......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 23 يناير 2025

من دروس الإسراء والمعراج

 الخطبة الأولى

 الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ: أيها المؤمنون الكرام: حديثنا اليوم يتمحور حول معجزة الإسراء والمعراج، التي أكرم الله بها نبيه في السابع والعشرين من شهر رجب على أشهر الأقوال، وذلك في العام العاشر من البعثة النبوية الشريفة.

والمراد بالإسراء: تلك الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، بواسطة البراق، وهو كائن أبيض عجيب، أكبر من الحمار وأقل من البغل، يضع حافره عند أقصى طرفه، وكأنّه يسير بسرعة الضوء، وكلمة (براق) تشير إلى اشتقاقها من البرق، فقوة الكهرباء قد سُخّرت في تلك الرحلة لسينا محمدﷺ.

وقد أشار القران الكريم إلى هذه الرحلة الأرضية في سورة الإسراء، في قوله تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

والمراد بالمعراج: ما عقب هذه الرحلة من عروج إلى السماوات العلا، حتى وصل إلى مستوى تنتهي عنده علوم الخلائق كلها، ولذلك سمي بسدرة المنتهى.

وقد أشار القران الكريم إلى هذه الرحلة الجوية في سورة النجم، في قوله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى  إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى).

ولقد اتفق جمهور العلماء على أن الإسراء والمعراج كلاهما كان يقظة، بالروح والجسد معا، ولا غرابة في ذلك؛ فإن فعل الإسراء ليس منسوبا للنبي بل هو منسوب إلى الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه؛ وقد قطع سبحنه وتعالى كل سبب للتعجب بقوله: (أَسْرى). وما دام الله هو الذي أسرى فلا عجب، لأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

أيها الإخوة الكرام: إن الإسراء والمعراج كلاهما قد حصل في ليلة واحدة، فهما من جملة المعجزات التي خص الله بها نبيهﷺ. والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة، الذي لا يمكن للبشر الإتيان بمثله إلى يوم الدين.    

وإن هذه المكرمة الألهية الجليلة تبرز لنا مكانة سيدنا محمد ومقامه السامي عند ربه عز وجل؛ حيث اطلعه الله على ما لم يطلع عليه أحدا سواه، وبلغ به مبلغا لم يبلغه قبله ولا بعده ملك مقرب ولا نبي مرسل، كمال قال البصيري رحمه الله:  

سَرَيْتَ مِنْ حَرَمٍ لَيْلاً إلى حَرَمٍ

        كَمَا سَرَى الْبَدْرُ فِي دَاجٍ مِنَ الظُّلمِ

وَبِتَّ تَرْقى إلى أنْ نِلْتَ مَنزِلَةً

        من قَابِ قَوْسَيْنِ لَمْ تُدْرَكْ وَلمْ تُرَم

وقَدَّمَتْكَ جَميعُ الأنْبَياءِ بِهَا

          وَالرُّسْلِ تَقدِيمِ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَمِ

 خَفَضْتَ كُلَّ مَقَامٍ بِالإِضَافَةِ إِذْ

          نُودِيْتَ بِالرَّفْعِ مِثْلَ المُفْرَدِ العَلَمِ

والمعنى: أنك يا محمد لما بلغت تلك المرتبة، خفظ مقامك كل المقامات، وخصك ربك بنداء مخصوص؛ لرفع شأنك بين الأنبياء، كما خُصّ المفرد العلم بالرفع دون أقسام المنادى في اللغة العربية.

ولقد اشتملت مكرمة الإسراء والمعراج على الكثير من العبر والدروس، التي لا يتسع المقام لذكرها، ولكن كما قيل: (ما لا يُدرك كله لا يُترك جله أو قُلُّهُ). وحسبنا من تلك الدروس في هذا المقاد درسان:

الأول: إن المحن مقدمة للتويج والتمكين

وذلك أن هذا التتويج الذي حظي به المصطفى إنما أتى بعد معاناة جسام، من حصار وتجويع في شعاب مكة مدة ثلاث سنوات، وأتى في أواخر عام الحزن، وهو العام الذي ماتت فيه زوجته خديجة رضي الله عنها، التي كانت تواسيه بمالها ونفسها، وتقف إلىى جانبه  في كل محنة وعسرة، وهو نفس العام  الذي مات فيه عمه أبو طالب، الذي كان  هو الآخر يدافع عنه ويحميه.. وبعد وفاته نال كفار قريش من النبي ما لم ينالوه منه في أي وقت مضى؛ ولذلك سمي هذا العام بعام الحزن، لشدة ما كابد فيه النبي من الشدائد والمحن، وفي تلك الأثناء خرج إلى الطائف لعله يجد فيها ناصرا أو مصغيا لدعوته، إلا أن أهلها قابلوه بأسوإ استقبال؛ إذ حرضوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة.

فخرج صلى الله عليه وسلم منهكا والدماء تسيل من قدميه، ودعا ربه قائلا: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس..).

وهنا جاءت مكرمة الإسراء والمعراج؛ تتويجا من الله تعالى لنبيه وتكريما، وتجديدا لعزيمته وتثبيتا؛ لتؤكد له وللدعاة والمصلحين والمجاهدين من بعده، أن ما يلاقيه المؤمن من محن في هذه الحياة، لا يعني أن الله تخلى عنه أو خذله، وإنما هو سنّة الله تعالى  في التعامل مع أصفيائه ومحبيه، ليهيأهم بذلك لتحمل جلائل المهمات وعظيم المسؤوليات.

 ثم لم يلبث بعد تلك المكرمة حتى جاءت الهجرة النبوية التي غيرت مجرى التاريخ.

وها هو التاريخ يعيد نفسه، فما حدث بالأمس للحبيب محمد ها هو يتكرر اليوم للمؤمنين المرابطين بغزة، فحُوصروا ومُنع عنهم الطعامُ والشراب، ودُمِّرت منازلهم من فوق رؤوسهم، وعُذِّبوا واضطُهِدوا وقُتِّلوا تقتيلا، وتُرِكت أجساد أطفالهم في الشوارع تنهشها الكلاب...

صور ما سرحت بالعين فيها

             وبفكري إلا خشيت الذهولا

ونشيد السلام يتلوه سفاحون

                 سنوا الخراب والتقتيلا

 وحقوق الانسان لوحة رسام 

               أجاد التزوير والتضليلا

ولكن – أيها الأحبة – رغم كل ذلك فإن يقيننا الذي لا ريب فيه، أنه كما مكن الله لنبيه بعد تلك المعاناة والآلام، فكذلك سيمكن لهؤلاء المؤمنين الصابرين، الحاملين للواء الجهاد في سبيل الله، فتلك إرادة الله التي لا تُقهر، ولن تجد لها تبديلا ولا تحويلا: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمُ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

ألا وإن من إرهاصات ومقدمات النصر الشامل، والتمكين الهائل بإذن الله، لحاملي لواء الجهاد في الأرض المقدسة، ما رأيناه من ثمار ونتائج معركة طوفان الأقصى، فعلى الرغم من قلة عددهم وضعف عدتهم، وعلى الرغم من الحصار والخيانة والخذلان، وعلى الرغم من تكالب قِوى الشر عليهم من يهود ونصارى وعربان...

فقد استطاعوا بصمودهم وبسالتهم أن يسقطوا خرافة الجيش الذي لا  يُقهر، فقتلوا أكثر من ألفين وخمسمائةِ صهيوني، وعوّقوا آلاف الجنود جسديا ونفسيا وذهنيا، ودمّروا نحو ألفٍ وخمسمائةِ  ما بين دبابة ومدرعة، وأسر وا أكثر من مائتين وخمسين بينهم رتب سامية، وهجّروا أكثر من نصف مليون من المستوطنين،  وشلّوا حركة الاقتصاد الصهيوني وألحقوا به خسائر فادحة، وأسقطوا صفقة القرن ومشروع التطبيع، ووأسقطوا مؤامرة الديانة الإبراهيمية وخطة تهويد الأقصى والضفة الغربية، وأفشلوا خطة تهجير شعب غزة إلى صحراء سيناء، وزعزعوا أمن الكيان الصهيوني ووحدته الداخلية، واخترقوا منظومته الأمنية، وكشفوا نفاق وخبث النظام العالمي المتصهين، وفضحوا خيانة الكثير من الأنظمة العربية وعمالة الطوائف السلفية، وأعادوا قضية فلسطين إلى مكانتها المحورية، وبعثوا روح الجهاد والاستشهاد في الأمة الإسلامية، وأعطوا للعالم صورة عالية عن سماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى، وأعادوا للأسـرى المحكوم علهيم بالإعدام أو المؤبد الأملَ في الخلاص والحرية.

وها هم اليوم يعدلون كفة الميزان، ويقهرون جبروت هذا الكـيان، ويرغمونه على الرضوخ لمطالبهم والاستسلام لشروطهم، والعاقبة للنصر الشامل والتمكين الكامل في المعركة الفاصلة بقدرة الله.                       

هم الرجال وعيبٌ أن يقال لمنْ

          لم يتصفْ بمعان وصفهم:رجلُ

ولقد ظلت العناية الإلهية تصحبهم من بداية معركتهم إلى نهايتها.. ويا لها من آية تلك النيران الملتهبة ذات الريح العاتية، التي سلطها الله على أمريكا الطاغية، الراعي الرسمي للحرب على غز ة والممول الرئيسي لها؛ والتي ترتبت عنها خسائر فادحة، تربو بكثيير عن خسائر تمويل تلك الحرب القذرة؛ مما اضطر الإدارة  الأمريكية إلى أن تضغط على ابنتها المدللة – إسرائيل - بأن ترضخ لشروط الرجال خاسئة ذليلة.

وبمثل ذلك نصر الله النبي وصحبه يوم الأحزاب؛ إذ سلط الله عليهم ريحا هوجاء اقتلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم؛ فولَّوْا على أدبارهم خاسئين وكفى الله المومنين القتال.

(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

(وما النصر إلا من عند الله)

فلله الحمد والمنة، وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على لطفه وتفضله وإحسانه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.

وبعد: فالدرس الثاني من دروس الإسراء باختصار، هو: (مكانة المسجد الأقصى وواجبنا نحوه). فقد شاء الله جل جلاله أن يحط نبيه رحاله بالمسجد الأقصى، قبل أن يعرج إلى سدرة المنتهى؛ وفي ذلك دلالة على ما لهذا المسجد من مكانة وقدسية عند الله تعالى، وأنه جزء لا يتجزء من مقدسات المسلمين، التي ينبغي أن يحافظوا عليها على مدى الأوقات والعصور، كما يحافظون على مكة والمدينة ونحوهما من المقدسات..

وأن لا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذا المسجد المبارك، وأن يعدوا العدة، ويعقدوا العزم على تحريره من رجسهم، كما حرره صلاح  الدين الأيوبي عليه رحمة الله، وكما حرر أجدادنا أرض الجزائر الطاهرة من رجس الغزاة الفرنسيين، ولن يعود لهذه الأمة مجدها وعزها، حتى تحرر المسجد الأقصى، وإن يوم تحريره لآت لاريب فيه، وكل آت هو قريب، ونسأل  الله تعالى أن يجعل لنا من شرف تحريره نصيبا، وأن يؤيد بنصره وتوفيقه أهلنا في غزة، الذين نذروا أنفسهم لحماية المسجد الأقصى، والدفاع عن شرف ومقدسات الأمة برمتها.

الدعاء...

 

 

هناك 4 تعليقات:

  1. جزاكم الله خيرا على ماتقدمونه من موعظة وارشاد تربط الأمة بتاريخها ومقدساتها

    ردحذف
  2. جزاكم الله خيرا سيدي كفيتم ووفيتم

    ردحذف
  3. شكرا جزيلا استاذ خطبة مناسبة جدا وتفي بالغرض بارك الله فيك

    ردحذف