......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 6 فبراير 2025

شهر شعبان وما اشتمل عليه من المَكْرُمات

 الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، شهادة نستعد بها إلى يوم لقائه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله على فترة من الرسل وحاجة من البشر، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح به آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا، وما فارق الدنيا عليه الصلاة والسلام حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه  أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"

أما بعدُ: أيها المؤمنون الأكارم: إن ربكم جل ثناؤه وتقدست أسماؤه يحبكم فأحبوه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه"[1]. ونعمه جل جلاله لا تنحصر في الماديات، بل تشمل أيضا ما تفضل به علينا من مواسم الخيرات، التي جعلها سبحانه وتعالى محطة لتطهير النفوس من السيئات، وشحن موازينها بالحسنات.

ألا وإن من أجلّ المواسم قدرا، وأكثرها منفعة وأجرا، (شهرُ شعبان) الزاخر بالبركات والخيرات الحِسان، وقد روي أنه ما سُمي بشعبان، إلا لكثرة ما يتشعب – أي يتفرّع - فيه من الخير والإحسان[2].

وتتجلى فضائل شعبان في ما اشتمل عليه من المكرمات، والتي نذكر منها في هذا المقام:

أولا - أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى؛ فعن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

 " ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[3].

وقد دل هذا الحديث الشريف على استحباب الصيام في شهر شعبان، كما دل على أن استحباب الصيام في شعبان معلل بأمرين:

أحدهما: أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، أي تعرض فيه صحائف أعمالنا على رب العالمين.

وثانيهما: أنه شهر يغفل الناس عنه؛ لكونه واقعا بين شهرين عظيمين، الأول شهر رجب وهو شهر حرام، والثاني: شهر رمضان وهو شهر الصيام والقيام، فكأن الناس اشتغلوا بهذين الشهرين وغفلوا عن شعبان.

ويستفاد من هذا فائدة جليلة وهي: (إستحباب القيام بالطاعة في وقت الغفلة)؛ والسر في ذلك: أن العمل في وقت غفلة الناس يكون أسرَّ وأخفى، وكلما كان العمل أخفى كان للقبول أرجى، والله تعالى يحب من أحبائه أن يعاملوه سرا.

كما أن القيام بالطاعات في وقت الغفلة يكون أشق على النفوس؛ لقلة من يُقتدى أو يُستعان به، وكلما كان العملُ أشقَّ كان أعظم أجرا؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:  "إِنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ"[4].

ثانيا – ومن فضائل شعبان أنه شهر يغفر الله فيه لجميع عباده الأنقياء؛  لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»[5]. وفي رواية: (إلَى خَلْقِهِ).

والله عز وجل مطلع على جميع خلقه في سائر الأوقات، يعلم سرهم ونجواهم، وإنما المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يَطَّلِعُ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ). أي يتجلى على خلقه في تلك الليلة بمظهر الرحمة العامة والإكرام الواسع، وقيل: أي ينظر إليهم نظر الرحمة السابقة والمغفرة البالغة[6].

وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ كَيْسَانَ: (يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَمَنْ طَهَّرَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ زَكَّاهُ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلُ)[7].

وقيل: أن مغفرة الله لعباده في ليلة النصف من شعبان شاملة للصغائر والكبائر، وما ذلك ببعيد ولا عزيز مع كرم الله وسعة رحمته، وهو القائل جل ثناؤه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وإلى هذا المعني أشار سيدنا البصيري بقوله:

 يا نفس لا تقنطي من زلّة عظمت

                إنّ الكبائر في الغفران كاللّمم

لعلّ رحمة ربّي حين يقسمها

        تأتي على حسب العصيان في القسم

وإذا كانت ليلة النصف من شعبان مشتملة على كل هذا الفضل العظيم؛ فإنه ينبغي التعرض فيها لنفحات الرحمن الرحيم، ولا مانع من إحيائها بالذكر والتلاوة والصلوات والصدقات من غير اعتقاد سنية ذلك، وقد نص غير واحد من أهل العلم على استحباب إحيائها.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» يعني أن الله لا يغفر في تلك الليلة لكافر بأي نوع من انواع الكفر، ولا يغفر لمشاحن، أي: مباغض ومعاد لأخيه المسلم لحظ من حظوظ النفس الأمارة بالسوء، أو لأمر من أمور الدنيا الحقيرة، والحاصل: أن الله تعالى يسامح عباده في تلك الليلة عن حقوقه إلا الكفرَ به وحقوقَ عباده.

ويستفاد من هذا الحديث: أنه لا فائدة من صيام شعبان إذا ما كانت القلوب مسودة بالشحناء والأحقاد، وما في نحوهما كالحسد والكبر والعجب والرياء وسائر أمراض القلوب.

ولهذا فالمطلوب منا - أيها المؤمنون - أن نتخذ من هذا الشهر المبارك فرصة لمراجعة أنفسنا، وتصفية قلوبنا، ومضاعفة الأعمال الصالحة من صيام و صلاة وصدقة.. عسى أن تعرض أعمالنا على الله ونحن صائمون، ولعلنا نحظى في تلك الليلة بمغفرة ذنوبنا، ويُستجاب فيها لدعواتنا، وأستغفر الله العظيم لي لكم وللمسلمين كافة إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

أيها المؤمنون الكرام: إن شهر شعبان هو شهر الاستعداد الروحية والإيمانية لاستقبال رمضان، ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.

فصيام شعبان يعتبر تمرينا على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان فجأة فيجد فيه مشقة وكلفة، بل يتدرب على الصوم في شعبان، فإذا اعتاده سهل عليه بعدئذ صيام رمضان، فيدخل فيه بقوة ونشاط.

ولذلك قالت لُؤْلُؤَةُ مَوْلاةُ عَمَّارٍ: (كَانَ عَمَّارٌ يَتَهَيَّأُ لِصَوْمِ شَعْبَانَ كَمَا يَتَهَيَّأُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ)[9].

وقال ابن رجب الحنبلي: (كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان)[10].

فمن أهم أسباب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات: الإكثار في هذا الشهر من الصدقات، وقد دعوناكم قبل هذه الجمعة إلى الإسهام بقوة في جمع قفة رمضان؛ تضامنا مع إخواننا الفقراء في هذا الشهر الفضيل.

ومن أفضل القربات التي ينبغي الإكثار منها في شهر شعبان: تلاوة القرآن العظيم، وكذلك كان دأب السادة العارفين، من ذلك: أن عمْراً بنَ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ كَانَ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ. وقال سلمة بن كهيل: (كان يقال شهر شعبان شهر القراء)[11].  

فيا مَن ضَيَّع الأوقاتَ جهلًا

           بقيمتِها أفِقْ واحْذَرْ بَوَارَكْ

فسوف تفارقُ اللذاتِ قهرًا

       ويُخْلى الموتُ يومًا منكَ دارَكْ

تدارَكْ ما استطعتَ مِن الخطايَا

         بتوبةِ مخلصٍ واجعلْ مدارَكْ

على طلبِ السلامةِ مِن جحيمٍ

       فخيرُ ذوي الجرائمِ مَن تدارَكْ

اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص لوجهك الكريم، ولا تصرف قلوبنا عنك إلى سواك، ولا تصرف وجهك عنا بسوء فعالنا يا كريم، واغفر لنا ما قد مضى يا واسع الكرم، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا آخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، واغفر لوالدينا ومشايخنا وسائر المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، ويسر معيشتنا واحفظ ديارنا وأهلنا وأوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصر اللهم إخواننا في غزة وفلسطين وسائر بلاد المسلمين، واجعل لهم الغلبة على البغاة الآثمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.       

الهوامش

1- أخرجه الحاكم في مستدركه

2- نزهة المجالس ومنتخب النفائس1 / 160

3- أخرجه النسائى فى السنن الصغرى رقم :‏2329‏ 

4- أخرجه الحاكم في المستردك على الصحيحين رقم1733

5- رواه الطبراني في المعجم الكبير رقم 215

6- مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري 4 / 340

7- التبصرة لابن الجوزي 58

8- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي القاهري 2 / 263

9- التبصرة لابن الجوزي 57

10- لطائف المعارف 135

نفسه  135

هناك تعليق واحد: