الخطبة الأولى
الحمد لله حق حمده، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده، نحمده
تعالى على لطفه وإحسانه، ونشكره على تفضله وإنعامه، ونسأله المزيد من أفضاله،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، ونشهد أن
محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)
أما بعدُ: أيها الإخوة المؤمنون:
إعلموا أن من أعظم الطاعات، وأفضل القربات، التي يُتقرب بها إلى
رب الأرض والسماوات، قضاء الحوائج وتفريج الكربات، وإدخال السرور على قلوب
المؤمنين والمؤمنات..
فعن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما
قالا:
«مَنْ
مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَظَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخَمْسَةٍ
وَسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَدْعُونَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ
حَتَّى يَفْرُغَ، فَإِذَا فَرَغَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَجَّةً وَعُمْرَةً» [رواه
الطبراني في المعجم الأوسط رقم 4396].
كما رُوي عن سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا فُلَانُ أَرَاكَ كَئِيبًا حَزِينًا، قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ، لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ، لَا وَحُرْمَةِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَلَا أُكَلِّمُهُ فِيكَ، قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَانْتَقلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنَسِيتَ مَا كُنْتَ فِيهِ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
«مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ
أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ،
وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ». [رواه البيهقي
في شعب الإيمان رقم 3679].
فانظروا أيها المؤمنون:
إلى فقه ابن عباس في
الدين، كيف جعله يترك الاعتكاف وهو من أجل العبادات، ثم هي في مسجد رسول الله صلى
الله عليه وآله سلم، حيث يكون الأجر مضاعفا أضعافا كثيرة ...
لكن ابن عباس حبر هذه الأمة،
قد ترك ذلك كله من أجل أن يفرج كربة عن مكروب، ويقدم خدمة لعبد ملهوف، ويدخل السرور على قلب مهموم.. وبيّن بأن ذلك
أرجح عند الله بكثير، من عبادة الاعتكاف في المسجد النبوي الشريف.
غير أن الناظر الى واقع
المسلمين اليوم قلما يجد اثرا لهذا النوع من الفقه!! فبعضهم يحج بين عام وآخر، وربما اعتمر في العام مرتين.. وبعضهم ينفق الأموال
الطائلة على مأدبات الأفراح، أو على ولائم الأطراح..
وبجوار أولائك وهؤلاء
ملهوفون..
- منهم من لم يجد ما يجري
به عملية جراحية لمريضه.. فهو يتفرج عليه كاتما أحزانه حتى يموت بين يديه!!
- ومنهم أيتام محرمون من
حنان الأمومة وعطف الأبوة، يفتقرون لأدنى مقومات الحياة، من مسكن وملبس ومطعم..
- ومنهم أرامل لا دخل لهن
ولا معيل.. وفقراء عاجزون عن توفير الكساء ولقمة العيش لأولادهم الضعاف..
- ومنهم شباب معرضون
للفتنة في دينهم.. لم يجدوا ما يكملون به نصف دينهم.. ومن هؤلاء من خطب زوجة وعقد
عليها.. ومرت أعوام وأعوام.. ولم يستطع البناء بها بسبب الفاقة والاحتياج !!
فيا أيها المؤمنون:
قولوا لي بربكم أيهما
أرجح عند الله؟ وأيهما اقرب رحما وأعظم أجرا..؟ إعانة ملهوف كهؤلاء وأولائك؟ أم
الاعتمار كل عام مرة أو مرتين؟ وما أشبه ذلك؟ وهذا علاوة على تبذير الأموال الطائلة
في الأفراح والمآتم وغيرها مما لا يخفى عليكم ولا يحتاج إلى تبيان!!
إننا في حاجة إلى أن نعيد
نظرنا في فهمنا للتدين؛ فإن المقرر في الشريعة الإسلامية أن الطاعة يتأكد طلبها،
ويتعاظم ثوابها، على حسب ما يترتب عليها في الواقع من آثار، فكلما كانت الطاعة أنفع
وأعم، كان الثواب عليها أجزل وأعظم، فعمرتك أو قيامك لليل أو صيامك للاثنين
والخميس.. هو عمل تطوعي منفعته قاصرة على شخصك، بخلاف مساعدتك للمحتاجين فنفعها
متعدٍّ للآخرين، فيكون الثواب عليها أعظم، كما تقدم في حديث ابن عباس.
ولذلك لما سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قال:
«أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ
الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ
كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا». [رواه الطبراني في المعجم الأوسط6026].
ولا تحسبُنّ أيها الناس أن مساعدةَ المحتاجين وإغاثة الملهوفين.. نافلةٌ تطوعية، فمن شاء أداها ومن لم يشأ لم يؤدها!!
بل هي فريضة تفرضها علينا
أخوة الدين الإسلامي، التي جمع الله عليها أمرنا، فقال الله جل جلاله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ».
فأخوة الدين تفرض علينا التناصر والتآزر والتضامن.. ولذلك ربطها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقضاء الحاجات وتفريج الكربات، فقال عليه الصلاة والسلام:
«المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ
وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،
وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ
كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ» [رواه البخاري في صحيحه رقم 2442].
ونفى صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان عمن لم يراع مشاعر إخوانه كما يراعي مشاعره هو، فقال عليه الصلاة والسلام:
«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [رواه البخاري في صحيحه رقم13].
فمن واجب كل مسلم إذا رأى
إساءة نزلت بأخيه، أو فاقة وقعت عليه، أن يقف إلى جانبه، وأن يريه من نفسه الاستعداد
لمناصرته، حتى تُقضى حاجته وتنكشف غمته.
أيها المؤمنون:
إن أعباء الدنيا جسام،
والمتاعب تتهاطل فيها على الناس كتهاطل الأمطار، والإنسان وحده أضعف من أن يقف
طويلا في مواجهة هذه الشدائد.. وقد قيل: «المرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه»؛ فوجب على إخوانه أن يهرعوا
لنجدته، وأن يظاهروه في تفريج شدته وقضاء حاجته؛ عملا بقوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ».
فالتعاون على أعباء
الدنيا ومشكلاتها هو أساس العلائق بين الناس، ولو فقه الناس هذه الحقيقة، وطبقوا
هذا المبدأ لعاشوا سعداء مطمئنين، ولو أدى الأغنياء زكاة أموالهم إلى مستحقيها، لما
رأينا فقيرا كاسف البال مكسور الجناحين!!
وكلما ازدات مواهب المرء ازدادت مسؤولياته تجاه إخوانه، فإذا رزقك الله مالا أو جاها.. فليس معنى ذلك أنه فضلك واجتباك؛ بل ليربط بعنقك حاجات لا تقضى إلا عن طريقك، فإن أنت قضيتها فقد قمت بالحق المفروض فيها، وأحرزت الثواب عليها، وإلا فقد جحدت النعمة وعرضتها للزوال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعِمًا يُقِرُّهَا عِنْدَهُمْ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ فَإِذَا مَلَّوُهُمْ نَقَلَهَا مِنْ عِنْدَهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ» [رواه الطبراني في الأوسط رقم 8350].
أستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور ارحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعدُ: أيها المؤمنون:
إعلموا أن تفريج الكربات عن العباد، وادخال السرور على قلوبهم، لا
ينحصر في الماديات وحسب، بل يتعدى ذلك إلى كف الأذى، وستر العورات وإقالة
العثرات.. وحسن المعاملة ولين الجانب.. وطييب الكلام وطلاقة الوجه.. ويشهد لذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: «كُفَّ
أَذَاكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَنْ نَفْسِكَ». [رواه أحمد في مسنده
رقم21331].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالْكَلِمَةُ
الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ». [رواه البخاري في صحيحه رقم 2989].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَتَبَسُّمُكَ
فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ». [رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 891].
واعلموا أيها المؤمنون: أن
قمة الإيمان والسعادة أن يعيش المرء لإخوانه، يجبر خواطرهم، ويسعى في قضاء
حاجاتهم، ويقف إلى جانبهم في السراء والضراء.. وما قيمة حياة المرء أن يعيش لنفسه؟ !لا يهمه إلا بطنه وغرائزه ومآربه الخاصة..
ولله در الشاعر الحكيم؛ إذ يقول:
علمتني الحياة أني إن عشت
لنفسي أعش
حقيرا هزيلا
علمتني الحيــــاة أني مهـــــما
اتعلــــمْ فــــلا
أزال جهـــــولا
وإن في ما ذكرناه لعظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، جعلني الله وإياكم من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الدعاء...
بارك الله فيك
ردحذفماشاء الله ربي يبارك فيك ويحفظك شيخنا
ردحذف