الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده، الحمد لله الذي من علينا بالحرية والانتصار، بعد قرن وربع من الاحتلال
والاستدمار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
النبي المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، صلاة
وسلاما دائمين متلازمين ما بقي الليل والنهار.
أما بعد/ أيها الإخوة المؤمنون: في هذه
الأيام المباركات، نستقبل ذكرى الاستقلال والانتصارات الباهرات، ونحن نشهد أعظم
ملحمة جهادية، في سفوح غزة الأبية، عجل الله بنصرها على اليهود وسائر الجيوش
الباغية...
أَغَـزَّةُ يَا قِبْلَةَ الثَّـائِـرِيـنَا
وَيَا مَنْشَأَ الْبَأْسِ شِدِيدِ الْمِحَالِ
وَيَا مَعْقِـلَ الْفَاتِكِينَ الْكُمَاةِ
كَأُجْمِ
اللُّيُوثِ بِعُمْقِ الدِّغَـالِ
وَيَا غُـرَّةً فِي جَبِيـنِ الدُّنَا مَا
سَمِعْــنَا
بِنِدٍّ لَهَا فِي الْخَوَالِي
وَيَا مَرْبَضَ اللُّبُؤِ الْمُحْبِـرَاتِ
عَرَائِــنَ آسَـادِهَا بِالشِّـبَالِ
وَيَا سُلَّـمَ الْمُهَـجِ التَّائِقَاتِ
إِلَى
الِارْتِقَا لِلرِّيَاضِ الْعَـوَالِي
وَيَا لِلْبُطُولاَتِ تَفْدِي الْعَقِيدَهْ
وَتَحْمِي الْحِمَى بِالنُّفُوسِ الْغَوَالِي
سلامٌ عَلَيْكِ عِدَادَ انْهِمَارِ
دِمَا
الشُّهَـدَاءِ بِسَاحِ الْقِتَالِ
وَعَـدَّ نِزَالِكِ تِلْوَ النِزَّالِ
فِــدَاكِ
حَيَاتي وَقَوْمِي وَمَالِي
أيها لإخوة الكرام: إن الاستقلال من أجل النعم التي ينبغي أن نتذكَّرها
ونُذَكِّرَ بها، لنشكرَها ولا نكفرَها؛ امتثالا لقول الحق تبارك وتعالى: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الْاَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَّتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم
بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"[1].
فإن هذا النص القرآني ينطبق علينا في هذه البقعة المباركة من أرض
الله تعالى، فلقد أتت علينا مرحلة من الزمان استضعفنا فيها الغزاة الفرنسيون، فلم
نكن نأمن فيها على أنفسنا وأعراضنا وأموالنا... ثم أتت بشائر النصر المبين، وبدَّلنا
الله من بعد خوفنا أمنا، ومن بعد استعمارنا حرية وسيادة، وعادت جزائرُنا إلى حاضرة
الإسلام والعروبة، بعد أن أراد لها الأعادي أن تكون أندلسًا ثانية؛ فوجب علينا أن نتوجه
إلى الله حامدين وشاكرين، على ما منَّ به على من نعمة النصر والتمكين."وَمَا النَّصْرُ إِلَّا
مِن عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"[2].
ولا جرم أن ثورة نوفمبر المجيدة، وما نتج عنها من
نصر وسيادة وطنية، تشتمل على العديد من
العبر والدلالات، التي ينبغي أن نتدارسها، ونعلمها لأبنائنا وبناتنا، ونتأمل في
أبعادها ودلالاتها؛
لنستخلص منها الدروس والعظات، التي على أساسها
نبني حاضرَنا ومستقبلَنا، والتي نهتدي من خلالها إلى تحقيق ازدهار أوطاننا، ومن أهم
تلك الدلالات:
أولا: صليبية الحرب الفرنسية: فغاية الاستعمار لم تكن
الاستيلاء على مساحاتنا الخضراء وثرواتنا الطبيعية وحسب... بل كانت غايته الأساسية
تذويب الشخصية الجزائرية، ومحو الهُوية الوطنية، واجتثاث العقيدة الإسلامية، لتحل
مكانها العقيدة الصليبية، وهو ما شهد به الأعداء أنفسُهم، من ذلك ما صرح به وزير
الخارجية الفرنسية آنذاك قائلا:"إنها معركة الهلال والصليب ولا بد أن ينتصر الصليب". والحق ما شهدت
به الأعداء.
وفي مؤتمر أقيم بأسبانيا قال أحد المستشرقين
الفرنسيين:"هل تعتقدون أننا كنا نسخر نصف مليون من جنودنا في الجزائر من أجل
مساحاتها الخضراء؟ بل كنا نعتبر الجزائر الجسر الذي يعبر منه الفاتحون المسلمون،
بالتعاون مع إخوانهم الجزائريين إلى أربا الواهية"هـ
وحتى وإن لم يصرح الأعداء بهذه الحقيقة، فإن القرآن العظيم قد
تكفل بكشفها؛ ليكون المؤمنون على دراية بطبيعة أعدائهم، وخبث نواياهم، وما يبيتونه
في الخفاء للإسلام ومعتنقيه، فيحذروا الوقوع في مصائد أعدائهم.. ويكفي في ذلك قوله
تعالى: "وَلَن
تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ"[3]. وقوله جل ثناؤه: "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن
دِينِكُمُ إِنِ اسْتَطَاعُوا"[4].
فإن فعل: (لا يزالون) يفيد الدوام والاستمرارية، و(حتى) تفيد انتهاء الغاية،
والغاية -هاهنا- هي رد المسلمين عن دينهم، وهذا الرد:
- قد يكون بالوسائل القتالية: كما حصل ذلك
في ثورتنا التحريرية وما قبلها من المقاومات، وكما هو حاصل الآن في الأراضي
الفلسطينية... – وقد يكون بالوسائل الفكريةُ والثقافية:
وهي من أخطر أنواع القتال لخفائها عن عموم المسلمين، وقد ينخدعون بها من حيث لم
يدروا أن السم في العسل..
ومن هنا تعلمون - أيها المؤمنون الكرام - أن فرنسا وإن يئست اليوم من احتلال أرضنا،
فإنها لم تيئسْ ولن تيئسَ من محاربتنا بالوسائل الأخرى، التي من أبرزها وسيلة
التحريش بيننا، من أجل زعزعة أمننا واستقرارنا، وفصم وحدتنا الوطنية؛ وإذا علمنا
هذه الحقيقة فيجب أن نكون حذرين على الدوام من مكائد أعدائنا، متفطنين لأساليبهم
الشيطانية،
التي ما فتئوا يلقون بها إلينا؛ ليفسدوا علينا
ديننا وعقولنا، وليبثوا الفرقة في أوساطنا؛ حتى يسهل عليهم بعدئذ الوصول إلى ما
يصبون إليه في أوطاننا.
.ثانيا: ربانية الثورة الجزائرية: فبالمقابل لما ذكرنا من
صليبية الحرب الفرنسية، فإن ثورتنا
المجيدة قد تميزت بربانيتها وأبعادها الروحية، فلن نكون مبالغين أبدا، إن قلنا:
أنها لا تختلف عن بدر وأحد وحنين، والقادسية وحطين.. فكما يتدارس العالم الإسلامي
هذه الغزوات الكبرى؛ ليأخذ منها العبر والعظات، فكذلك ينبغي أن يتدارس غزوة نوفمبر
المجيدة؛ لأنها لا تختلف عن أخواتها في طبيعتها وخصائصها، وفي غايتها ومنهجها، وهو
ما عناه صاحب الإلياذة بقوله:
نوفمبر غيرت مجرى الحياة
وكنت نوفمبر مطلـع فجر
ذكرتنا في الجـزائر بدرا
فقمنا نضاهي صحابة بدر
ودلائل ذلك كثيرة ومعلومة، لكننا اليوم نواجه موجة من التضليل
والتعتيم، والتشويه المتعمد لتاريخنا المجيد، ومحاولات متكررة لتجريد ثورتنا من
روحانيتها الإسلامية.. فكان لابد من توضيح هذه الحقيقة لأجيالنا الصاعدة؛ ليعلموا
أن سر قوتهم، وعوامل انتصارهم، إنما تنبع من قيمهم الروحية والإيمانية؛ فيظلوا بها
متمسكين وعليها محافظين.
وتتجلى الأبعاد الروحية لثورة نوفمبر في مظاهرَ عدة، نذكر منها في
هذا المقام على سيبل المثال لا الحصر:
1-
ارتباطها بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله سلم في بدايتها وفي نهايتها.
- ففي بدايتها انطلقت يوم
الاثنين، السادس من شهر ربيع الأول، سنةَ ألفٍ وثلاثمائةٍ وأربعٍ وسبعين للهجرة،
وهذا لم يكن من قبيل الصدفة، بل هو اختيار من قادة الثورة البواسل؛ تَيَمُّنًا
بالمولد النبوي الشريف.
- ثم ختمت بالمباركة له صلى الله عليه وآله وسلم، حيث خرج
الجزائريون والجزائريات غداة الاستقلال؛ مرددين: (يا
محمد مبروك عليك الجزائر عادت ليك)
وإن في ذلك لرسالةً بعيدةَ
المدى لفرنسا وأذنابها، وللأجيال الصاعدة عبر التاريخ، بأن الجزائر محمدية، في
أصالتها وانتمائها، وفي غايتها ومناهجها.. ومن ظن أنها حادت عن هذا الأصل فقد أتى
شيئا فَرِيّا، ولقد كان من تمام هذه الدلالة: أن أُطلق اسم المحمدية على المكان
الذي كان يحمل خلال الاستعمار، اسم الكاردينال الفرنسي شارل لافيجري.
ومن تمام العناية
الإلهية بهذا الوطن المعطر بدماء الشهداء: أن شُيد على ذلك المكان أعظم مسجد في
العالم بعد الحرمين الشريفين، ثم أُنشئت به مدرسة وطنية عليا للعلوم الإسلامية،
فتلاشت بذلك كل المخططات الاستعمارية، الرامية إلى سلخ هذه الأمة عن هُويتها
العربية والإسلامية، وإن في هذه الإنجازات ذات الأبعاد المحمدية، لأمارةً على أن
في هذا الوطن رجالا أولي بقيَّة، يعملون بصمتٍ بكرةً وعشيَّة، على استكمال مسيرة شهدائنا
الربانية.. وبعون الله وتوفيقه ستظل الفيوض المحمدية، في تزايد مستمر على هذا
الوطن المعطر بدماء الشهداء المحفوف بكرامات الأولياء، بفضل اعتصامها واستمساكها بخير
البرية، صلى عليه وسلم سلاما زكيّا. ولقد صدق من قال شعرا:
من يعتصمْ بك يا خيرَ الورى شَرَفَا
فاللهُ حافظُه من كلِّ منتقمِ
ومن تكن برسـول الله نصرتـُه
إنْ
تلقْه الأُسْـدُ في آجامِها تَجِـمِ
2- كان التكبير هو الإشارة
الأولى لإطلاق الرصاص في ثورتنا، وهو النشيد الذي على أنغامه يُشيع الشهداء إلى
مستقرهم في دار الخلود، وفي ساحات الوغى لا تسمع إلا دوي البارود ممتزجا بصيحات (الله أكبر)، ورمزية هذا التكبير
غير خافية؛ فهو سر بعث القوة في نفس كل ثائر بالحق؛ لأن من أيقن أن الله أكبرُ من
كل شيء لم يخش أحدا سواه،
ومن هذا المنطلق قرر ثوارنا البواسل مواجهة فرنسا وقوات الحلف
الأطلسي، بما عندهم من إمكانيات بسيطة ومن أسلحة تقلدية؛ لأنهم أيقنوا أن الله
أكبر من كل قوة في العالم، فاعتمدوا عليه وحده ولم يَعْبَأُوا بأي قوة سوى قوته،
وهو ما انتهجه إخواننا اليوم في غزةِ الإباء والكرامة، فقرروا مواجهة الاحتلال
الغاشم، وحلفائه من النصارى والملحدين، وخونة العرب المنافقين... بما لديهم من عدد
وعدة، موقنين بأن اللهَ أكبرُ من أي قوة في الكون، وكما انتصرنا سينتصرون بإذن
الله، و "كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ".
ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ومن تولى فعليها، وما ربك بغافل عما
يعمل الظالمون... وواجب علينا أن نقف إلى جانب إخواننا، كل منا حسب طاقته وجهده، فهم
يدافعون عن شرف الأمة كلها، فإن نصرناهم نصرنا أنفسنا، وإن خذلناهم خذلنا أنفسنا، وإنهم
لمنتصرون بإذن الله، ولو حاربهم العالم أجمع؛ لأنهم على الحق المبين، "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". فلا غالب إلا الله، ولا مبدل لإرادة الله، وإرادة
المجاهدين من إرادة الله، وتخذيل المؤمنين عن الجهاد ديدن الشيطان الرجيم وأتباعه
الفاجرين، ولو تجلببوا بألف جلباب من جلاليب الدين.
3- كانت كلمة السر المتداولة بين المجاهدين في أول الثورة (عقبة/وطارق)، وفي ذلك إيماء لطيف
إلى أن ثورتنا كانت امتدادا لعمل الفاتحين، واقتفاء لأثر أسلافنا الأولين، ولا غرو
فإن معظم قادة ثورتنا كانوا من حملة القرآن العظيم، فأغلبهم تخرج من الزوايا
القرآنية، ومن كتاتيب جمعية العلماء المسلمين.. (كسي مصطفى بن بوالعيد، وديدوش مراد، والعربي بن
مهيدي، ومحمد شعباني، وسي الحواس، وزغيود يوسف، والعقيد عميروش..) وغيرهم جم غفير.. وقد حدثني بعض آبائنا الكرام:
أن العقيد عميروش كان لا يفارقه مصحفه في ساحات الوغى، وكان يحث جنوده على الصلاة
والصلاح، وكان يؤنب من يقول منهم لزميله: (أنت منين؟) حرصا منه على ترسيخ أواصر الأخوة الإسلامية، والوَحدة
الوطنية بين كافة الجزائريين، مهما تعددت أصولهم العرقية...
وكل ما ذكرناه في هذه الدلالة من مظاهر الربانية، إنما هو ترجمة
واقعية تطبيقية لما قرره البيان النوفمبري
الخالد؛ حيث نص صراحة على أن الهدف الأول للثورة هو تحقيق الاستقلال بواسطة:"إقامة الدولة الجزائرية
الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية".
ثالثا: الاستقلال نعمة تستوجب الشكر والرعاية
فيا أيها الإخوة الكرام: إن الله جل جلاله يقول: "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ
فَمِنَ اللَّهِ"[5]. فقوله: (من نعمة) نكرة؛ فتعم كل نعمة مهما كان نوعها ومهما كان
حجمها، ومن ذلك نعمة (النصر والاستقلال)، فهي من الله وحده، وهو القائل جل ثناؤه: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا
مِن عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ". قد يذهل بعضنا عن هذه النعمة، وهي من أجل النعم على
الإطلاق بعد نعمة الإيمان، فلولاها ما كنا لنأمن على أنفسنا وأهلينا، ولولاها ما
استطعنا إظهار شعائر ديننا، وهل يقام الدين ما لم يكن له وطن يحميه، وتقام فيه
أركانه وشعائره.. ومن هنا ندرك أن حفظ الوطن من حفظ الدين، وأن التضحية
للوطن تضحية لأجل الدين... فينبغي أيها المؤمنون الكرام: أن نستشعر جلال نعمة
الاستقلال، وأن نرعاها حق رعايتها، وأن نشكر الله عليها بكرة وأصيلا، لِيَلاَّ
نكون كمن نبأنا الله بأخبارهم، في قوله تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ
كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"[6].
فهذه القرية كانت آمنة مطمئنة، وبسبب أمنها كانت
أرزاقها تأتيها من كل مكان، فلما جحدت هذه النعمة، ولم تشكر الله عليها، ولم ترعها
حق رعايتها، أذاقها الله لباس الجوع والخوف، وقد ذكر الله لنا قصتها لنأخذ منها
العبرة والعظة، فنلحق الشبيه بالشبيه، والنظير بالنظير، وذلك معنى قوله جل وعلا:
"فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الاَبْصَارِ"[7].
فالحمد لله على نعمة النصر والتمكين، ونسأله تعالى أن يجعل جزائرَنا آمنة مطمئنة، وسائر بلاد المسلمين، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع الأمة، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد/
أيها المؤمنون الكرام:
الدلالة الرابعة: أن الاستقلال
مِنَّة تستوجب الشكر والوفاء للشهداء
فاستقلالنا هذا لم يقدم لنا على
طبق من ذهب، بل كان نتيجة لتضحيات جسام لا مثيل لها، فلم يشهد التاريخ بقعة من الأرض ارتوت بدماء الشهداء،
كأرض الجزائر التي دفعت ثمن استقلالها مليونا ونصف مليون من الشهداء أو يزيدون، وذلك
في ثورة نوفمبر خاصة، وإلا فإن عدد شهداء الجزائر قد تجاوز الخمسةَ ملايين، خلال حرب
دامت سبعين عاما، خاضها الجزائريون ضد الحملات الصليبية، في سبعَ عشْرةَ
مقاومةً خُتمت بثورة التحرير النوفمبرية.
وحينما نستعرض تلك التضحيات
الجسام، فإنما نريد أن نذكر أنفسنا وأبناءنا وبناتنا وسائر شعبنا بواجب الوفاء
للشهداء الأبرار، والوفاء للشهداء يقتضي الإقرارَ بفضلهم والشكرَ لهم، فكما يجب علينا أن نشكر لله
تعالى، يجب علينا أيضا أن نشكر للشهداء؛ امتثالا
لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ
اللَّهَ"[8].
فمن لم يقم بواجب شكر أهل الفضل
من الناس، الذين كانوا سببا في إيصال نعم الله إليه، لم يكن مؤديا لواجب الشكر لله
تعالى. وإن ما أحرزناه من نصر،
وما ننعم به اليوم من حرية وسيادة، فبفضل تضحيات الشهداء، الذين بذلوا أرواحهم ودماءهم رخيصة؛ من أجل أن
نعيش اليوم في وطننا آمنين مطمئنين، ومن أجل أن تظل الجزائر عربية مسلمة إلى يوم
الدين.. لذلك وجب علينا أن نشكرَ لهم، وأن نحفظَ
لهم معروفَهم وإحسانَهم إلينا. ومن مظاهر الشكر للشهداء:
- أن ندعوا لهم في صلواتنا
وخلواتنا وعلى منابرنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ
اصْطَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَجَازُوهُ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عنْ مُجَازَاتِهِ
فَادْعُوا لَهُ.. فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ يُحِبُ الشَّاكِرِين"[9].
- ومنها أيضا أن نحافظ على الأمانة التي استودعونا إياها،
والمتمثلة في المحافظة هذا الوطن، الذي سقوه بدمائهم الطاهرة الزكية. ومن وسائل حفظه:
1- أن نعمل
على بنائه، وعمارته بكل ما يوصل إلى الخير والنمو والازدهار.
2- وأن
نعمل على تعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية أواصرها بين أفراد شعبنا، بمختلف
مكوناته الثقافية، وأنسجته الاجتماعية، فلا فرق بين عربي وقبائلي، ولا بين شاوي
ومِزابي، ولا بين ترڤي ونَمُّوشي.. إلا
بالتقوى، فكلنا جسد واحد أبوه الإسلام وأمه الجزائر.. فالوحدة الوطنية هي السبيل إلى بناء الوطن،
والارتقاء به إلى مدارج الكمال، وتفويت الفرصة على أعدائه في الداخل والخارج، وهي
فريضة شرعية لا خيار لنا فيها، فواجب على كل فرد منا أن يعمل على إقامتها.
3- أن نحرص على أن نظل متمسكين
بقيمنا الروحية والإيمانية، وبأخلاقنا الإسلامية، فهي نهج أسلافنا، وهي عامل
انتصارنا، وهي سر قوتنا. ولله ما أروعها من كلمات تلك التي عبر بها شاعر ثورتنا عن
هذه الحقيقة، حيث قال:
ولولا الوفاء لإسلامنا
لما
قرر الشعـب يومـا مآله
ولولا استقامة أخلاقنا
لما أخلص الشعب يوما نضالـه
ولولا تحالف شعب وربٍّ
لما
حقق الرب يوما سـؤالـه
هو الدين يغمـر أرواحنــا
بنور اليقيـن ويرسي العداله
إذا الشعب أخلـف عهد الإلـه
وخـان العقيــدة فارقُـب زواله
4- أن يضع كل واحد منا في حسبانه أنه في ميدانه أو
في وظيفته – من أعلى السلم إلى أدناه - مكمل لمسيرة الشهداء الأبرار، ومجسد
لوصيتهم الخالدة، التي عهدوا بها إلينا على لسان الشهيد ديدوش مراد عليه رحمة الله،
حيث قال: "إذا متنا فدافعوا عن أرواحنا، نحن خلقنا من أجل أن نموت، ولكن ستخلفنا
أجيال لاستكمال المسيرة".
فإن هذا الإحساس من شأنه أن يلهب الحماسة في
نفوسنا، وينمي حب الوطن في قلوبنا، ويبعث
على الإخلاص والتفاني في أعمالنا، والنصر إنما يتحقق بالعمل، وإذا كان أسلافنا قد
انتصروا على فرنسا في ميدان القتال، فواجب علينا أن نعمل على أن ننتصر في بقية
الميادين، العلمية والاقتصادية والحضارية وغيرها،
لاسيما ونحن اليوم في زمن لا مكان فيه لأمة بين الأمم، ما لم تكن قوية بعلومها وباقتصادها
وجيوشها..
وفي الخاتم: نتوجه
إلى الله متذللين ومنكسرين، داعين ومتضرعين، راجين منه سبحانه وتعالى أن يعطينا
خير ما يعطي السائلين.. فاللهم يا أرحم الراحمين: ارحم شهداءنا الأبرار بواسع
رحمتك، وأسكنهم بفضلك ومنتك فسيحَ جنتك، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
واجعلِ اللهم بلادنا بلاد العلم والدين، وراحة المحتاج والمسكين، واجعل لها بين
الأمم حرمة ومَنَعَةً وصَولة، واجعل من السر المصون عزَّها، ومن الستر الجميل
حِرزَها.. وأيد بنصرك وتوفيقك المجاهدين بأرض فلسطين، واجعل لهم الغلبة على اليهود
الآثمين، وأتباعهم الفاجرين، اللهم داو
جرحاهم واشف مرضاهم، وفُكَّ حصارهم، واربط على قلوبهم، وسدد رميهم، واحم ثغورهم..
يا قوي يا متين، يا قريب يا مجيب، يا كهف الضعفاء، ويا سند من لا سند له، ومن منقذ
الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا مجيب دعوة المضطر إذا دعاه... أدرك أهلنا في غزة،
أغثهم بنصرك وتأييدك، بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبجاه الأنبياء والأولياء
والصالحين، واجعل اللهم كيد اليهود والمنافقين في نحورهم يَصْلَى به وريدُهم..
اللهم أمّنا في أوطاننا، ويسّر
معيشتَنا وأرزاقَنا، وأيّد بنصرك وتوفيقك ولاةَ أمورِنا، واجمع شملنا ووحد بين
صفوفنا، وانصرنا على من عادانا، وكن لنا ولا تكن علينا، وأصلح أزواجنا وذرياتنا،
واشف مرضانا وعاف مبتلانا، واختم بالصالحات أعمالنا....
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا
ونبينا ومولانا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين، ومن والاه إلى يوم الدين،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بارك الله فيك وفي علمك ونفع بك سيدي
ردحذفجزاك الله عنا خير الجزاء شيخنا الحبيب
ردحذف