......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الاثنين، 8 يوليو 2024

دلالات شهر الله المحرم وآفاق طوفان الأقصى المفخم

                  الخطبة الأولى

الحمد لله الذي تفرد بجلال ملكوتِه، وتوحّد بجمال جبروتِه، وتعزّز بعلوّ أُحَدِيَتِه، وتكبّر في ذاته عن مشابهة كل نظير، وتنزه في صفاته عن كل تناهٍ وقصور.. فسبحانه من عزيز، لا حدَّ ينالُه، ولا مكانَ يُمسكه، ولا زمانَ يُدركه، ولا فهمَ يُقَدِّرُه.. تعالى عن أن يقال: كيف هو؟ أو أين هو؟ علوا كبيرا..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ موقنٍ بتوحيده، مستجير بحسن تأييده.

وأشهد أن سيدنا محمداً عبده المصطفى، وأمينُه المجتبي، ورسوله المبعوث إلى كافة الورى..

صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الدُّجى، وعلى أصحابه مفاتيح الهدى، وسلم تسليماً كثيراً.

 «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»

أما بعـدُ: أيها الإخوة المؤمنون: ها هو شهر الله المحرم يهل علينا هلالُه، حاملا في طياته العديد من الذكريات الطيبات، والدروس الخالدات، التي ينبغي أن يتأملَها المؤمنون والمؤمنات؛ ليستلهموا منها العبر والعظات، وذكريات محرم ودلالاته  كثيرة ومتنوعة، نقف في هذا المقام مع أبرزها وأهمها:

الدلالة الأولى: أن شهر محرم هو بداية عام ونهاية آخر، فبدخول محرم نكون قد ودعنا عاما كاملا من أعمارنا،  قد مضى ذلك العام بما أودعنا فيه من أعمال، منها ما هو حجة لنا، ومنها ما هو حجة علينا، وإذا كان من طبيعتنا أننا نعمل ثم ننسى..

فإن الله تعالى لا يسهو ولا ينسى، وسيواجهنا يوم القيامة بما عملنا.. قال تعالى: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ». فجميع أفعالنا مُحصاةٌ علينا، مسجلة في ديوان عادل، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، كمال قال تبارك تعالى: «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا».

فكثير منا سوف يفاجأ يوم القيامة، بما لم يكن يتوقعه في سجل أعماله، وذلك معنى قوله تعالى: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ». أى ظهر لهم في صحائف أعمالهم ما لم يكونوا يتوقعونه، أو ما لم يكونوا يتوقعون المؤاخذة به..   

لأجل ذلك ينبغي أن نحاسب أنفسنا  في مفترق الأعوام، فإن وجدنا خيرا حمدنا الله وشكرناه، وإن وجدنا غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرناه.

روي عن الحسن البصري أنه قال : «ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة». فإذا كان مرور يوم واحد من عمر الإنسان، له كل هذه الأهمية، وهذه الخطورة، فكيف بمرور عام كامل من حياتنا !؟ ونحن نعلم يقينا أن كل عام - بل كل يوم- يمضي من أعمارنا، يقربنا نحو نهاية حياتنا الدنيوية، وابتداء حياتنا الأخروية، فإذ عرفنا هذه الحقيقة،          فينبغي أن نندفع إلى تعمير باقي أيامنا بصالح الأعمال، ولسان حالنا يقول:

وَا أَسَفًا قَدْ مَضَى عَامٌ مِنَ الْعُمُرِ

          مُخَبِّـرًا بِدُنُّـوِ سَـاعَـةِ السَّفَـرِ

وَلَمْ أَزَلْ غَافِلًا عَنِ الرَّحِيلِ وَقَدْ

 جَاوَزْتُ خَمْسِيــنَ حَوْلًا غَيْرَ مُعْتَبِرِ

وَالشَّيْبُ عَشَّشَ فَي رَأَسِي لِيُنْذِرَنِي

     وَالنَّفْسُ غَافِلَةٌ عَنْ أَصْدَقِ النُّذُرِ

أَمَا لَنَا فِي ابْيِضَاضِ الشَّعْرِ مُزْدَجَرٌ

     وَفِي صُرُوفِ الزَّمَـانِ خَيْرُ مُدَّكَرِ

بهذا المنطق ينبغي أن نحساب أنفسنا ونحن نستقبل عاما ونودع آخر من أعمارنا؛ والمحاسبة من أهم مقامات اليقين في علم التصوف، وقد أمر الله بها في محكم تنزيله فقال تقدست اسماؤه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ».


أما الدلالة الثانية : أيها المؤمنون: فهي أن شهر محرم شهر عظيم ومبارك، فهو أحد الأشهر الحرم التي فخم الله شأنها، وحذر من إيقاع الظلم فيها، فقال جلت قدرته وتقدست أسماؤه : «إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ».

فظلم العبد لنفسه بالمعصية، أو ظلمه لغيره بالاعتداء على دمه أو عرضه أو ماله... محرم على مدار أيام السنة، لكنه في الأشهر الحرم أشد تحريما؛ لأن المعصية والطاعة كلاهما تتضاعف فيها.

وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن شهر محرم هو أفضل الشهور على الإطلاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم». رواه النسائي  

وأيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عد  أفضل صيام التطوع ما كان  في شهر محرم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل». مسلم

وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم عاشوراء – وهو العاشر من محرم - فقال: «إني أحتسبُ على الله أن يُكَفرِّ  السنة  التي قبله». رواه مسلم

فهذه هذه ثاني وقفة ينبغي أن يقف معها المسلم في مقتبل هذا الشهر؛  ليعظمه ويستثمر أيامه في الإكثار من الصيام والقيام والصدقة والإحسان، وقراءة القرءان، وسائر الأعمال الصالحة.


وأما الدلالة الثالثة: فهي أن شهر محرم قدِ اشتمل على العديد من الأحداث الجسام، والانتصارات العظام:

1- ففي العاشر من محرم نصر الله نبيه موسى عليه السلام، وغرَّق فرعون قومَه، وقد وردت قصة ذلك في العديد من آيات القرءان العظيم، كقوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ».

وغيرها من الآيات التي تضمنت بيانَ مصائرِ الظالمين، وتقريرَ سنة الله التي لا تتخلف في انتصار الله لأوليائه، وتدميره لأعدائه..

ولقد كتب الله لنا أن نشهد اليوم أعظم ملحمة قتالية، بين أولياء الله وأخبث أعدائه، في أرض عزة العزة والإباء، التي أبلى أهلها بلاء عظيما، في مقارعة الاحتلال الغاشم، وأعطوا للعالم دروسا لا نظير لها في الشجاعة والتضحية والفداء، رغم قلة عددهم وضعف عتادهم، ورغم الحصار والخذلان، ورغم تحالف قوى الشر عليهم، من الصليبيين الآثمين، ومن العرب الخائنين... فصمدوا كالجبال الراسخات، أمام كل هذه الظروف القاسية، للدفاع عن أرضهم وأعراضهم ومبادئهم، وللذورد عن مقدسات الأمة بأجمعها، فكانوا بحق ممن قال الله في شأنهم: «فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».  

ولسان حالهم يقول:

يا آل صهيـونَ ذروا العَنادا   

           فلا رجوعَ اليومَ عن قتالِ

حتَّى نَفُكَّ عنْ وطْننا القيودا   

         بالدم منْ شرقٍ إلى  شمالِ     

أوِ ارقبـوا حـربا بلا نفادِ   

             والبغيُ منتـهاهُ للزوالِ

تاللهِ ما الحصار يُثْنِيَنَّا   

         عنْ عهْدنا لله ذي الجلالِ 

ولو أكلْنا العُشْبَ والترابا   

       إن الوفـا دينٌ على الرجالِ

لَأَكْلُ شَوْك أهونُ من هـوانٍ   

       فالعيــش دون كِبْرِيَاءَ غالِ

وإنهم لمنتصرون بإذن الله، فتلك سنة الله التي لن تجد لها تبديلا، وتلك إرادته التي لن تجد لها تغييرا، وذلك وعده الذي كان مفعولا؛ قال تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». وقال جل جلاله: «وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ».   

فالله الذي غرَّق فرعون وجنوده، ونصر موسى ومن معه المؤمنين، وقهر النمرود ونجى إبراهيم،  وهزم قريشا يوم بدر، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ونصر المجاهدين في الجزائر وهزم فرنسا وقوات الحلف الأطلسي...

هو وحده - جل جلاله - من سيرد العدوان عن إخواننا في غزة اليوم، هذا ظننا به، وهو يقيننا فيه.. بل إننا نأمل أن تكون هذه المعركة تمهيدا للمعركة الفاصلة، التي ستُنهي عهدَ الشر والطغيان، وتعيد لأمتنا عزها وأمجادها بإن الله تعالى.. 

وإذا كان الذين خويت قلوبهم من الإيمان، والذين باعوا دينهم ومبادئهم بعرض من الدنيا قليل، يخذلوننا ويثبطون عزائمنا ويخوفوننا بالذين من دون الله.. 

فإننا ولله الحمد نملك من المبشرات ما يجعلنا واثقين من نصر الله وتأييده، مهما ادلهمت الخطوب واشتدت المآسي، ويكفينا قوله تعالى : «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».  وصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا اليَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وَرَاءَهُ اليَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ»رواه البخاري

وقال عليه الصلاة والسلام: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» رواه أحمد

فهذا النص النبوي ينطبق تماما على هذه الطائفة الصامدة والمقاومة بأرض غزة المباركة.. 

وانظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ» 

ففيه إعجاز نبوي قد شاهده اليوم العالم كله، وهو هذا الخذلان الذي قد لحقهم من الدول العربية والإسلامية، وتلك اللأواء - أي البأساء والضراء- التي أصابتهم من خلال الحصار المفروض عليهم من العدو الصهيوني وحلفائه، وفيه بشارة نبوية بأن كل ذلك لن يضرهم بإذن الله..

وإنه لمن من أوكد الواجبات علينا اليوم، أن نقف إلى جانب إخواننا بكل ما نملك، بأموالنا، بأقلامنا، بدعواتنا، بأرواحنا ودمائنا، وبكل غالٍ ونفيس... ولله دَر البشير الإبراهيمي إذ يقول: «إن القدس أمانة الله في أعناقنا، وعهد عمر في ذمتنا؛ فلئن ضاعت منا ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون».

ورحم الله الشهيد نور الدين الذي كان لا يُرى مبتسما!؟ ولما سئل عن ذلك قال: «والله إني لأستحيي من الله أن يراني متسما وعلى أرض الإسلام قدم لكافر». عذرا أيها البطل الشهيد؛ فلقد ضاعت اليوم أرض الإسلام، وضاعت الكرامة، وانتُهكت الأعراض، وهلك أطفالنا جوعا، وانهملت الدماء كالسيول... والعرب والمسلمون ينفقون الأموال الطائلة على الملاعب والملاهي، وفي سهرات الخنا والغناء، وقنوات المجون.. فيا للعار والشَنَّار!! ويا للخزي والبوار!! لأمة باعت الشرف بالدولار!!

2- وفي الفاتح محرم من عام 1375هـ كان هجوم الشمال القسنطيني، بقيادة الشهيد زيغود يوسف رحمه الله، الذي فك الحاصر عن المجاهدين المرابطين في جبال الأوراس، وأكد للعدو والصديق شمولية الثورة التحريرية وشعبيتها، وأعطاها دفعا قويا؛ فأخذت تشق طريقها نحو فجر الحرية والسيادة..

وكذلك ستكون بإذن الله نتيجة هجوم طوفان الأقصى، الذي أنقذ المسجد الأقصى من مؤامرة التهويد، ولفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، بعد أن كادت أن تدفن في الطي النسيان، وأحيا روح المقاومة لدى جماهير أمتنا العربية والإسلامية، وكشف للعالم هشاشة الكيان الصهيوني، وأسقط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر.

أَغَـــــــزَّةُ يَا قِبــْلَـــةَ الثَّائِرِيــــــنَا    

       وَيَا مَنْشَأَ الْبَأْسِ شِدِيــدِ الْمِحَالِ

لَعَمْرِي لَقَدْ زَالَ عَنْ كُلِّ حُرٍّ    

        بِطُــوفَانِ أَقْصَاكِ كُـــلُّ اعْتِلاَل

وَسَاءَ صَبَاحُ الْيَهُودِ بِمَا قَـدْ     

     جَنَوْا مِنْ فَسَـــادٍ وَأطغى احْتِلاَلِ

وَعَجَّ النِّسَا بِالْعَوِيلِ وَلَوْلاَ الْـ     

        عِــلاَجُ جُنِنَّ لِهَـــــوْلِ انْذِهَالِ

وَبُسَّ السَّـلاَحُ الْمُدَرَّعُ بَسـًّا     

        وَأَعْيَا الْحَدِيــدَ صُمُودُ الرِّجَالِ

وَدُكَّ مَنِيعُ الْحُصــُونِ وَآضَ     

         مُنِيـفُ الْقِــلاَعِ كَهَيْلِ الرِّمَالِ

وفَرَّ الْجُنُودُ فِــرَارَ الْحَمِيرِ     

       إِذَا هَــــالَهَا قَسْـوَرٌ ذُو صُوَالِ

وَصَنَّ الْمَلاَجِـي بِكُلِ نَغِيـلٍ    

        صُنُونَ الْجُحُورِ بِصَنِّ الثَّعَالِ

 وَهَبَّتْ جُيُوشُ النَّصَـارَى بِطَا     

            ئِرَاتٍ شِــدَادٍ وَسُفْـنٍ ثِقَالِ

لِإِنْقَاذِ صَهْيُونَ مِنْ شَرِّ حَالٍ    

          فَبَـاؤُوا جَمِـيعًا بِأَنْكَى نَكَالِ

3- وفي شهر محرم كانت الهجرة النبوية، من مكَّةَ إلى المدينة، تلك الهجرة التي غيرت مجرى تاريخ العالم أجمع، وأنهت عهد الشرك والطغيان، وكانت سبيلاً إلى إنشاء الدولة الإسلامية؛ التي شعشع نورها في سائر البقاع والأصقاع، ولم تكن الهجرة النبوية فرارا من واقع أليم، بل كانت نصرة لدين الله، بتضحيات أكبر من تلك التي كانت تُقدم بمكة، وأي تضحية أكبر من ترك الديار والأموال، والأهل والأولاد، فالمهاجرون قد ضحوا بكل شيء، من أجل حفظ دينهم، لأنهم أدركوا – وهم أفقه الناس بمقاصد الشريعة- أنه «إذا حُفظ الدين حفظ معه كل شيء، وإذا ضاع الدين ضاع معه كل شيء» ولما ضحوا في سبيل حفظ دينهم بكل شيء، عاد إليهم كل شيء، عادت إليهم مكة، وعادت إليهم الديار والأموال.. ولو أنهم آثروا البقاء في مكة مع الأهل والبنين لضاع منهم كل شيء..

وهو ما يفعله اليوم أخواننا في غزة، فلقد ضحوا بأرواحهم ودمائهم وأولادهم ودورهم وأموالهم.. من أجل المحافظة على دينهم ومقدساتهم.. وكما عاد للمهاجرين كل شيء، سيعود لأهل غزة الصامدين كل شيء بإذن الله تعالى، وهو القائل جل ثناؤه: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ». فأي قوة في العالم يمكنها ان تقف أمام إرادة الله.

وإذا كان باب الهجرة قد أُغلق بعد الفتح، كما جاء في حديث البخاري ومسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا».

فإن باب الجهاد لا يزال مفتوحا، فهنيئا به لأهلنا في غزة، التي غدت معراجا إلى الدرجات العلى في جنات الخلود..

وكذلك باب الهجرة من الباطل والفساد، ومن الفتن والنفاق، ومن الشبهات والشهوات... لا يزال مفتوحا أمام كافة المؤمنين والمؤمنات..

وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم«الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». والهرج بسكون الراء  ما ترونه اليوم من كثرة الفتن وانقلاب الموازين، حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وصار المدافع عن أرضه إرهابيا، والمجرم المعتدي ضحية مدافعا عن نفسه...

وغيرِ ذلك من التناقضات التي نشهدها في هذا العالم المظلم،  فإن للمستمسك بالحق، وللمحافظ على دينه وعبادة ربه.. في ظل هذا الهرج أجر المهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله صلوا وسلموا على سيدنا وحبيبنا محمد ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطه المستقيم

أقول ما تسمعــون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفـروه إنه هو الغفور الرحيم


الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: أيها الإخوة الكرام: اعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم،  بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل، ولم يزل قائلا عليما، وآمرا حكيما: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

فاللهم وصل وسلم وبارك على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، خصوصا على أجلهم قدرا وأرفعهم ذكرا، ذوي المقام العلي والقدر الجلي، ساداتنا وأئمتنا الفضلاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة،

وعلى الحسنين الأحسنين، أبي محمد الحسن، وأبي عبدالله الحسين، وعلى أمهما الزهراء، وخديجةَ الكبرى، وعائشةِ الرضى، وبقية أزواج النبي المصطفى، وعلى الصحابة أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر الإسلام والمسلمين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، واخذل الكفرة والمشركين، وأصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين، وكن اللهم لإخواننا في غزة عونا ونصيرا، اللهم أيدهم بنصرك يا ذا العزة والجبروت، ودمر أعداءهم تدميرا،  واجمع شملنا ووحد كلتنا، وانصرنا على من خالفنا، ومن كادنا فكده، ومن خدعنا فاخدعه، ومن خذلنا فاخذله، ومن سعى بنا فلا تسعده..

ووفق ولاة أمورنا لما فيه خير العباد والبلاد، وحل بينهم وبين بطانة السوء، واحفظ بلادنا وأصلح أزواجنا وذرياتنا، واشف مرضانا وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، واختم بالصالحات أعمالنا..

اللهم ارفع عنا مقتك وغضبك، ولا تصرف وجهك عنا بسواء فعالنا، وأخرج حب الدنيا من قلوبنا، وأعذنا من غوائل أنفسنا..                             

واغفرِ اللهم لنا ولوالدينا، ولمن علمنا ولمن أحسن إلينا، ولسائر المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات،  

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

هناك 4 تعليقات:

  1. ماشاء الله تبارك الله الرحمان الرحيم دعواتكم

    ردحذف
  2. قولكم ان ( 3- وفي شهر محرم كانت الهجرة النبوية، من مكَّةَ إلى المدينة...) اتمنى ان يراجع لان الهجرة لم تكن في محرم
    بل كانت في شهر ربيع الاول. والسلام

    ردحذف
  3. بارك الله فيك شيخنا جزاك الله خيرا

    ردحذف
  4. جزاك الله خير اشيخنا الفاضل

    ردحذف