... وأضافوا  إلى هذا المزيج اعتبار  المخالفين في الرأي مبتدعين يجب هجرهم والتحذير منهم والتقرب  ببغضهم إلى الله ، بل أفتى أحد شيوخهم المرجعيين بحرمة النظر في الكتب ألفها المبتدعون  والضالون وأنه لا يجوز الاستشهاد بأقوالهم ولوكانت حقا ، ويذكر في ذات السياق أن من جملة هؤلاء الضالين الأشاعرة[12] وهذا أمر في غاية  الخطورة ؛ لأن معظم العلماء الذين بينوا خطاب الشريعة وشرحوا معانيها وأرسوا  أصولها وقواعددها وكشفوا عن مقاصدها .. كانوا من الأشاعرة ،  وبالطعن فيهم تلتقي هذه الطوائف االمتظهرة مع الشيعة في حقيقة واحدة وغاية واحدة ، وهي الطعن في الشريعة المعظمة ذاتها ، فالشيعة طعنوا في نقلتها من الصحابة ، وهؤلاء طعنوا في شراحها ومبنيها من العلماء ، إذن: فمن أين ناخذ شريعة !!  وهذا المسلك تتنزه عنه المدرسة الظاهرية تنزها كبيرا.
  وقد كان  من أهم الآثار السلبية الناجمة عن الغلو و الإفراط في الأخذ بالظاهر:
1- خرق إجماع الأمة
2- مناقضة مقاصد الشرع
3- الخروج عن أساليب اللسان االعربي
4- الوقوع  في أوحال التشدد والتنطع
5-  الوقوع في التشبيه  والتجسيم بالنسبة لصفات الله  تعالى
6-   توزيع جهود الأمة وشغلها بالجزئيات عن الكليات وتشكيكها في تراثها
طبعا  أن لكل عنصر من  هذه العناصر  أمثلته ودلائله الواقعية  ، غير أن الوقت لا يتسع لعرضها  ، لذلك نتجاوزها وننتقل  إلى  المطلب الثالث والأخير  وهو:

المطلب الثالث: موانع الأخذ بظواهر النصوص النبوية وتطبقاتها االفقهية
لقد تبين لنا في ما تقدم أن العمل بالظاهر واجب ، وهذا لا خلاف فيه ، لكنه ليس على إطلاقه  ، بل هو مقيد  بألا يقوم دليل معتبر يصرفه عن ظاهره ، ولهذا ينبغي  للناظر  في المسائل الاجتهادية أ ن  يراعي ذلك عند انتزاعه  للأحكام  من ظواهرلأدلة ؛ لئلا ينزل الأدلة الشرعية على غير ما يناسبها  من الوقائع والمسائل ... و حتى لا  يبتر الأحكام الشرعية عن غايتاها ، أو يتـخذها وسيلة لتحقـيق غرض ينافي غرض الشارع فيما رسـم لها مـن غاية أو مصلحة ، ولذك قال الشاطبي: "لا بد من الالتفات إلى معاني الأمر لا إلى مجرده" [13] . وقال القرافي:" وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ"[14].
أيها السادة  : موانع الأخذ بالظاهر - التي يتعين الالتفات إليها ومراعاتها -  أهمها سبعة:
المانع الأول:  أن يكون منسوخا
فإذا ثبت نسخه تعين  العدول عن الاستدلال به ، كما في حديث  أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"[15]
فظاهر الحديث يقتضي قتل من شرب الخمر في الرابعة ، ولكن  جمهور الفقهاء عدلوا عن الاستدلال بهذا الظاهر ، وقالوا أن الأمر بقتله منسوخ بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه "أتي برجل سكران في الرابعة فخلى سبيله"[16].
وفقد حكى الترمذي في سننه[17]  والنووي في شرحه لصحيح مسلم [18] . والمنذري فيما نقله عنه العظيم آبادي في عون المعبود[19] .. حكوا الإجماع  على هذا النسخ ،  وشذ محمد بن حزم عن هذا فقال في المحلى[20] بوجوب قتله إذا شرب في الرابعة عملا بظاهر الحديث ، وقد نص ابن  المنذر على أن  خلافه هذا لا يعد خلافا أي لا اعتبار  له[21].
المانع الثاني:  أن ينعقد الإجماع على  خلافه
فإذا انعقد الإجماع على خلاف الظاهر فلا يصح الاحتجاج  به ، ومن أمثلة ذلك قوله  عليه الصلاة والسلام:  "من أحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نَارٍ، فَلْيَجْعَلْ لَهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ، فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نَارٍ، فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا"[22].
فظاهر الحديث يفيد تحريم  الذهب على الذكور والإناث ، ولكن الفقهاء أجمعوا على إباحة الذهب للنساء مطلقا، أي محلقا كان أو غير محلق ، عملا بالأخبار الواردة في إباحته للنساء  ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها"[23] .
 قال النووي في المجموع: "أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لَبْسُ أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعا كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والدمالج والقلائد والمخانق وكل ما يتخذ في العنق وغيره وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا "[24].
وشذ الألباني عن هذا الإجماع فوقف عند ظاهر هذا النص وقال في كتابه (آداب الزِفاف) :"واعلم أن النساء يشتركن مع الرجال في تحريم خاتم الذهب عليهن ومثله السوار والطوق من الذهب"[25]. ولكن خلافه هذا يعتبر لغوا من  القول لا عبرة به في مقابلة إجماع الأمة سلفا وخلفا.
المانع الثالث  : أن يكون عاما مخصصا
كحديث : ".... وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "[26]. فقد وقف  قوم عند ظاهره  وقالوا أن " كل" من ألفاظ  العموم ؛ ومن ثم  فكل امر محدث لم يكن في الصدر الأول فهو  بدعة ضلالة تستوجب النار ، أما الراسخون في العلم فلم يقفوا عند هذا الظاهر ، وقالوا هو  عموم مخصص بأن تكون المحدثة مناقضة لأصول الشريعة وقواعدها ، واحتجوا بأدلة منها [27]:
1- " من أحدث في أمرنا  هذا ما  ليس منه فهو رد"[28]  وجه الاستدلال: أنه إذا كان من أحدث في الدين ما  ليس منه فهو رد ، فبالمفهوم المخالف من أحدث فيه   ما هو منه - موافق لأدلته وقواعده  - فهو لس برد ، يعنى هو مقبول غير مردود.
2- حديث مسلم  " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ ..." وجه الاستدلال: أن الأمر المحدث إن كان حسنا فهو مقبول ، وإن كان قبيحا فهو ممنوع؛ والقبيح هو ما ناقض أصلا من أصول الشريعة ، والحسن ما وافقها.
وهذه الحقيقة لا خلاف فيها بين العلماء ، ونصوصهم في تقريرها لا حصر لها ،  نذكر منها:
قال ابن حجر في [فتح الباري13/ 254]   :"وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مَا أُحْدِث وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ بِطَرِيقٍ خَاصٍّ وَلَا عَام".
قال ابن تيمية :  " المحافظة على عموم كل بدعة ضلالة مُتَعَيِّنٌ ....... وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين ، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة ...وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح"[29].
وقال الشاطبي : " .... من حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ قَوَاعِدِه ... "[30]. بالتالي فقوله  صلى الله عليه وسلم:  " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"  لفظه عام ومعناه  مخصص ، فيكون تقديره  على النحو الآتي: " كل محدثة مخالفة لأدلة الشرع فهي بدعة ضلالة" ، وبالكشف عن هذه الحقيقة  ييتجلى لنا المنزلق  الخطير  الذي وقع فيه بعض المتظهرين ، حينما وقفوا  عند ظاهر النص ثم شرعوا يبدعون المسلمين المحتفلين بالمولد او  القارئين للقرآن جماعة  أو  المدرسين يوم الجمعة أو المادين أيديهم للدعاء والتضرع ...فكان شأنهم كمن يقرأ "والعصر إن الانسان لفي خسر" ويقف عند هذا الحد فيحكم بالخسران على  الناس جميعا.
المانع الرابع: أن يكون مطلقا مقيدا

كما حديث مسلم: " ما أسفل الكعبين في النار"[31]. فقد وقف  قوم عند ظاهره  وقالوا بتحريم تسبيل الإزار مطلقا ؛ أي سواء قصد المسبل الخيلاء (الكبر والعجب) أو لم يقصد ، أما عامة الفقهاء فذهبوا إلى أن التحريم مقيد بالخيلاء ، كما فسرته الأحاديث الأخرى كقوله صلى الله  عليه  وسلم:من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه .." [32].  وقوله صلى الله  عليه  وسلم:"لا ينظر الله يوم القيامة الى من جر إزاره بطرا"[33] أي تكبرا. فعامة الفقهاء حملوا المطلق على المقيد في  هذه الأخبار، وقالوا أن الوعيد بالنار لا يشمل من أرخى ثوبه حتى تجاوز كعبيه من غير خيلاء ولا تكبر[34].

وعارض ابن  عثيمين فقال لا حمل  للمطلق على المقيد في  هذه المسألة  ، واحتج لذلك  بأن العملتين مختلفتان والعقوبتين  مختلفتان ، ومتى  اختلف الحكم  والسبب  امنتع  حمل المطلق على المقيد ؛  لما يلزم  عن ذلك من التناقض[35].
ولكنه أخطأ في هذا التوجيه ؛  لأننا  عند التحقيق نجد  أن السبب  واحد وهو جر الثوب ،  وأن الحكم واحد  وهو  العقوبة ، وتنوع العقوبة لا يدل على  تناقضها ،  والشيء الوحيد الذي يختلف  إنما هو قصد المكلف  ، ولذلك  فالصحيح والراجح  ما ذهب إليه  عامة الفقهاء من  حمل المطلق  على المقيد ، وأن النهي عن التسبيل معلل بالخيلاء ، والدليل على ذلك أمور :
1- شدة العقوبة المترتبة على الإسبال تدل على خطورة المعصية ، وهذا لا ينطبق إلا على من فعله خيلاء وتكبرا.
2- كثرة الروايات التي جاءت مقيدة لحرمة الإسبال بالخيلاء.
3- أن المقام الذي ورد فيه النهي يدل على أن جر الثوب في ذلك الزمن كان علامة على الفخر والتكبر ، بدليل جاء في رواية أبي داود :"وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة"[36] فقوله:( من الْمَخِيلَة) ، يدل على واقع الناس في تلك الفترة ، أي أن اغلبهم كانوا يفعلون ذلك خيلاء ، فنهي الصحابة عن التسبيل لئلا يتشبهوا بالمتكبرين فيساء بهم الظن ، ومما يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم - لابي بكر وقد كان يرخي ثوبه - " لستَ ممن يصنعه خيلاء" [37].
وبالكشف عن هذه الحقيقة يتجلى لنا المنزلق الخطير الذي وقع فيه بعض الشباب المتظهرين بغير فقه حينما تمسكوا بظاهر احاديث النهي عن الإسبال ، فحرموا أنفسهم من زينة الله التي أخرج لعباده ، ثم حكموا على الملايين من المسلمين بأنهم في النار ؛ لأن سراويلهم أو أقمصتهم طويلة .. والأدهى من ذلك والأمر أن جعلوا تقصير القميص عنوانا أو دليلا مميزا للفرقة الناجية عن الفرق الهالكة والعياذ بالله.
وغفلوا عن أمر خطير وهو أن ما فوق الكعبين في النار إذا ما قصد به الاستعلاء والتكبر ، وأن من قصر قميصه خيلاء لا ينظر الله إليه ، لأن الوعيد الوارد له ارتباط بالنية والمقصد ، و(الأعمال بالنيات) ، و(الأمور بقاصدها(.
ولذلك قال الحكيم الترمذي : 320 هـ "وكان في بادئ الأمر رفع الإزار إلى نصف الساق تجنبا للخيلاء والمراءاة ، فلم يزل الناس في تبديل من سوء ضمائرهم حتى صار ذلك تصنعا ومراءاة ، فكان من شمر الإزار والقميص ممقوتا لسوء مراده"[38]  ثم ذكر بأن عمر بن عبد العزيز كان قميصه وجبته تضرب شراك نعليه.
المانع الخامس: أن يكون قضية عين
وهي الحادثة المتعلقة بشخص معين ، وهي غير واقعة الحال ؛  لأن واقعة  الحال قد تعم  الأحوال  المشابهة، بخلاف واقعة العين  فهي قاصرة على من وردت في شأنه ، فلا  يصح أن يقاس عليها غيرها . ومن أمثلتها حديث جابر قال:
"جاء سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ    فقال لَهُ يَاسُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ 
وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَركعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا"[39]  فهذا الخبر ثابت  ثبوتا صحيحا ، وظاهره يفيد مشروعيية تحية المسجد والإمام  يخطب، ولكن الفقهاء اختلفوا في الأخذ بهذا الظاهر ، فبه أخذ الشافعية والحنابلة  ، وقالوا باستحباب تحية المسجد اثناء الخطبتين على أن يتجوز فيهما[40]. أما المالكية والحنفية فلم  يأخذوا به وحملوه على أنه قضية عين ، المراد منها أن يرى الناس سوء حال  سُلَيْك الْغَطَفَانِي فيُواسونه ؛ ومن  القرائن القوية  الدالة  على ذلك  رواية الشافعي  التي جاء فيها أنه :"دخل المسجد بهيئة بذة ... ثم حث - صلى الله عليه وسلم-  الناس على الصدقة ، فألقوا ثيابا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل منها ثوبين" [41]. أما قوله صلى الله عليه  وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " فقد أجاب عنه المالكية  والحنفية بأنه كان قبل إيجاب الاستماع إلى الخطبتين ، فيكون منسوخا بقوله تعالى : "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" [42] . وهي قد نزلت في الخطبتين اتفاقا.
ثم اختلف الأحناف والمالكية في حكم التحية أثناء الخطاب ، فقالت الأحناف بكراهتها وقالت المالكية بحرمتها واحتجوا بالعديد من الادلة منها: حديث جابر :"أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله يخطب فجعل يتخطى الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس فقد أذيت وأنيت"[43] .  يعني تأخرت . ومحل الشاهد انه أمره بالجلوس ولم يأمره بالصلاة ، ولو كانت مطلوبة لأمره بها ،  وأيضا لو كان الأمر بالجلوس لضيق الوقت أو المكان لنبه عليه جابر راوي الحديث ؛ حتى يرفع  التعارض بين هذا الحديث وبين حديث سليك الغطفاني الذي رواه جابر نفسه[44].
والخلاصة : أن مذهب مالك أرجح للأسباب الأربعة الآتية :
1-  أن خطبة الجمعة واجبة باتفاق الفريقين ، والاستماع إليها واجب كذلك ، أما تحية المسجد فهي مستحبة ، والواجب أولى بأن يُشتغل بتحصيله ، تطبيقا للقاعدة الفقهية الأصولية المقصدية : "إذا تزاحمت مصلحتان روعي أولاهما اعتبارا". يعني أننا نهمل المصلحة الأدنى من أجل تحصيل المصلحة الأعلى ، ومصلحة الواجب(الاستماع) أعلى وأولى بالاعتبار من مصلحة المستحب (التحية)  .
2- أن من غايات خطاب الجمعة ومقاصده : تحصيل الاتعاظ والتذكير ، وهذا المقصد لا يتحقق مع الاشتغال بتحية المسجد.
3- ان حديث سليك الغطفاني الذي هو المعتمد الأقوى عند الشافعية قد ضعف الاحتجاج به لسببين: 
أولهما:  أنه معارض بحديث :"أجلس فقد أذيت وأنيت". والثاني: أنه توجد قرينة قوية تصرفه إلى أنه قضية عين كما تقدم .  ولذلك لا يصح الاستدلال بظاهره.
4- أن القول باستحباب تحية المسجد أثناء الخطبة تترتب  عليه مآلات محظورة - والنظر  إلى المآل معتبر مقصود  شرعا - منها: أنه  قد يتخذ ذريعة للتأخر عن التبكير لصلاة الجمعة ، وذلك مخالف للهدي النبوي ... ومنها وأيضا : أنه    قد يتخذ ذريعة إلى تخطي الرقاب لأجل الصلاة وهو منهي عنه.  ومنها وأيضا : أنه  قد يتخذ ذريعة إلى الإعراض عن الاستماع إلى الخطيب ، أو إحراجه والتشويش عليه ، والواقع شاهد على هذه الحقيقة  ، وتلك مسألة من الخطورة بمكان ، لأنها تعتبر مناقضة لقصد الشارع الذي شرع  التحية لأجل القربة ، فاتخذها هؤلاء ذريعة إلى  مشاقة الأئمة  ، ومن ناقض  قصده قصد الشارع بطل عمله ، بل استحال إلى معصية ، وعملا بقاعدة :"سد الذرائع" االمتفرعة عن اصل  اعتبار المآل يترجح قول المالكية بتحريم تحية المسجد أثناء الخطاب  ، ولو كان الشافعي في هذا الزمن الذي ساد فيه الجهل وفسدت فيه القصود لربما عدل عن قوله إلى قول مالك نظرا لهذه المآلات المحظورة.
المانع السادس: أن يثبت عمل الصحابة بخلافه
 ومن التطبيقات الواردة على ذلك : حديث مالك بن الحويرث الذي أخرجه البخاري في صحيحه  ، وفيه أن النبي صلى الله عليه سلم كان : "... إذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام"[45]. فهذا الحديث ثابت ثوتا صحيحا ، وظاهره يفيد مشروعية جلسة الاستراحة ، و قد أخذ بهذا الظاهر  الإمام الشافعي في المشهور من مذهبه ، والإمام أحمد في رواية عنه ، فقالوا باستحابها مطلقا ،  للمحتاج إليها ولغيره ، وقد أخذ متأخروا الحنابلة بهذا المذهب.
أما الإمام مالك والإمام أبو حنيفة فذهبا  إلى أنها مكروهة مطلقا  ، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد  ، وبه قال الثوري  وإسحاق . وقال الترمذي: " وعليه العمل عند أهل العلم"[46].  
والذي يهمنا في موضوعنا هذا ، أن الفقهاء الذين  تركوا الاحتجاج بظاهر هذا الخبر على الرغم من ثبوته ثبوتا صحيحا أنهم اعتمدوا على جملة من الدلائل منها: ثبوت عمل الصحابة بخلافه ، و من الآثار الواردة في ذلك:
1-      ما  أخرجه ابن أبي شيبة  في مسنده عن النعمان بن أبي عياش قال :" أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه سلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة والثالثة قام كما  هو ولم يجلس"[47].
2-      ما  أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الرَّحْمَنِ بْن يَزِيدَ قال:" رَمَقْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِي الصَّلَاةِ :  فَرَأَيْتُهُ يَنْهَضُ وَلَا يَجْلِسُ، قَالَ: يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ "[48].
3-             وقد روي مثل ذلك أيضا  عن وابن عمر وابن عباس وغيرهما[49].
 وترك الصحابة لجلسة الاستراحة يدل على علمهم بأن النبي صلى الله عليه سلم إنما فعلها  لعلة أي  لضعف أو كبر أو ثقل، وما كان كذلك  لا يكون تشريعا عاما ، ومن ثم فلا يصح الاحتجاج بظاهر  خبر مالك بن الحويرث على مشروعية هذه الجلسة مطلقا.
وقد سلك ابن القيم مسلكا وسطا في المسألة ، فقال أنها سنة لمن احتاج إليها لعلة من كبر أو مرض أو ثقل ونحوه[50] ... يعني أنها ليست سنة بإطلاق ، بل السنة عدم الإتيان بها ، فتكون مكروهة لغير عذر ، وأما من كان معذورا فيجوز له ما لا يجوز لغيره ، وهذا القول أقرب للرجحان للأسباب الآتية :
1-      أن سائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة ، وإنما ذكرت في حديث مالك بن الحويرث وحديث أبي حميد. فلو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائماً لذكرها كل واصف  لصلاته صلى الله عليه وسلم.
2-      ثبت يقينا أنه فعلها ، فيحمل هذا على أنه – صلى الله عليه وسلم -  إنما فعلها لعلة كما سبق ، ومما يؤيد هذا ترك الصحابة لها.
3-       أن هذا القول فيه جمع بين الأحاديث الثابتة ، ومن القواعد المقررة لدى أرباب الأصول: "إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما". ومما يعضد هذا الاختيار القاعدة المقصدية  - التي قررها الشاطبي في موافقاته - : "ما كان من المذاهب وسطا كان أخلق بالإتباع"[51] .
وننبه في الأخير إلى  مسألة هامة و هي:
إذا كان الإمام لا يجلس للاستراحة فلا يجوز للمأموم الذي ليس به علة أن يتخلف عن إمامه  بهذه الجلسة اتفاقا ، ولو كان يعتقد سنيتها ؛ لأن متابعة الإمام واجبة ، ولا يجوز الاشتغال بالمسنون عما هو واجب ، ولذلك فالذين يجلسون للاستراحة خلف الأئمة الذين لا يجلسونها قد يأثمون ؛ لتركهم واجبا مؤكدا ، وهو متابعة الإمام  ، وفعلهم هذا يدل على مدى جهلهم بالأحكام الشرعية ، كما يدل على جهلهم بما قرره علماؤهم الذين يتبعونهم ويقلدونهم ، كابن تيمية وابن عثيمين وابن باز وغيرهم  ، فهم وإن كانوا يقولون بسنية جلسة الاستراحة ، فإنهم لا يجيزونها خلف الإمام الذي لا يجلسها[52] .

المانع السابع : أن يخالف أصول الشريعة ومقاصدها
 ومن التطبيقات الواردة على ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير"[53].
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: " كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أَقِطٍ أو صاعاً من زبيب"[54].
فالخبران ثابتان ثبوتا صحيحا ، وظاهرهما يفيد أن  إخراج  القيمة المالية لا يجزئ مطلقا ، لأن الشارع حدد ما يخرج في زكاة الفطر  جنسا وقدرا ، والعمل بالظاهر واجب اتفاقا كما أسلفنا ، ولكن الفقهاء اختلفوا في الأخذ بهذا الظاهر  ، فبه أخذ الشافعي وأحمد فقالا بعدم  إجزاء القيمة مطلقا وهو المشهور من مذهب مالك[55]، وقال الباجي وابن رشد والعلامة العدوي بالإجزاء مع الكراهة[56].
أما الحنفية واشهب وابن القاسم من المالكية وسفيان الثوري والبخاري فلم يأخذوا  بهذا الظاهر وقالوا بإجزاء إخراج القيمة مطلقا[57] ، وقال ابن تيمية وابن حبيب واللخمي بجواز إخراج االقيمة للمصلحة [58]، ووجه العدول عن الأخذ بالظاهر هاهنا - إضافة إلى الدلائل الأخرى -  هو مخالفته لمقاصد الشارع من زكاة الفطر  ؛ لأن المعتبر في زكاة الفطر حصول الغنى للفقير والمسكين ؛ امتثالاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم " :  أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"[59]. والاغناء يحصل بالقيمة قطعا ، وقد يحصل بالطعام وقد لا يحصل ، فقد يكون الفقير في غنى عن الطعام ، وقد يتعذر عليه  بيع الطعام لو أراد بيعه ، بينما تمكنه القيمة من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات ... لذلك  كانت القيمة أقرب إلى دفع الحاجة وحصول الاغناء المطلوب والمقصود شرعا.  
ورجحان هذا القول لا غبار عليه ولا مدفع  له ،   لا سيما  إذا أضفنا  إليه كون الناس  في زمن توفر فيه الطعام وعز فيه الدينار ؛ فيكون إخراج القيمة أنفع للفقراء وأرعى لمقاصد الشارع.
ولربما لو كان مالك في عصرنا هذا لما وسعه الإفتاء بغير هذا ، وقد  قيل لأبي زيد القرواني أتتخذ كلبا وقد كره مالك ذلك ؟ فقال : " لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسداً ضارياً "[60] . وقد منع عمر سهم المؤلفة قلوبهم وهو منصوص عليه ، لأن المقصد الذي شرع لأجله لم يعد له وجود ، وهو التاليف لصالح الإسلام لما كان ضعيفا ، ومن القواعد المجمع عليه لدى ارباب الأصول (الحكم يدور مع علته عدما ووجودا). لكن اين العقول التي تفقه هذا ؟ فقد  وقف أحد أئمتنا على المنبر وخاطب الناس قائلا : "من أخرج زكاة الفطر نقودا فإني بريئ منه". وكأنه يضع نفسه في مقام الشارع !
أيها السادة الكرام اسمحوا لي بأن  أختم هذه المحاضرة بالإشارة إلى إثارة أخرى من الأهمية بمكان، وهي أن هناك نصوص شرعية تحتاج ظواهرها  إلى دراسة  وتأمل وإعادة نظر ، كحديث :"من  بدل دينه فاقتلوه" ، وحديث :" لا  توارث بين  أهل ملتين" ، فهذه  النصوص قد أخذ جماهير الفقهاء  بظواهرها ؛ لذلك لم أتجرأ  على الخوض فيها ،   ولا يسمح لي مقامي  ذلك ، لكن تبقى  الإشكالية مطروحة  فيمن يسلمون في الدول الغربية ، فإذا ما  مات مورثوهم  ، ورث إخوتهم الكفرة الأموال والعقارات  ، بينما قد يحرمون  هم من  الميراث  ، بسبب  الوقوف عند هذه الظواهر ، وهو  ما يفتى ببه لهم  اليوم ،  وهذا أمر في  غاية الخطورة ؛  لما يترتب عليه من مآلات  محظورة انتم  تعلمونها ،  "والنظر إلى المآل معتبر مقصود سرعا" ولذلك  ينبغي  لأهل  العلم  أن يعيدوا  النظر في الأخذه بهذه الظواهر، على أن يتم العدول عنها استنادا إلى ادلة معتبرة  ، لا بمجرد العقل وحضض الرأي.
والحمد لله رب العالمين





 [1]البهيقي في السنن الكبرى   رقم  20911. وصححه الألباني في المشكاة: رقم 248

[2] الموافقات 3/  421
[3] ابن النجار شرح الكوكب 3/ 459
[4] انظر تعريف الظاهر عند الأصوليين في البرهان للجوينيي 1/ 416 ، والمستصفى للغزالي 1/ 384، والمحصول للرازي 1/ 1إرشاد الفحول لللشوكاني ص 175.
[5] شمس الدين الأصفهاني بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب المحقق: محمد مظهر بق، الناشر: دار المدني، السعودية ، الطبعة: الأولى، 1406هـ / 1986م ج 2 ص 415
[6] ررواه مسلم ،  في صحيحه ، كتاب الطاهرة [2] باب  كَرَاهَةِ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ وَغَيْرِهِ يَدَهُ الْمَشْكُوكَ فِي نَجَاسَتِهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا ثَلَاثًا [26] رقم87 (278).
[7] ابن حجر ، فتح الباري 1 263
[8] ابن الصلاح  : أدب المفتي والمستفتي ، الناشر : مكتبة العلوم والحكم , عالم الكتب – بيروت - الطبعة الأولى 1407هـ. تحقيق : الدكتور. موفق عبد الله عبد القادر. ج1/ ص 24
[9] الموافقات 3 /  420.
[10] المجموع 9/230
[11] اانظر القرضاوي ،  فقه الأئمة  الأربعة بين الزاهدين فيه والمتعصبين له ص 66
[12] انظر: صيانة السلفي من وسوسة وتلبيسات علي الحلبي ، تأليف الدكتور أحمد بن عمر بن سالم بازمول [د ط / د ت] ص 692. وانظر: مجموع الكتب والرسائل ، تأليف الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي ، دار الإمام أحمد [د ط / د ت]  ج 13 / ص 264 وما بعدها.

[13] الموافقات 3  / 149 وانظر الكيلاني ، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي76
[14] الفروق  1 / 177
[15] رواه أحمد في مسنده رقم 7762
[16] رواه أحمد في مسنده رقم 7898
[17] سنن الترمذي  4/ 48 
[18] شرح صحيح مسلم 5 / 298
[19] العظيم آبادي ، عون المعبود شرح سنن أبي داود ، الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت - الطبعة الثانية ، 1415ه ج12/ص124
[20] ابن حزم ،  المحلى بالآثار ، الناشر: دار الفكر – بيروت - [بدون طبعة وبدون تاريخ] ج12/ ص 369
[21] العظيم آبادي ، عون المعبود شرح سنن أبي داود ، الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت - الطبعة الثانية ، 1415ه ج12/ص124
[22]  رواه أحمد في مسنده رقم 8910
[23]  رواه أحمد في مسنده رقم 8910
[24] المجموع 6/ 40
[25] آداب الزفاف في السنة المطهرة222
[26] ابن ماجه 46
[27] النووي ، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 7/104
[28] أخرجه مسلم في صحيحه 15 - (1017)
[29] مجموع الفتاوى ، لابن تيمية ، مرجع سابق ج 10/ ص 370- 371
[30] لشاطبي ، الاعتصام  ، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي ، الناشر: دار ابن عفان- السعودية - الطبعة:الأولى1992م ص 246
[31]  رواه مسلم في صحيحه رقم: 106
[32] رواه البخاري رقم5784
[33] رواه البخاري رقم(5788(
[34] انظر شرح مسلم للنووي ج2ص183.
[35] مجموع فتاوى ورسائل بن عثيمين12/306
[36] سنن أبي داود رقم 3925.
[37] رواه البخاري (5784)
[38] انظر المنهيات للحكيم الترمذي ص 54.
[39] أخرجه مسلم
[40] انظر: المغني لابن قامة المقدسي 2/165.
[41] أخرجه الترمذي .. وانظر الأم للشافعي 1/197
[42] الأنفال 204
[43] أخرجه ابن ماجه رقم 1115
[44] انظر:  المبسوط  للشيباني  2 /  28 . الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني للنفراوي 1 /  255 – 266.

[45] أخرجه البخاري : في كتاب صفة الصلاة [ 16 ] باب من استوى قاعدا في الأرض إذا قام من الركعة [ 55 ] حديث رقم:  [790].
[46] انظر مذاهب الفقهاء في :
-           المغني لابن قدامة 1/ 530 . - ومجموع الفتاوى لابن تيمية 22/451-452. 
-          والقوانين الفقهية لابن جزي/ 68.  وحاشية ابن عابدين 1 / 340 .
[47] أخرجه بن أبي شيبة ففي مسنده  رقم 3989
[48]  أخرجه الطبراني في الكبير 9327
[49] أخرجه بن أبي شيبة ففي مسنده  رقم  3985. أخرجه البخاري ( 787 – 788 ) .
[50] ابن القيم . زاد الميعاد..1/241 
[51]  الموافقات . 4 / 191 .
[52] انظر : الشرح الممتع لابن عثيمين    3/192- 193
[53] أخرجه الشيخان
[54] متفق عليه
[55] انظر : الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 525. والمجموع للنووي 5/ 385.  والمعونة   1/ 410.
[56] منح الجليل 2/97.   والبيان والتحصيل 2/ 512.
[57]  فتح الباري 3/ 311.
[58]  مجموع الفتاوى 25 / 82. ومواهب الجليل 2/ 356.
[59]  رواه االبيهقي في الكبرى  
[60]  شرح العلامة زورق على الرسالة 2/414

هناك تعليق واحد:

  1. لما قرات العنوان حسبت المحاضر سيبين لنا لب الفقه و عينه فإذا هو يسرد اقوالا يراها مرجوحة لم يتتبع ادلتها ولم يستقص طرقها فغاب عنه فهمها وجعلها من نماذج الغلو في الاخذ بالظاهر ،وجعل المحاضرة تكأة للطعن في نيات ودين السلفيين،وجعل علماءهم اناسا لا تتعدى علومهم صفحات ومطويات،فاتق الله فكلامك فيه كثير من الجهل والظلم،ولولا إن المقام لا يسمح والوقت يطول لبينت لك ذلك.

    ردحذف