محامد
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
أجمعين ،
أما بعد /
مقدمة
أيها الإخوة الكرام : قد كانت لنا في الجمعة الفارطة وقفة مع
قوله تعالى : " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
" وسنقف اليوم قليلا مع قوله جل ثناؤه : " وَلَا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ
الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً" )فاطر: 43(
هذه الآية تتحدث عن سنة جارية لا تتبدل و لا تتغير إلى يوم
الدين ، وتقرر قاعدة مطردة ينطبق حكمها على كل ماكر ومخادع في سائر الأزمنة
والأمكنة ، وهي أن المكر السيئ لا يحيق - أي لا يحيط - إلا بأهله ، بذلك حكم الله
في الأزل ( والله يحكم لا معقب لحكمه )
تعريف المكر
والمكر في اللغة : يطلق على الاحتيال والخداع ، وقال ابن
منظور في لسان العرب : " المكر: احتيال في خُفية.."[1]
والمكر في الاصطلاح الشرعـــي نوعان : مكر حسن ممدوح ، ومكر
سيء مذموم :
[أ] فأما المكر الحسن فيشمل
أمرين :
أحدهما: المكر الذي وصف الله به نفسه في
قوله تعالى : " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " [الأنفال:30].
ومعناه: أن الله تعالى يجازي الماكرين برسله و أوليائه ،
فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن ، فيكون المكر منهم أقبح شيء ، ومن الله تعالى
أحسن شيء ؛ لأنه عدل ومجازاة .
والثاني: المكر بأعداء الله في الحروب ، وهو
استعمال الحيل الخفية معهم من أجل إيقاعهم في الهزيمة ، وفي الحديث : " الحرب خدعة "[2] .
[ب] وأما المكر السيئ فهو
تدبير المكائد للغير من أجل إيذائهم من حيث لا يشعرون .
المكر السيئ من أكبر الكبائر
والمكر السيئ : صفة قبيحة وذميمة ، لا يتصف بها إلا المنافقون وشرار
الخلق ، كما قال تعالى : " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ " [النساء:142] وقد توعّد الله من اتصف بهذه الصفة أن يردَّ مكره إليه في الدنيا ، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب و الحرمان من
الجنّة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكر والخديعة في النار "[3] وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنّة خِبٌّ ، ولا منّان ، ولا بخيل "[4] والخِبُّ: هو الرجل
الماكر الخدّاع . وقال صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يُعرف به"[5]
عاقبة المكر والخديعة
وقد بينت هذه الآية أن مكر الماكرين وخداع المخادعين سيحيط بهم لا محالة ، وسيعود عليهم
حسرة و وبالا ، وخزيا وندامة ، قال محمد بن كعب القرظي: " ثلاث من
فعلهن لم ينج حتى يُنزل به : من مكر أو بغي أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله تعالى :
( وَلَا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) , ( إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ), ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ)"
وهذه قاعدة مطردة في كل ماكر ومخادع إلى يوم القيامة ، والدليل
على ذلك أمران :
أحدهما: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ وبناء على ذلك فإنه يدخل في هذه الآية كل مكرٍ
سيء ، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: - مبيناً
علة
اطراد وثبات هذه القاعدة – " لأن أمثال هذه المعاملات
الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض ،
والله
بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض ؛ لأن الإنسان مدني بالطبع ، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكر
بعضهم لبعض ، وتبادروا الإضرار والإهلاك
؛ ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه ؛
فيفضي
ذلك إلى فساد كبير في العالم ، والله لا يحب الفساد ، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء "….
[6]
والثاني: أن الله تعالى قال بعد هذه الآية : " فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا " وفي ذلك إشارة إلى أن إحاطة المكر السيئ بأهله سنة ثابتة وجارية لا تتبدل و لا تتغير إلى يوم الدين .
والثاني: أن الله تعالى قال بعد هذه الآية : " فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا " وفي ذلك إشارة إلى أن إحاطة المكر السيئ بأهله سنة ثابتة وجارية لا تتبدل و لا تتغير إلى يوم الدين .
نماذج من المكر السيئ
وقد ذكر القرآن المجيد نماذج عديدة عن المكر السيئ وعاقبة أهله ، منها :
1 ـ ما قصه الله علينا عن
مكر إخوة يوسف بأخيهم ، إذ رموه في الجب
وادعوا أن الذئب قد أكله ، قال تعالى: "وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ" [يوسف: 102] فماذا كانت عاقبة
مكرهم ؟ لقد عاد مكرهم على غير
مرادهم
، وفاز يوسف بالعاقبة الحسنة ، والمآل الحميد ، ولولا أنهم تابوا وندوا لأخذهم
العذاب ولهلكوا شر هلاك .
- 2 ومكر المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذوا جميع الحيل لإيذائه ، وقررا قتله أو سجنه.... لكنه خرج من بينهم
سالما غانما دون أن يصلوا إليه بسوء
، " وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " (الأنفال: 30) ومكر به – أيضا - اليهود
والمنافقون و الأعراب ، ولما تزايد عليه المكر سلاه
الله بآية عظيمة ، تبعث على الثقة والطمأنينة، والأمل
والراحة ، وهي قوله تعالى : "
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" (النحل: 127).
وهذه التسلية ليست له وحده صلى الله عليه وسلم ، بل هي لكل داعية يسير على نهجه ممن قد يشعر بكيد الكائدين ومكر
الماكرين......فالله
حافظه من من كل ماكر وكائد وحاسد... نعم :قد يقع عليه شيء من الأذى لامتحان صبره ، و قد يبطأ
عليه النصر لابتلاء ثقته بربه ، ولكن
العاقبة
مظنونة ومعلومة ، وهي : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين
هم محسنون)
3- و كم مكر فرعون بموسى والذين آمنوا به ! ومن جملتهم ذلك الرجل الذي
عرف بـ (مؤمن آل فرعون) الذي قصّ الله
خبره
في سورة غافر ! فماذا كانت عاقبة مكر فرعون وجنوده ؟ تأملوا قوله تعالى: " فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ "[غافر: 45، 46] فنجى الله
ذلك
الرجل المؤمن، وأغرق فرعون وجنوده ، وهم الآن
يعذبون بكرة وعشيا ويوم القيامة سيردون إلى أشد العذاب .
4 - وهذا الإمام
البخاري: ـ صاحب الجامع الصحيح ـ
تعرض
هو الآخر للمكر والخديعة ، وكان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك!
فيقول: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " [النساء 76] ويتلو عليهم قوله
تعالى : " وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِه" [فاطر: 43]
5
– و يروي أن
احد الملوك كان له كثير من الخدم والحاشية، وكان من
بين هؤلاء واحد يحبه الملك ويقربه ، ويكثر من إكرامه والثناء عليه أمام
الناس ، فحسده أحد الوزراء و مكر به ، فدبر له مكيدة ، حيث
دعاه إلي الغداء ; و قدم له طعاما و أكثر
له فيه من الثوم والبصل ، و قال له إذا ذهبت إلى الملك فلا تنسي أن تضع يدك
علي فمك حتى لا يتأذي الملك من رائحتك ، ثم
سبقه إلي الملك وقال له أن ذلك الرجل الصالح الذي تقربه إليك يقول عنك أن
رائحتك نتنة ، فغضب الملك وأمر الحرس أن يؤتوا بذلك الرجل ،
ولما دخل الرجل
على الملك وضع يده على فمه كما أوصاه من مكر به، فقال له الملك اقترب مني ، فرفض الرجل أن يقترب مخافة أن يتأذى الملك من
رائحة الثوم والبصل ، وهنا ظن الملك أن الرجل قد عافه واعتقد أن كلام الوزير الماكر صحيحا ، فأعطى
الرجل ورقة مطوية فيها أمر بقتله ، وقال له اذهب بها إلي كبير الخدم وسوف يعطك هدية ، فذهب المسكين وهو لا يدري ما سوف يفعل
به، فقابله الوزير الماكر وقال له : ماذا فعل بك الملك ؟ قال الرجل: لقد أعطاني
هدية وانأ ذاهب إلي كبير الخدم حتى يعطيني إياها ، فاغتاظ الوزير و لكنه كظم
غيظه ، و طلب من الرجل أن يهب له هذه المكافأة لأنه في حاجة إليها ، فوافق
الرجل وأعطاه الورقة .
فكانت النتيجة : أن قتل الوزير الماكر و نجا ذلك
الرجل الصالح ، و فهم الرجل ما فعله الوزير به وقص على
الملك قصته ، فتعجب الملك ، وقال : ( و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) .
وصدق من قال : ومن يحتفر بئراً ليوقع غيره...سيوقع يوماً في الذي هو حافر
وصدق من قال : ومن يحتفر بئراً ليوقع غيره...سيوقع يوماً في الذي هو حافر
الخاتمة
أيها الإخوة من خلال ما سبق بيانه يمننا أن نستخلص جملة
من النتائج ، أهمها :
1- أن المكر صفة قبيحة ذميمة إذا
صدرت من البشر ، وأما إن كان من الله فهو
العدل والمجازاة .
2- أن المكر السيئ لا يعود و باله
إلا على الماكر نفسه.
3- أن الغدر والكيد
والخداع والاحتيال شقائق المكر، وتجمعهم غاية واحدة وهي إيصال المكروه إلى الإنسان
من حيث لا يشعر.
4- أن الماكر ملاحق من
قبل الله في الدنيا بالتعقّب ورد مكره إليه ، وفي الآخرة متوعّدٌ بالنار .
وأخيرا
نقول كما علمنا الله في كتابه ( و أفوضي أمري إلى الله
إن الله بصير بالعباد ) فاللهم إليك فوضنا أمورنا ، فأنت حسبنا ونعم الوكيل
، عليك توكلنا وبك نستعين ، فاجعل اللهم كيد من يريده في نحره يصلى به وريده ، و أمنا اللهم في أوطاننا ، و و فق و لاة
أمرنا إلى ما تحبه وترضاه ، واغفر اللهم لنا
ولوالدينا ولمشايخنا وأولي الفضل علينا ، ولكل مسلم ومسلمة ، واجعل خير أعمارنا
آخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك ، وصل اللهم وسلم على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق