والجواب:
هذه المسألة تندرج ضمن القنوت في الوتر في أواخر رمضان، فدعاء ختم القرءان الذي يؤتى به اليوم في المساجد هو جزء من القنوت المذكور، وفيه روايتان عن مالك رحمه الله:
الرواية الأولى: يستحب دعاء القنوت في النصف الأخير من رمضان؛ وأصل ذلك ما رواه مالك في الموطأ عن داود بن الحصين عن الأعرج قال: "مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ"[1]
والمراد بالناس الصحابة، والمعنى أنهم كانوا يدعون على الكفرة في دعاء القنوت، ومحل ذلك في الوتر في النصف الأخير من رمضان، كما فسره الباجي وغيره[2] .
وقال ابن عبد البر في معرض شرحه للحديث المذكور:
"لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ، وَأَمَّا عَنِ الصَّحَابَةِ فَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ: مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ..عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَكَانَ إِذَا مَضَى النِّصْفُ الْأَوَّلُ وَاسْتَقْبَلُوا النِّصْفَ الْآخِرَ لَيْلَةَ سِتَّ عَشْرَةَ قَنَتُوا فَدَعَوْا عَلَى الْكَفَرَةِ"[3].
ثم قال: "فَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ مِنْ قِيَامِ رمضان النِّصْفِ الْآخِرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي رَمَضَانَ، لَمْ يَأْتِ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِنْكَارُهُ"[4].
الرواية الثانية: لا يشرع القنوت في رمضان كله، لا في أوله ولا في آخره، ولا عند ختم القرآن؛ ففي المدونة: "لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَلَا أَرَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَا يَقْنُتَ فِي رَمَضَانَ لَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَلَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَلَا فِي الْوِتْرِ أَصْلًا"[5].
فالملاحظ أن مالكا رحمه الله روى الحديث في الموطأ للأمانة العلمية، ثم خالفة في الفتوى لمخالفته لعمل أهل المدينة، بدليل قوله: "لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ". ورواية المدونة هي المشهورة، وعليها سار فقهاء المذهب.
ويرى ابن عبد البر أن نص المدونة المتقدم يُراد به عدم السنية، لا عدم الجواز بإطلاق؛ فقال رحمه الله:
"وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ سُنَّةً مَسْنُونَةً فَيُوَاظَبُ عَلَيْهَا فِي الْقُنُوتِ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ فِعْلُهُ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ فِي ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ، وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَرَى الْقُنُوتَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ رَمَضَانَ فِي الْوِتْرِ وَالدُّعَاءِ عَلَى مَنِ اسْتَحَقَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْمِصْرِيُّونَ عَنْهُ، وَرَوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَقْنُتُ الْإِمَامُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ"[6].
وما ذكره ابن عبد البر من حمل نص المدونة على عدم السنية توجيه قوي؛ لثبوت القنوت في النصف الأخير من رمضان عن الصحابة، فلا يسقيم نفيه جملة في العمل المديني، وإنما المراد نفي سنيته، وقد كان مالك يأتي به في بادئ الأمر ثم تركه؛ وترْكه له يعود لما عُرف من عادته الميمونة من خشية اعتقاد وجوب أو سنية الجائزات مع طول الزمن.
وبناء على ما تقدم فالذي يظهر - والله أعلم - أن القنوت عند ختم القرآن واسع، فلا ملامة على من تركه، ولا إنكار على من أتى به، وقد جرى العمل به في جل مساجدنا دون نكير، ويؤيد ما ذكرنا ما رواه ابن نافع عن مالك: "أن القنوت في الوتر واسع إن شاء فعل وإن شاء ترك"[7].
ومحله في الوتر قبل الركوع على المشهور، وإن قنت في العشر الأواخر للدعاء لأهل غـ/زة كما فعل بعض إخوة فهو أمر سائغ دائر في فلك المذهب فلا داعي للاعتراض عليه.
والله أعلم
الهوامش
1- الموطأ ح رقم 381
2- المنتقى 1/ 210
3- الاستذكار 2 / 77
4- نفسه 2 / 77
5- المدونة 1/ 289
6- الاستذكار 2 / 76
7- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 1 / 421