الخطبة الأولى
الحمد لله الذي
تفرد بجلال ملكوتِه، وتوحّد بجمال جبروتِه، وتعزّز بعلوّ أُحَدِيَتِه، وتكبّر في
ذاته عن مشابهة كل نظير، وتنزه في صفاته عن كل تناهٍ وقصور، فسبحانه من عزيز، لا
حدَّ ينالُه، ولا مكانَ يُمسكه، ولا زمانَ يُدركه، ولا فهمَ يُقَدِّرُه، تعالى عن أن يقال: كيف هو؟ أو أين هو؟ علوا
كبيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ موقنٍ بتوحيده، مستجير بحسن تأييده. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده المصطفى، وأمينُه المجتبي، ورسوله المبعوث إلى كافة الورى، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الدُّجى، وعلى أصحابه مفاتيح الهدى، وسلم تسليماً كثيراً.
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»
أما بعدُ: أيها المؤمنون الكرام، في غضون هذا الأسبوع استقبلت أمتنا الإسلامية والعربية، مناسبتين هامتين، جيديرتان بالتأمل والتذكير، الأولى استقبال السنة الميلادية الجديدة، والثانية استقبال شهر رجب الحرام، والمؤمن كثير الاعتبار شديد الاتعاظ بتقلبات الزمان، واختلالف الليل والنهار، يحدوه في ذلك قول الحق تبارك وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[1].
فأما السنة
الجديدة:
فبدخولها نكون قد ودعنا عاما كاملا من أعمارنا، والإنسان في هذه الدنيا عبارة عن مجموعة أيام فإذا انقضى بعضها، فقد انقضى جزء من عمره، فكيف بمضي عام بأكمله، لقد مضى عام 2024م بما أودعنا فيه من أعمال، منها ما هو حجة لنا، ومنها ما هو حجة علينا، وإذا كان من طبيعتنا أننا نعمل ثم ننسى، فإن الله تعالى لا يسهو ولا ينسى، وسيواجهنا يوم القيامة بما عملنا، كما قال جل ثناؤه: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»[2].
لذلك يجدر بنا
أن نحاسب أنفسنا في مفترق الأعوام، فإن وجدنا خيرا حمدنا الله وشكرناه، وإن وجدنا
غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرناه، وجعلنا من السنة الجديدة نقطة تحول في حياتنا، فنندفع
إلى تعمير أيامها بصالح الأعمال، متذكرين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ
بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
مَغْرِبِهَا)[3].
ولا نكون
كأولائك الغافلين، الذين بدل أن يشتغلوا بمحاسبة أنفسهم، ويندموا على تفريطهم،
راحوا يقلدون النصارى في احتفالاتهم برأس السنة، ويشاركونهم في ضلالاتهم،
وفي اعتقاداتهم
الباطلة بأن عيسى عليه السلام إله
من
دون
الله،
أو
أنه
ابن
الله، مخالفين
قول الحق جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)[4].
ومناقضين قوله تقدست أسماؤه: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)[5]. قال أبو العالية وابن سيرين وغيرهما: أي لا يحضرون أعياد المشركين[6].
وأما
شهر رجب:
فهو أحد الأشهر الحرم التي فخم الله شأنها،
وحذر من إيقاع الظلم فيها، فقال جلت قدرته وتقدست
أسماؤه : (إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ
عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا
فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[7].
فظلم العبد لنفسه بالمعصية، أو ظلمه لغيره
بالاعتداء على دمه أو عرضه أو ماله... محرم على مدار أيام السنة، لكنه في الأشهر
الحرم أشد تحريما؛ لأن المعصية والطاعة كليهما تتضاعف فيها.
وقد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم الأشهر
الحرم بقوله: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)[8].
ورجب مشتق من الترجيب وهو التعظيم، ويسمى
بالأصم؛ لأن العرب كانت لا تسمع فيه صوت السلاح، ويسمى (رجب الفرد)؛ لانفراده عن
بقية الأشهر الحرم، ويسمى (رجب مضر) نسبة إلى قبيلة مضر، وإنما نسب إليها لأنها اشتهرت
بالمبالغة في تعظيمه، فكانت تحترمه أكثر من غيرها، ولا تغيره عن وقته كما يفعل عرب
الجاهلية، الذين كانوا يتلاعبون بالأشهر، ويغيرونها حسب أهوائهم، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا
النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ
عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[9].
وعلاوة على ما تقدم فإن شهر رجب قد امتاز
ببعض الفضائل والخصوصيات، نذكر منها:
1-
أن الله عز وجل أكرم فيه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمكرمة الإسراء والمعراج،
التي كانت على أشهر الأقوال في السابع والعشرين من شهر رجب، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وهي معجزة باهرة أطلع
الله نبيه عليه الصلاة والسلام في ليلتها على عجائب العالَم العلوي، وفضله بها على
سائر الأنباء والمرسلين، حيث بلغ صلى عليه وسلم منزلة، لم يبلغها قبله ولا بعده ملك
مقرب ولا نبي مرسل، كمال قال سيدنا البصيري رحمه الله:
خفضت
كلّ مقام بالإضافة إذْ
نوديت بالرّفع مثل المفرد العلم
2-
أن شهر رجب هو شهر الاستعدادات الروحية والإيمانية لشهر رمضان، قال أبوبكر البلخي: (شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، ورمضان
شهر حصاد الزرع)[10].
وقال بعض العارفين: (السنة مثل الشجرة، وشهر رجب أيام توريقها،
وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها)[11].
ومما يؤيد هذا أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب دعا فقال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَب،
وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ)[12].
3- أن رجب من الشهور المرغب في صيامها؛ وقد
نص علماؤنا على استحباب صومه من غير تحديد، باعتباره شهرا حراما، جاء في الرسالة
لسيدنا أبي زيد القيرواني رحمه الله: (وَالتَّنَفُّلُ
بِالصَّوْمِ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَرَجَبَ).
4- ومن فضائل رجب ما رواه الشافعي في كتابه الأم، قال: (وَبَلَغَنَا
أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسِ لَيَالٍ: فِي
لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْأَضْحَى، وَلَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ)[13].
5- وفي شهر رجب من السنة التاسعة
للهجرة وقعت غزوة، تبوك التى تسمى بغزوة العسرة، وفيها تجلت تضحيات الصحابة رضي
الله عنهم، وتنافسهم في فعل الخيرات؛ ممتثلين قوله تعالى: (اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ، ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ)[14].
فجاء عثمان رضي الله عنه بخمسين فرسا وثلاثمائة
بعير بأحلاسها وأقتابها، وبألف دينار من ذهب نثرها بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ).
وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله: وهو
أربعة آلاف درهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (هل
أبقيت لأهلك شيئا)؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله.
وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائة أوقية من ذهب، وجاء العباس وطلحة رضي الله عنهما بمال كثير... فهل من متسابق إلى الخيرات اليوم نصرة لأهلنا وإخواننا في غزة، الذين فاقت محنتهم محنة غزوة العسرة؟
6- وفي شهر رجب كانت غزوة اليرموك في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث
توجه المسلمون في أربعين ألف مقاتل، إلى ملاقاة جيش الروم المؤلف من مائتين وأربعين
ألف، فنصر الله المؤمنين نصرا مؤزرا، وقد انهت تلك الغزوة وجود الروم في بلاد الشام،
وصدق الله العظيم إذ يقول: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ)[15].
7- وفي 27 رجب من عام 583هـ تم تحرير المسجد الأقصى المبارك من الصليبيين على يد القائد البطل
الصوفي الأشعري: صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، ونسأل الله تعالى أن يعجل بنصر
أحفاد صلاح الدين، المرابطين والمجاهدين في أرض غزة المباركة، وأن يطهر المسجد الأقصى
من رجس اليهود الاثمين، وأتباعهم الخونة الفاجرين.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه
ومن والاه
وبعد: فاستبقوا
الخيرات
أيها
المؤمنون،
وجاهدوا
أهواءكم
كما
تجاهدون
أعداءكم،
واغتنموا
فرصة شهر رجب
في عمل الصالحات واكتساب الخيرات؛
فإن
أحدكم
قد
لا
يدرك
هذا
الموسم
مرة
أخرى؛
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ).
وصدق من قال:
تَزَوَّدْ مِنَ
التَّقْوَىْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِيْ
إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيْشُ إِلَىْ الْفَجْرِ
فَكَمْ مِنْ عَرُوْسٍ زَيَّنُوْهَا لِزَوْجِهَا
وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهَا وَهِيَ لَا
تَدْرِي
وَكَمْ مِنْ
صِغَارٍ يُرْتَجَىْ طُوْلُ أَعْمَارِهِمْ
وَقَدْ
أُدْخِلَتْ أَجْسَادُهُمْ حُفرَةَ الْقَبْرِ
وَكَمْ مِنْ
صَحِيْحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
وَكَمْ مِنْ سَـقِيْمٍ عَاشَ حِيْنًا مِنَ
الدَّهْرِ
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وانشلنا اللهم من أوحال الغواية والشهوات والشبهات، واشف مرضانا وعاف مبتلانا ويسر أرزاقنا، واختم اللهم بالصالحات أعمالنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن علمنا ولسائر المسلمين والمسلمات...
اللهم الطف بأمة
سيدنا محمد وارفع عنها مقتك وغضبك، وأحقن دماءها وضمد جراحها ووحد صفوفها، واقهر يا
عزيز أعدانا قهرا يفصم حبلهم ويفني الدهر، ومن أرادنا بخير فوفقه اللهم لكل خير،
ومن أرادنا بسوء فاجعل تدبيره في نحره واشغله بنفسه...
اللهم أيد بنصرك وتوفيقك المجاهدين بأرض فلسطين، واجعل
لهم الغلبة على اليهود الآثمين، وأتباعهم الفاجرين، اللهم داو جرحاهم واشف
مرضاهم، وفُكَّ حصارهم، واربط على قلوبهم، وسدد رميهم، واحم ثغورهم..
يا قوي يا
متين، يا قريب يا مجيب، يا كهف الضعفاء، ويا سند من لا سند له، ويا منقذ الغرقى،
ويا منجي الهلكى، ويا مجيب دعوة المضطر إذا دعاه أدرك أهلنا في غزة بلطفك وعنايتك،
وأغثهم بنصرك وتأييدك، واجعل اللهم كيد اليهود والمنافقين في نحورهم يَصْلَى به
وريدُهم..
وصل اللهم وسلم
وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين، وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
[1] الفرقان 62
[2] المجادلة 6
[3] رواه مسلم في صحيحه رقم 31 - (2759)
[4] المائدة51
[5] الفرقان 72
[6] تفسير ابن كثير 130/6
[7] التوبة 36
[8] روه أحمد في مسنده رقم 20386
[9] التوبة 37
[10] لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي 1/121
[11] نفسه1/121
[12] رواه البيهقي في شعب الإيمان (3802)
[13] الأم للشافعي 1/264
[14] التوبة 41
[15] البقرة 249
ماشاءالله خطبة رائعة ماتعة جامعة مانعة
ردحذفجزاك الله خيرا الشيخ على كل من تقدمه من دروس وخطب لينتفع بها المسلمون.
ردحذفجزاك الله خيرا شيخنا الكريم
ردحذف