......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

‏إظهار الرسائل ذات التسميات خطب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خطب. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 18 أبريل 2013

المرجفون في المدينة



محامد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد /
مقدمة
ما أحوجنا – إخوة الإيمان -  إلى التأمل في  كتاب الله تعالى، والوقوف على ما تضمتنه آياتُه من توجيهات نافعات فهو :... حَبْلُ اللهِ المتين ، وَهُوَ النُّور الْمُبِينُ ، وََهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ ،ََ و هُوَ العِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَ النَجَاةٌ لِمَنْ اتَبِعَهُ ، لاَ يُعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ.....
و لقد كان لنا فيما مضى وقفةٌٌ مع قوله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " واليوم : سنقف قليلا مع قوله تعالى : " لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ ( الْمُرْجِفُونَ ) فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً  مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا   سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا"  [الأحزاب:62]
هذه الآية من سورة الأحزاب تحدثنا عن آفة خطيرة ، تفرق بين الجماعات ، و تدمر المجتعات .
  إنها آفة الإرجاف التي توعد الله  المتصفين بها بأشد أنواع العقوبات ، حيث لعنهم ، أي أبعدهم من رحمته ورضوانه ، وكفى بذلك نقمة !!
تعريف الإرجاف
والإرجاف في اللغة العربية يطلق على معنيين :
 أحدهما: الرجف : وهو الاضطراب الشديد ، فيقال: رجفت الأرض إذا تزلزلت ، ورجف البحر  إذا اضطرب،  وفي القرآن المجيد :"يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ "( النازعات: 6) " يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ " (المزمل: 14)
والثاني : أن الإرجاف مصدر : ( أَرْجَفَ) . تقول: إِرْجَفْتُ الوَلَدَ إذا أدخلْتَ الخَوْفَ وَالرُّعْبَ فِي نَفْسِهِ.....وأَرْجَفَ القَوْمُ : أذا خَاضُوا في الأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وذِكْرِ الفِتَنِ...وأَرْجَفُوا في الْمَدينَةِ : أي نقلوا الإِشاعاتِ  ِفيها لِيُوقِعُوا الاضْطِرَابَ والبَلْبَلَةَ بين أهلها......هذا مدلول الإرجاف في اللغة باختصار .
 أما الإرجاف في الاصطلاح: 
 ( فهو بث ونشر الأخبار السَّيِّئَةِ المثبطة للعزائم ، والمفسدة للنيات ، بغرض إحداث الاضطراب وزعزعة الثقة والأمن والإيمان في نفوس المؤمنين والمؤمنات )
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي :
ولما كان الخوض في الأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ يحدث اضطرابا في المجتمع ، و يزعزع أمنه واستقراره ؛  عبر القرآن عنه بالإرجاف ؛ لأنه يحدث رجفة  - اضطرابا  - في المجتمع .
الغاية من الإرجاف
والغاية منه : إضعاف المسلمين و زرع اليأس في صفوفهم ، وعرقلة مشاريعهم الخيرية ، بنشر الأخبار الكاذبة والإشاعات الهدامة ، فهو أحد أنواع الحرب النفسيَّة التي يمتطيها المرجفون من لدن زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا و إلى يوم الدين.
من هم الْمُرْجِفُونَ ؟
وَ ( الْمُرْجِفُونَ ) عادة يكونون أشخاصا ذوي أغراض دنيئة عجزوا عن تحقيقها في حياتهم ، فلا يجدون ما يعبرون به عن فشلهم إلا القيام بالإرجاف ؛ لينفسوا به عن غيظهم وحسدهم وحقدهم الدفين...نعم أيها الإخوة : ان الحقد والحسد كل منهما داء عضال إذا تمكن من قلب صاحبه انطمست بصيرته ، وانقلبت الموازين في فكره ، فصار يرى الجمال قبحا والخير شرا والحق باطلا...والعكس .
-         أو ليس الحسد هو الذي أخرج إبليس من الجنة .
-         ودفع قابيل إلى القتل أخيه هابيل. 
ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ برب الفلق  من شر حاسد إذا حسد .إلى أن رموه في البئر  وادعوا أن الذئب قد أكله
صفات المرجفين
ومن أهم صفات المرجفين التي ينبغي ان نتعرف عليها لنتقيها :
1- الفرح بالمصائب التي تنزل بالمسلمين:  " وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا)" آل عمران  !!!!  فإذا رأوا مصيبة تنزل بمسلم فرحوا واطأنت بهل قوبهم  (120
2 -  ترصد العثرات و تتبع العورات ، حتى إذا رأوا فرصة سانحة ، طاروا بها فرحا وطيروها ؛ حتى تبلغ الآفاق ، وخير مثال على ذلك ، حادثة الإفك  التي  قال  الله في شأنها : " إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ   لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ " ( النور 12 ) وقد نزلت هذه الآيات فيمن قذفوا أم المؤمنين عائشة ، وخاضوا في عرض نبيهم ، وهي عامة في كل من حذا حذوهم  ، وتشبه بهم في صنيعهم ، وقد توعد الشارع الحكيم من يفعل ذلك بالعذاب العظيم (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وفي الحديث : " قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة "(رواه الطبراني عن حذيفة(
3- إثارة الفرقة والترويج للفتنة كما قال الله تعالى:  " لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ   "وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين )التوبة:47) وانظروا  إلى قوله تعالى :( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين) فقد سمى الله السماعين للمرجفين بالظالمين ، فالسماع لهم ظلم ؛ ومن هنا كان اعتزال الطائفة المرجفة و هجرها من أوكد الواجبات و أعظم القربات .
4- الكذب في قراءة الأحداث وتزوير الحقائق و نشر الأكاذيب .
موقف  المؤمنين من  آفة الإرجاف والمرجفين ؟؟
أيها الإخوة : قد تبين لنا معنى الإرجاف  ، وعرفنا خطورته وأسبابه ، واستعرضنا بعض صفات أصحابه ، والآن : ما هو موقف  المؤمنين من  آفة الإرجاف والمرجفين ؟؟
1- أن أول ما يجب على المؤمن  نحو هذه الآفة أن يدرك خطورة الكلمة ، فالكلمة ربما تودي بصاحبها في النار وربما تودي به إلى الجنة ، مصداقاً لقول النبي  صلى الله عليه وسلم :" إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً "
2- أن يتثبت من الخبر و أن يمحصه قبل نقله وإشاعته بين المسلمين ، عملا بقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6)   
3- ألا  يتشبه بالمرجفين  والمثبطين لكي لا يصيبه ما أصابهم من الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى .
4- أن يعامل المرجفين بما أمر الله في كتابه ، حيث قال تعالى :" أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا " ﴿ النساء 63)  أي علم الله أن ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم ، فهم يكذبون و يزرون الحقائق؛ و لذلك أمر الله بالإعراض عنهم ، و أمر بوعظهم بالقول البليغ ، و هو : ما فيه زجر وردع وتأنيب لهم ، لعلهم ينتهون عن إرجافهم .

5- وعلى المؤمن أن ينشر المبشرات في مقابل الأراجيف ، لتدوم الثقة في نفوس المؤمنين والمؤمنات ..
6- وأن يثبت ويداوم على  العمل الصالح وألا  يلتفت إلى أراجيف المرجفين ، مستحضرا قول الله تعالى في شأن المرجفين " إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"( آل عمران:120 ) فمن أهم أهداف المرجفين تثبط العزائم والمعنويات ، وإذا فشل المؤمن وتأثر بإرجافهم فقد ساعدهم على تحقيق أهدافهم الدنيئة .

و مادام المؤمن مطمئنا إلى الفكرة التي تملأ عقله والى الإيمان الذي يعمر قلبه.. فلن  يعرف الفشل إلى نفسه سبيلا  ، و لن تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه ... بل لا عليه أن يقول لمن حوله: ( اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من ياتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) بهذه اللهجة المقرونة بالتحدي و بتلك الثقة النابعة من الإيمان الراسخ ينبغي أن يواجه المؤمن المرجفين والمغرضين غير عابئ بأراجيفهم مهما روجوا لها .
الخاتمة
و في الختام : إننا في حاجة – أيها المؤمنون -  إلى تقوية قلوبنا ضِدَّ معاول الهدم التي تُهدد كيان أمتنا،  و إننا نملك من المُبشرات في القرآن والسنة ما يُثبِّت أفئدتنا، ألاَ نخجل عندما نرى ثباتَ أهل الباطل عليه ، وصمودهم في سبيل نُصرته إلى آخر رَمَقٍ من حياتِهم ؟!  فكيف يتأثر بالإرجاف مَن هو على الحقِّ المبين ؟! فهو أَوْلَى بالثبات والصُّمود.
اللهم ثبت أفئدتنا على الحق  ، وكن لنا ولا تكن علينا ، وانصرنا و لا تنصر علينا ، و لا تكلنا إلى تدبير أنفسنا طرفة عين . و صل اللهم وسلم و بارك على سيدنا و مولانا محمد و على آله و صحبه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



الأربعاء، 10 أبريل 2013

ذكرى يوم العلم 16 أفريل

الخطبة1

الحمد لله الذي فضل العلم على الجهل ، فقال: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بمن يصلح لحمل العلم والدين، والقائل ثناؤه: "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه"

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، القائل: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.

أما بعد/

أيها المؤمنون: لقد اعتدنا على الاحتفاء كل عام بمناسبة يوم العلم 16 من شهر افريل، وكلما أطلت علينا هذه الذكرى تمثلت أمام أعيننا صورة العلامة عبد الحميد ابن بأديس رحمه الله، تلك الصورة التي من الصعب أن تمحى من ذاكرتنا.

وفي البداية أود أن أوضح مسألة هامة تتعلق بجعل 16 من شهر افريل مناسبة للعلم، ومعلوم أن هذا التاريخ يصادف وفاة العلامة ابن باديس رحمه الله، وهنا يتساءل البعض:

 - لِمَ اختير يوم وفاته يوما للعلم؟

 - وهل تحتفل الأمة بوفاة علمائها؟

 - أم أن العلم انطلق في الجزائر بوفاة ابن باديس؟

-  ولماذا لا يكون يوم مولده – مثلا - أو يوم تأسيسه لجمعية العلماء هو يوم العلم؟

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة ومتنوعة، والجواب المقنع – فيما أرى – هو كما يلي :

-  أن ابن باديس قد تصدى بقوة للمخططات الفرنسية الهادفة إلى طمس هوية الأمة.

-  وأنه قد دخل في سباق مع فرنسا فسبقها، إذِ انقلبت على أعقابها خائبة لم تنلْ خيرا.

 - ولما توفي ابن باديس أقامت فرنسا الأفراحَ ابتهاجا بموته، وقال قائلها: "آن لفرنسا أن تطمئن على بقائها في الجزائر فقد مات ألد أعدائه"

- وأجاب قائلنا – وهو محمد العيد – مخاطبا ابن باديس بعد موته:

نم هادئا فالشعـب بعد راسشدُ

               يختط نهجك في الهدى ويسيرُ

لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى

                  فالــــوارثون لما تركت كثيرُ

ولا جرم أن ابن باديس إنما أحيى الجزائر وقهر فرنسا بالعلم، وهذا العلم لم يمت بموت ابن باديس، بل ورثه عنه كثيرون؛ وعلى هذا الأساس اختير يوم وفاة ابن باديس يوما للعلم، وكأننا بذلك الاختيار نقول لفرنسا: أنه لا داعيَ لئن تفرحي بموت ابن باديس؛ لأن العلم الذي قهرك به لم يمت بموته، بل ورثته الجزائر برمتها، وعلى أسسه قامت الثورة التحريرية المباركة، التي اقتلَعْت جُـــذورَ الخَائنينَ الذين كان منهم كل العطب، وَأَذاِقتْ نفُوسَ الظَّـالـمِينَ السمًّ يُـمْـزَج بالـرَّهَـبْ.

 

وإذن: فاتخاذ يومِ وفاةِ ابنِ باديس يوما للعلم لا غرابة فيه، إذْ هو يعبر عن انتقال التركة العلمية التي خلفها ابن باديس إلى الأجيال من بعده، تلك التركة التي لولا ها لما استطاع أمتنا أن تحافظ على هويتها الوطنية، ولما استطاعت أن تحقق نصرا أو تطرد عدوا..

فبالعلم ترتفع الأمم إلى أعالي الدرجات، وبالجهل تهبط إلى أسفل الدركات، وفي القرآن المجيد: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"

وصدق من قال شعرا:

العلم يبني بيوتا لا عماد لها    والجهل يهدم بيوت العز والشرف

وقال آخر:

ففز بعلم تعش به حيا أبـدا   الناس موتى وأهل العلم أحياء

وقال آخر:

مَنْ فَارَقَ العِلْمَ حَلَّ الذُّلُّ سَاحَتَهُ

                ولَمْ يُعَظَّمْ ولَمْ يُكْرَمْ ولَمْ يُهَبِ

كَمْ مِنْ صَغِيرٍ يُرَى والعِلْمُ كَبَّرَهُ

                مُؤَيَّدٍ ظَــــــاهِرٍ للعِزِّ مُكْتَسَبِ

وكَمْ كَبيرٍ يُرَى والجَهْلُ صَغَّـرهُ

              مُبَكَّتٍ خَامِلٍ فِي الذُّلِّ والغَلَبِ

فلا شك أن من يعيش في ظلمات الجهل لا يمكنه أن يدرك عظمة الله، و لا يمكنه أن يعرف طريق الحق أو يهتدي إليه؛ فأنى له أن يجلب لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضرا .

ولهذا أعز الله العلماء وأعلى منزلتهم، وقرنهم بنفسه وملائكته في الشهادة له بالوحدانية، فقال جل شأنه: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم"

وإعزاز الله للعلماء يقتضي منا أن نعظمهم و نوقرهم ونقدرهم حق قدرهم، فالأمة التي لا توقر علماءها ولا تعرف لهم قدرا و لا فضلا؛ أقل ما يقال فيها أنها أمة عظيمة الوفاء! ثم إن مصيرها إلى الخراب والاندثار، لأن الحياة بدون العلماء ظلمات بعضها فوق بعض..

ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول :

ما الفضلُ إلا لأهل العلم إنهـــمُ

                على الهدى لمنِ استهدى أدلاّءُ

وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه

               والجاهـلون لأهل العلم أعـــداءُ

و من هؤلاء العلماء الذين ينبغي أن نعرف لهم قدرهم: صاحب الذكرى عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس الصنهاجي، االمولود بمدينة قسنطينة سنة 1889م  

هذا العالم الرباني الذي كرس حياته لتعليم الأمة، وإصلاح أوضاعها الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية... فأحىى - رحمه الله - أمة، وكان وحده أمة، واستطاع أن يؤثر في نفوس الجزائريين ويستميل قلوبهم إليه، لا بعلمه الغزير فحسب، بل بهمته وشخصيته المتميزة أيضا، وبأخلاقه الرفيعة التي من جملتها:

حرصه على نفع أمته، وتواضع لمن يتتلمذون على يديه ويتعلمون منه، فكان رحمه الله بمنزلة المنقذ أو الطبيب. فالمنقذ لا يستطيع إنقاذ الغريق إلا إذا نزل إليه .وكذلك الطبيب لا يستطيع أن يداوي مريضه إلا إذا انحنى إليه وفحصه ولو كان متعفنا..

وهكذا كان ابن باديس رحمة الله عليه، لقد كان – فعلا - شمعة مضيئة في ظلام دامس قد تركه الاستدمار الفرنسي، فقبل مجيئه كانت الجزائر تتخبط في أوحال من الجهل والبدع والخرفات، التى غرسها الاحتلال في أبناء وطننا، إلى أن جاء شيخنا بعد تخرجه من جامع الزيتونة عام (1912م) وبعد أدائه لفريضة الحج، فانطلق في إنقاذ أمته، وكله حماسة وقوة و نشاط، ورأى أن أول خطوة ينبغي القيام بها هى جانب الإصلاح وغرس العقيدة الصحيحة في أبناء شعبه، فطفق يعلم الكبار والصغار والرجال والنساء.. .ليلا ونهارا سرا وجهارا، سفرا وإقامة، غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، وقد بلغت دروسه في اليوم والليلة خمسة وعشرين درسا.

وقال له أحد رجال الاستعمار ذات يوم: "إما أن تقلع عن هذه الأفكار وإلا أغلقنا المسجد الذي تنفذ فيه سمومكم ضدنا"

فأجابه الشيخ قائلا: "لن تستطيع ذلك! فأنا إن كنت في عرس علمت المحتفلين، وإن كنت في مأتم وعظت المعزين، أو في قطار علمت المسافرين، فأنا معلم مرشد في جميع الميادين، وخير لكم أن لا تتعرضوا لهذه الأمة في دينها ولغتها".

فكان يتنقل بين المدن والقرى لتعليم الجزائريين وتقوية همتهم وإثارة نار الحماسة في قلوبهم.

ولم يكتف بهذا فحسب، بل كتب في العديد من الصحف والجرائد، عربية كانت أو أجنبية؛ للتعبير عن مطالب الشعب الجزائر ونظرته للاحتلال الفرنسي، وارتقى بمشواره الدعوي إلى تأسيس أعظم جمعية أنداك، وهي: جمعية العلماء المسلمين الجزائرين، في 1931م وعين رئيسا لها لجدارته ونشاطه، ووضع لها أهدافا سامية ، منها:

غرس المبادئ والمقومات التى حاول المحتل الفرنسي أن يمحوها من أذهان أبنائنا، وهي: "العروبة والإسلام" وأنشد في ذلك أبياته الرائعة الخالدة:

شعب الجزائر مســـــلم

                والى العروبة ينتســب

مـن قال حاد عن اصله

                أو قال مات فقد كــذب

وظل رحمه الله يناضل من أجل دينه ووطنه وشعبه إلى أن توفاه الله في 1940م.

فانتقل إلى بارئه عن عمر يناهز الخمسين عاما، ولقد تضافرت الروايات على أنه مات مسموما.

فرحمة الله عليك يا شيخنا عشت عالما، و مت شهيدا، فنحسبك عند الله مع الذين قال فيهم جل جلاله : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".

وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

 

الخطبة2

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

أيها الإخوة الكرام: بعد هذه الوقفة الموجزة مع ذكري يوم العلم نستخلص النتائج الآتية:

 

1- أن الأمة الجزائرية أريد لها أن تبتلعها الصليبية الماكرة إلى الأبد، وقد وضع المحتل لذلك مخططات رهيبة، واتخذ وسائل عدة لتحقيقها.

 

2-  وأن عبد الحميد بن باديس قد سابق فرنسا فسبقها، فأحيى هذه الأمة الجزائرية وسلك مسالك شتى للمحافظة على أصالتها وهويتها، فهو معدود بلا منازع ممن قال فيهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا"

 

3- أن العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله قد استفاد من شيوخ التصوف الزوايا قبله؛ فسار على نهجهم في ربط الأمة بالقرآن العظيم، باعتباره العاصم الوحيد لهذه الأمة من ذوبان شخصيتها، واختلال عقيدتها، ومحو لغتها، وفصم وحدتها.. فوجه جهوده هو الآخر لتعليم القرءان للذكور والإناث في مختلف ربوع هذا الوطن، وعكف على تفسيره في الجامع الأخضر بقسنطينة عدد سنين.

وقال قولته المشهورة: "فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول وهلة.. وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها"هـ

 

4- كما عمل على تكميل جهود مشايخ التصوف والزوايا من قبله في الحفاظ على مرجعية الأمة، فاشتغل رحمه الله بتدريس "متن ابن عاش" ونحوه من كتب المالكية المعتمدة، وهذا العمل ويعتبر ترسيخا منه للمرجعية الدينية المؤلفة من عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك.

 

5- وبفضل تمسك الجزائريين بالقرءان العظيم والتفافهم حول مشايخه خرجت فرنسا بعد قرن وربع من الاحتلال مذمومة مدحورة، ولم تخلف بعدها ولو جزائريا واحدا معتنقا للنصرانية.

 

6- أن الثورة التحريرية المباركة تعتبر ثمرة لجهود ابن باديس الإصلاحية، إذ هيأ لها التربة الصالحة والمناخ الملائم؛ بما غرس من عقيدة صحيحة في القلوب، وبما أو قد من حماسة في النفوس، وبما أرسى من وحدة في الصفوف، وقد لمح لإشعال تلك الثورة بوصيته الخالدة التي عهد بها إلى الجزائريين من بعده:

مـــَنْ كَــــــان يَبْغي وَدَّنَـــا

              فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحبْ

أوْ كَــــانَ يَـــــبْغـي ذُلَّــنـَا

              فَلَهُ الـمـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ

هَــــذَا نِــــظـــــامُ حَـيَـاتِـنَــا

               بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ

حتَّى يَعـــــودَ لـقَــــومـــــنَـا

            من مَجِــدِهم مَــا قَدْ ذَهَبْ

هَـــذا لكــــُمْ عَـهْــــــدِي بِــهِ

             حَتَّى أوَسَّــدَ في الـتُّـرَبْ

فَــإذَا هَلَكْــتُ فَصـَيْحــتـي

           تَحيـَا الجَـزائـرُ وَ الْـعـرَبْ

7- أن كل هذه الإنجازات العظيمة التي حققها العلامة ابن باديس عائدة في مجملها الى العوامل الآتية :

الأول :  الصدق والإخلاص قي الأقوال والأفعال.
والثاني: العقيدة الإسلامية الصحيحة الخالية من الخرافات.
والثالث: العلم بالقرآن والسنة والتمسك بهما، والعلم بما يتصل بهما من علوم، وفي طليعتها علم اللغة العربية التي لا يفهم الكتاب والسنة إلا بها، والتي كانت من أولويات البرنامج العملي لابن باديس.
والرابع:  الوحدة الوطنية التي ناضل ابن باديس لأجل تحقيقها بين كافة شرائح المجتمع الجزائري.
فحافظوا أيها المؤمنون على هذه العوامل الأربعة ، فهي سر قوتكم، وعماد نهضتكم، وأساس وجودكم ، وسبيل نصرتكم.
جعلني الله وإياكم من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأحد، 7 أبريل 2013

وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه



محامد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد /
مقدمة
أيها الإخوة الكرام : قد كانت لنا في الجمعة الفارطة وقفة مع قوله تعالى : " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وسنقف اليوم قليلا مع قوله جل ثناؤه : " وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه  هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً" )فاطر: 43(
هذه الآية تتحدث عن سنة جارية لا تتبدل و لا تتغير إلى يوم الدين ، وتقرر قاعدة مطردة ينطبق حكمها على كل ماكر ومخادع في سائر الأزمنة والأمكنة ، وهي أن المكر السيئ لا يحيق - أي لا يحيط - إلا بأهله ، بذلك حكم الله في الأزل            ( والله يحكم لا معقب لحكمه )
تعريف المكر
والمكر في اللغة : يطلق على الاحتيال والخداع ، وقال ابن منظور في لسان العرب : " المكر: احتيال في خُفية.."[1]
والمكر في الاصطلاح الشرعـــي نوعان : مكر حسن ممدوح ، ومكر سيء مذموم :
[أ] فأما المكر الحسن فيشمل أمرين :
أحدهما: المكر الذي وصف الله به نفسه في قوله تعالى : " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " [الأنفال:30].
ومعناه: أن الله تعالى يجازي الماكرين برسله و أوليائه ، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن ، فيكون المكر منهم أقبح شيء ، ومن الله تعالى أحسن شيء ؛ لأنه عدل ومجازاة .
والثاني: المكر بأعداء الله في الحروب ، وهو استعمال الحيل الخفية معهم من أجل إيقاعهم في الهزيمة ، وفي الحديث : " الحرب خدعة "[2] .
[ب] وأما المكر السيئ فهو تدبير المكائد للغير من أجل إيذائهم من حيث لا يشعرون .
المكر السيئ من أكبر الكبائر
والمكر السيئ : صفة قبيحة وذميمة ، لا يتصف بها إلا المنافقون وشرار الخلق ، كما قال تعالى : " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ " [النساء:142] وقد توعّد الله من اتصف بهذه الصفة  أن يردَّ مكره إليه في الدنيا ، مع ما  يدخره له في الآخرة من العذاب و الحرمان من الجنّة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكر والخديعة في النار "[3]  وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنّة خِبٌّ ، ولا منّان ، ولا بخيل "[4] والخِبُّ: هو الرجل الماكر الخدّاع . وقال صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يُعرف به"[5]
عاقبة المكر والخديعة
وقد بينت هذه الآية أن مكر الماكرين وخداع المخادعين  سيحيط بهم لا محالة ،  وسيعود عليهم  حسرة و وبالا ، وخزيا وندامة ، قال محمد بن كعب القرظي: " ثلاث من فعلهن لم ينج حتى يُنزل به : من مكر أو بغي أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله تعالى : ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) , ( إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ), ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ)"
وهذه قاعدة مطردة في كل ماكر ومخادع إلى يوم القيامة ، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ وبناء على ذلك فإنه يدخل في هذه الآية كل مكرٍ سيء ، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: - مبيناً علة اطراد وثبات هذه القاعدة – "   لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض ، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض ؛ لأن الإنسان مدني بالطبع ، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكر بعضهم لبعض ، وتبادروا الإضرار والإهلاك ؛ ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه ؛ فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم ، والله لا يحب الفساد ، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء "…. [6]
والثاني: أن الله تعالى قال بعد هذه الآية : " فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا " وفي ذلك إشارة إلى أن إحاطة المكر السيئ  بأهله سنة ثابتة وجارية لا تتبدل و لا تتغير إلى يوم الدين .
نماذج من المكر السيئ
 وقد ذكر القرآن المجيد  نماذج عديدة  عن المكر السيئ وعاقبة أهله ، منها :
 1 ـ ما قصه الله علينا عن مكر إخوة يوسف بأخيهم ، إذ رموه في الجب وادعوا أن الذئب قد أكله ، قال تعالى: "وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ" [يوسف: 102] فماذا كانت عاقبة مكرهم  ؟ لقد  عاد مكرهم على غير مرادهم ، وفاز يوسف بالعاقبة الحسنة ، والمآل الحميد ، ولولا أنهم تابوا وندوا لأخذهم العذاب ولهلكوا شر هلاك .
- 2  ومكر المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذوا جميع الحيل لإيذائه ، وقررا قتله أو سجنه.... لكنه خرج من بينهم سالما غانما  دون أن يصلوا إليه بسوء ،  " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " (الأنفال: 30) ومكر به – أيضا - اليهود والمنافقون و الأعراب ،  ولما تزايد عليه المكر سلاه الله بآية عظيمة ، تبعث على الثقة والطمأنينة، والأمل والراحة ، وهي قوله تعالى :  " وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" (النحل: 127).   
 وهذه التسلية ليست  له وحده صلى الله عليه وسلم ، بل هي لكل داعية يسير على نهجه ممن قد يشعر بكيد الكائدين ومكر الماكرين......فالله حافظه من من كل ماكر وكائد وحاسد... نعم  :قد يقع عليه شيء من الأذى لامتحان صبره ، و قد يبطأ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه ، ولكن العاقبة مظنونة ومعلومة ، وهي : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)
 3- و كم مكر فرعون   بموسى والذين  آمنوا به ! ومن جملتهم ذلك الرجل الذي عرف بـ (مؤمن آل فرعون) الذي قصّ الله خبره في سورة غافر ! فماذا كانت عاقبة مكر فرعون وجنوده ؟ تأملوا قوله تعالى: " فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ  النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ "[غافر: 45، 46]  فنجى الله ذلك الرجل المؤمن، وأغرق  فرعون وجنوده ، وهم الآن يعذبون بكرة وعشيا ويوم القيامة سيردون إلى أشد العذاب .
4 - وهذا الإمام البخاري: ـ صاحب الجامع الصحيح ـ تعرض هو الآخر للمكر والخديعة ، وكان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك! فيقول: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " [النساء 76] ويتلو عليهم قوله تعالى : " وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه" [فاطر: 43]
5 – و يروي أن احد الملوك كان له كثير من الخدم والحاشية، وكان من بين هؤلاء واحد يحبه الملك ويقربه ، ويكثر من إكرامه والثناء عليه أمام الناس ، فحسده أحد الوزراء  و مكر به ، فدبر له مكيدة ، حيث دعاه إلي الغداء ; و قدم له طعاما  و أكثر له فيه من الثوم والبصل ، و قال له إذا ذهبت إلى الملك فلا تنسي أن تضع يدك علي فمك  حتى لا يتأذي الملك من رائحتك ، ثم سبقه  إلي الملك وقال له  أن ذلك الرجل الصالح الذي تقربه إليك يقول عنك أن رائحتك  نتنة ،  فغضب الملك وأمر الحرس أن يؤتوا  بذلك الرجل ، ولما دخل الرجل على الملك وضع يده على فمه كما أوصاه من مكر به، فقال له الملك اقترب مني ،  فرفض الرجل أن يقترب مخافة أن يتأذى الملك من رائحة الثوم والبصل  ، وهنا  ظن الملك أن الرجل قد عافه  واعتقد أن كلام الوزير الماكر صحيحا ، فأعطى الرجل ورقة مطوية فيها أمر بقتله  ،  وقال له اذهب بها  إلي كبير الخدم وسوف يعطك هدية ، فذهب المسكين وهو لا يدري ما سوف يفعل به، فقابله الوزير الماكر وقال له : ماذا فعل بك الملك ؟ قال الرجل: لقد أعطاني هدية وانأ ذاهب إلي كبير الخدم حتى يعطيني إياها ، فاغتاظ الوزير و لكنه كظم غيظه ، و طلب من الرجل أن يهب له هذه المكافأة لأنه في حاجة إليها ، فوافق الرجل وأعطاه الورقة .
 فكانت النتيجة : أن قتل الوزير الماكر و نجا ذلك  الرجل الصالح ، و فهم الرجل ما فعله الوزير به وقص على الملك قصته ، فتعجب الملك ، وقال : ( و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) .
وصدق من قال : ومن يحتفر بئراً ليوقع غيره...سيوقع يوماً في الذي هو حافر
الخاتمة
أيها الإخوة من خلال ما سبق بيانه يمننا أن نستخلص جملة من النتائج ، أهمها :
1- أن المكر صفة قبيحة ذميمة إذا صدرت من البشر ،  وأما إن كان من الله فهو العدل والمجازاة .
2- أن المكر السيئ لا يعود و باله إلا على الماكر نفسه.
3-  أن الغدر والكيد والخداع والاحتيال شقائق المكر، وتجمعهم غاية واحدة وهي إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر.
4-  أن الماكر ملاحق من قبل الله في الدنيا بالتعقّب ورد مكره إليه ، وفي الآخرة متوعّدٌ بالنار .
وأخيرا نقول كما علمنا الله في كتابه ( و أفوضي أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) فاللهم إليك فوضنا أمورنا ، فأنت حسبنا ونعم الوكيل ، عليك توكلنا وبك نستعين ، فاجعل اللهم كيد من يريده في نحره يصلى به وريده ، و أمنا اللهم في أوطاننا ، و و فق و لاة أمرنا إلى ما تحبه وترضاه ،  واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأولي الفضل علينا ، ولكل مسلم ومسلمة ، واجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك ، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .



[1] لسان العرب [5/ 183]
[2] أخرجه البخاري رقم : 3029
[3] [صححه الألباني في صحيح الجامع (1057)].
[4] [رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وحسنه المنذري]
[5] [رواه البخاري].
[6] التحرير والتنوير. 22 / 335