خصلتان حبيبتان إلى الرحمن
(( الحــلــم والأنــاة ))
خطاب الجمعة بمسجد مالك بن أنس– التلاغمة – الجزائر -
محامد
الحمد
لله حق حمده ، الحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد
الله و رسوله ، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد /
تمهيد
قال تعالى: " لقد خلقنا
الإنسان في كبد " (البلد 4) قال صاحب الظلال :" في مكابدة ومشقة ،
وجهد وكد ، وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى[1] : " يا أيها الإنسان إنك
كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه " ( الانسقاق 6)
فالحياة
الدنيا تكثر فيها الهموم و المنغصات والمكدرات؛ لأن الله لم يجعلها دار جزاء وقرار بل جعلها دار
تمحيص وامتحان ، والفترة التى يقضيها العبد بهذه الدار إنما فترة تجارب متصلة الحلقات ، فلا يكاد
العبد يخرج من امتحان حتى يدخل فى امتحان آخر ، قد يختلف اختلافا تاما عن الامتحان الأول ، وتلك طبيعة
الحياة ، يقول الله تعالى : " الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ "( العنكبوت 1-
2 -3 ) وأمام هذه
الحقيقة الثابتة يحتاج المسلم إلى زاد قوي يجنبه مزالق الطريق، و يمكنه من اجتياز
العوائق بسلام .
الحلم والأناة من أفضل ما
يتزود به لاجتياز العقبات
والحلم
والأناة من أفضل ما يتزود به المسلم
لمواجهة الشدائد واجتياز العقبات ، فهما خصلتان
عظيمتان حبيبتان إلى الرحمان ، أرشد النبي صلى
الله عليه وسلم إليهما أمته ، حيث
قال للأشج عبد القيس :
فما أحوجنا
إلى هاتين الخصلتين ، لا سيما في هذه
الزمان الذي كثرت فيه الفتن و وتراكمت فيه المحن وبدت فيه التناقضات !
فالحلم : يعني التعقل والسماحة والعفو عن المسيء و عدم الطيش والغضب .
و الأناة : تعني
الهدوء في السلوك والتصرفات و التثبت و عدم التهور و الاستعجال.
ومن صفات
المتقين : كظم الغيظ ، قال تعالى : "... والكاظمين
الغيظ والعافين عن الناس ..." ( آل عمران 134 )
و الحلم
أفضل وأعظم من كظم الغيظ ؛ لأن كظم الغيظ هو عبارة عن التحلم ، أى محاولة اكتساب
الحلم ، بحيث يتكلف العبد الحلم عند اشتداد غضبه و هيجان غيظه.
وأما
الحلم فهو طبيعة متأصلة و سجية راسخة في
نفوس العظماء والنبلاء فمهما استفزهم الحمقى و الأوغاد فلن
يهيج لهم غيظ ولن يطيش لهم عقل .
الحلم صفة لله رب
العالمين
و يكفى في فضل الحلم – أيها الإخوة في الله - أنه صفة من صفات الباري جل جلاله، قال تعالى: "واعلموا أن الله غفور حليم "
[ البقرة: 235 ]. و الحليم هو الذي يحسن إلى خلقه وينعم عليهم مع كثرة معاصيهم و زلاتهم ، فيحلم عن المسيئين
ويعفو عنهم ، فلا يعاجلهم بالعقوبة بل يمهلهم ليتوبوا ، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم
فور صدور المعاصي منهم ، قال تعالى : " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم
إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" [سورة النحل الآية 61]
الحلم من صفات
الأنبياء والمرسلين
وقد اقتضت
حكمته تعالى أن يصطفي أنبياءه قاطبة من
أحلم الناس و أوسعهم صدرا ، ليستطيعوا
تبليغ رسالته إلى الناس ، لأن من لم يكن
حليما لا يصبر على الأذى و لا يصفح عن المسيئين ، ومن ثم يعجز عن تبليغ الرسالة
التي أمر بتبليغها ، قال تعالى في وصف خليله إبراهيم : " إن
إبراهيم لأواه حليم " [التوبة :114]. و
بشره كذلك بابن حليم ، فقال تعالى: " فبشرناه بغلام حليم " [الصافات :101].
وهو سيدنا إسماعيل عليه السلام .
نماذج من حلم نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم
وأما
سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم فقد كان المثل الأعلى في الحلم والأناة ، قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول
الله صلى
الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها إلا أن تنتهك حرمة من حرم الله
سبحانه.
و سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما قوله تعالى: " وَقَالَ نُوحٌ
رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارً " فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، ما أحلمك وأكرمك، لقد دعا نوح على قومه فأهلكوا ، ولو دعوت علينا
لهلكنا عن آخرنا ، فلقد وطئي ظهرك وأدمي وجهك وكسرت
رباعيتك وقيل لك : ادع عليهم ، فأبيت أن تقول إلا خيرا وقلت: اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون .
عن أنس ـ رضي الله عنه ، قال : " كنت أمشى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه (جذبه) بردائه جبذة شديدة ، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء" (رواه مسلم)
ولما أظهره الله على أهل مكة – الذين ألحقوا به الأذى وقتلوا أصحابه وقتلوا عمه حمزة ومثلوا بجثته - فلما أظهره الله عليهم قال : ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء .
وقد سار الصحابة الكرام على نهج نبيهم- صلى الله عليه وسلم - في الحلم
والأناة ، فاتسموا بهما و تمسكوا بهما في تصرفاتهم وواقع حياتهم .
- يروى أن رجلا قال لأبي بكر رضي الله عنه: "واللهّ
لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك؟ فقال أبو بكر: معك يَدْخل لا مَعي"
-
و شَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال: "يا هذا ، لا
تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً ،
فإنا لا نًكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه"
- وقال رجل لعمرو بن العاص: "والله لأتفرَّغنَّ لك"
قال عمرو : "هنالك وقعت في الشغل؟ " قال: "كأنك تهددني، والله لئن
قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً " قال: وأنت والله لئن قلت لي عشراً لم أقل لك
واحدة"
- روي أن
رجلاً سبّ سيدنا عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما، فلما فرغ الساب من سبه قال ابن
عباس : " يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها ؟ فنكس الرجل
رأسه واستحى"[3]
هكذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الجبال
الراسخة لا تحركها العواصف مهما عتت .
نماذج من حلم العلماء
وعلى ذلك درج العلماء والصالحون ، فهذا الإمام الشافعي - رحمه الله -
خرج ذات يوم من المسجد فقال له رجل: يا شافعي: قال: لبيك.قال: أنت فاسق! فقال
الشافعي: اللهم إنْ كنتُ كما قال فتب عليَّ. وإن لم أكن كما قال فاغفر لي.
وفى اليوم الثاني: حدث كما حدث في اليوم الأول، وفى اليوم الثالث كذلك. فقال له الشافعي:
وفى اليوم الثاني: حدث كما حدث في اليوم الأول، وفى اليوم الثالث كذلك. فقال له الشافعي:
(( يا هذا: إن العالم كالشجرة والعلم كالثمرة. فخذ الثمر ولا شأن لك بالشجرة )) فعاتبه صاحب له:
أمَا كان لك أن ترد عليه؟! فقال الشافعي:
يخاطبنى السفيه بكل قبح ................ فأكره أن أكون له مجيبا
يزداد سفاهــــة فأزداد حلـــما ............ كعود زاده الإحراق طيبا
وقال أيضا :
إذا نطق السفيه فلا تجبه ................وخير
من إجابته السكوت
إذأجبته فرجت عنه........................وإذا
تركته كمدا يموت.
وهذه الأبيات التي
ذكرها الإمام الشافعي تفسر لنا قول الله تعالى:"وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"
نتيجة
الحلم والأناة وثمرتهما
واعلموا أيها الإخوة أن للحلم والأناة مزايا
وفوائد كثيرة تعود على المتصف بهما ، منها :
1- أن
صاحبهما محبوب عند الله ورسوله ، كما سبق بيانه في الحديث: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" وإذا
كان الله يحب الحلم والأناة ، فالمفهوم المخالف أنه يكره أضدادهما ، فيكره أولائك
المتهورين والمستعجلين ، الذين تطيش عقولهم فيغضبون لأتفه سبب ( فيقومون ويقعدون
ويسبون ويشتمون ويطعنون ويختلقون البهتان للتنفيس عن غيظهم ) وتلك نتيجة الطيش
والغضب أن يدفع أصحابه إلى ارتكاب الحماقات والدنايا التي تعود عليهم بالخزي
والندم في عاجلهم وعاقبة أمرهم .
2-
الفوز برضا الله وجنته.. لقوله صلى
الله عليه وسلم: "من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَهْ، دعاه الله- عزَّ وجلَّ- على رءوس الخلائق
يوم القيامة، يخيِّره من الحور العين ما شاء" (رواه الترمذي)
3-
التحكم في الانفعالات لقوله -
صلى الله عليه وسلم - : " ليس الشديد بالصُّرْعَة (مغالبة
الناس وضربهم) إنما
الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (رواه مسلم)
4-
تحويل العداوة إلى صداقة.. يقول تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت: 34 )
5-
محبة الناس .. فإن أول ما يُعوض الحليم عن حلمه أن
يحبه الناس وينصروه؛ لأن الحليم المتأني
يبتعد عن الوقوع في الأخطاء والدنايا ، بخلاف الأحمق المتهور المستعجل فهو يضر
نفسه أكثر مما ينفعها. .
6- الوقاية من الوقوع
في المهالك والمزالق التي تتسبب في الفشل والانهزام ، قال - صلى الله عليه وسلم - :".......
تقوم الساعة والروم أكثر الناس........."[4] قال
عمرو ابن العاص مفسرا ذلك : ( لأن الروم أحلم الناس عند الفتنة ، وأسرع الناس
إفاقة بعد مصيبة ) فعمرو لم يثن على الروم بكلامه هذا ، و لكن أراد أن يبين
المسلمين أن بقاء الروم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة ، كان بسبب حلمهم عند وقوع
الفتن ، فهم لا يعجلون ولا يغضبون و لا يتهورون ، بل يحلمون ويتأنون فيقوا أنفسهم وأقوامهم
من القتل و موجبات الهلاك الفناء .
أيها الإخوة في الله : ما ينبغي أن نتساهل فيما دعا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - من
الحلم والأناة ، في حين يتشبث به أعداؤنا من النصارى .
وإننا
اليوم في حاجة ماسة إلى أن نضبط تصرفاتنا بميزان الشرع ، وأن نواجه أزمات الحياة بالعقل والحكمة والحلم والأناة ، فنظفر بخير الدنيا والاخرة . وفي الحديث :
" إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا
زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ "[5] والحياة
الدنيا كلها لا تخلو من منغصات و استفزازات ، لكن العاقبة – دوما - للمتقين الذين
يصبرون ويتحلمون ويتأنون ويتعقلون ..ويتقون الله رب العالمين.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع
المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش