الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله الذي من علينا بالحرية والسيادة والانتصار، بعد قرن وربع من الاحتلال والاستعمار ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، صلاة وسلاما دائمين متلازمين ما بقي الليل والنهار.
أما
بعد
قال
الله تعالى: "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".
وقال تعالى: "وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ". وقال
تعالى: "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ".
أيها
الإخوة المؤمنون: امتثالا لما تضمنته هته الآيات البينات من إرشادات
وتوجيهات، فإننا نقف اليوم مع قصة تاريخية
من أيام الله تعالى؛ لنأخذ منها العبر والدروس والعظات، ألا وهي: ذكرى يوم الطالب 19
ماي 1956
فهي
من أهم ذكرياتنا التاريخية الخالدة، التي ينبغي أن نتدارس
قصتها، وأن نذكر بها شبابنا وطلابنا؛ ليتخذوا منها نبراسا مضيئا في مسيرتهم النضالية
لأجل بناء أوطانهم، وقد قال سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه وأرضاه: "كنا نُعلّم مغازي النبي صلى الله عليه
وسلم كما نُعلّم السورة من القرآن".
وهذا يفيد أن تعليم المغازي كان
موازياً عندهم في الأهمية لتعليم القرآن الكريم، والثورة الجزائرية بكل محطاتها
التاريخية لا تختلف عن تلك المغازي في غايتها ومنهجها، ومنها ذكري يوم الطالب، فقد
كان يوما شاهد ومشهودا في تاريخ ثورتنا المجيدة..
- شاهد
على تضحيات الطلبة الجزائريين، الذين ضحوا بمستقبلهم وبأنفسهم من أجل القضية
الوطنية، وشاهد أيضا على همجية ووحشية الاستعمار الفرنسي البغيض، وأساليبه القمعية
الممارسة على الطلبة المضربين خاصة، وعلى
الشعب الجزائري عامة.
-
وهو أيضا يوم مشهود: حيث شهدته
تلك الجموع الغفيرة من الطلبة الجزائريين، الذين لم يتخلف أحد منهم عن الاستجابة
للنداء الذي وجهته إليهم قيادة الثورة في 19 ماي عام 1956 من أجل الدخول في إضراب
عام.
فما إن وُجه إليهم ذلك النداء حتى غادروا مقاعد الدراسة عن آخرهم، فتيات وفتيانا، وفي الوقت نفسه التحقت مجموعات هائلة منهم بالكفاح المسلح، فبعد أيام قلائل من الإضراب التحق في الولاية الرابعة وحدها أكثر من 157 طالبا بصفوف جيش التحرير الوطني.
ولم يقتصر ذلك على طلبة المدارس النظامية من جامعات وثانويات وحسب، بل إن طلبة المدارس الحرّة، وطلبة المعاهد العلمية والزوايا القرآنية كانوا هم الآخرون في طليعة الملتحقين بالثورة المجيدة.
- فدار
الحديث بتلمسان التابعة لجمعية العلماء التحق حوالي خمسون طالبا من طلابها بجيش
التحرير، وقد استشهدوا جميعا في ميدان الشرف، وأسماؤهم مدونة إلى اليوم في لوحة
رخامية على مدخل دار الحديث.
- ومعهد ابن باديس بقسنطينة الذي تخرج منه 960 طالبا التحق عدد
هائل منهم بجيش التحرير أيضا؛ ولذلك أغلقته السلطات الاستعمارية في نفس السنة 1956،
وسجنت عددا من المدرسين به، منهم: محمد الصالح بن عتيق، وأحمد حماني وغيرهما رحمهم
الله جميعا.
وهذا على سبيل المثال لا الحصر فالقائمة طويلة جدا من طلبة الزوايا والكتاتيب...
ولقد كان في التحاق الطلبة الجزائريين بالثورة رسالة قوية للرأي العام العالمي، بأن كل شرائح المجتمع الجزائري - بمختلف مكوناتها ومستوياتها - ملتفة حول القيادة الثورية، مما أعطى دعما قويا لثورتنا المجيدة.
كما فند الطلبة الجزائريون بإضرابهم هذا كل ادعاءات الاستعمار وأكاذيبه، بأن الثورة لا وجود لها في الأوساط الشعبية، وأنها منحصرة في مجموعات إرهابية خارجة عن القانون، لا تمثل شرائح المجتمع الجزائري.
وقد أصدر الطلبة المضربون بيانا تضمن عددا من العناصر أهمها:
- 1 إدانة وحشية الاستعمار الفرنسي، وأساليبه القمعية، المرتكبة في حق الشعب الجزائري عامة، وفي حق الطلبة والمثقفين بصفة خاصة، كاغتيال الطالب زدور بلقاسم، والمأساة التي أصابت الشاب الإبراهيمي التلميذ بالمعهد الثانوي ببجاية الذي أكلته النار حيا في قريته التي أحرقها الجيش الفرنسي، وكإعدام الأديب الكبير أحمد رضا حوحو الكاتب بمعهد العلامة ابن باديس بقسنطينة، وكتعذيب الأطباء : هدام بقسنطينة، وبابا أحمد وطبال بتلمسان.
-2 توجيه نداء لكل الطلبة داخل الوطن وخارجه للالتحاق
بالثورة في الجبال.
3- دعوة الطلبة إلى الإسهام في تنوير الرأي العام الدولي بالقضية الجزائرية، وأحقية الشعب الجزائري في نيل حريته.
وهكذا تدعمت الثورة بالعديد من الطاقات الفكرية و العلمية من الطلاب، للعمل معها في صفوف جيش التحرير الوطني، كمجندين وصانعي قنابل و أطباء و ممرضين، وقد كان للطالبات الجزائريات الملتحقات بالثورة دور بارز في القيام بمهمة التمريض واسعاف الجرحى..
كما كان للطلبة والطالبات عموما دور هام في الدعاية والإعلام، ونقل أخبار الثورة الجزائرية وتطوراتها بواسطة المناشير والمقالات الصحفية المختلفة، من أجل إسماع صوت الثورة الجزائرية على الصعيد الدولي، والتحسيس بالقضية الجزائرية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية.
هكذا
- أيها الإخوة - كان هذا اليوم شاهدا إلى يوم الدين، على تضحيات الطلبة
الجزائريين، الذين قرروا ترك الدراسة والالتحاق بالكفاح المسلح، غير مفكرين في
مصير دراستهم ومستقبلهم الشخصي؛ لأنهم أيقنوا أن الواجب الثورى أسمى وأجل، وأن الجهاد
والتضحية بالنفس من أجل الوطن أولى من الدراسة ومن كل مصلحة شخصية؛
ممتثلين
لقول الحق تبارك وتعالى: "إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ
لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".
ومقتدين بأسلافهم من المهاجرين الأولين، الذين تركوا الديار والأهل والأولاد، وخرجوا
مهاجرين من أجل حفظ دينهم، لأنهم أدركوا أنه إذا حُفظ الدين حفظ معه كل شيء، وإذا
ضاع الدين ضاع معه كل شيء، ولما فعلوا ذلك عاد إليهم بعد فترة وجيزة كل شيء.. ولو
أنهم آثروا البقاء في دورهم مع الأهل والأولاد والأموال لضاع منهم كل شيء .
وهو ما فعله الطلبة الجزائريون تماما، إذ ضحوا بدراستهم، وضحوا بمستقبلهم الشخصي، ولبوا نداء الجهاد المقدس من أجل المحافظة على دينهم، ومعلوم أن الدين لا يحفظ ما لم يكن له وطن يحويه، تقام فيه أركانه وشعائره، ولذلك ينبغي أن ننتبه: أننا حينما نذكر التضحية لأجل الوطن، فينبغي أن نعلم بداهة أن حفظ الوطن من حفظ الدين.
أيها
المؤمنون الكرام: إننا حينما نستعرض تضحيات الطلبة بالأمس، فإنما نريد أن نهمس لطلبة
اليوم ونُهيبَ بهم ليكونوا خير خلف لخير
سلف، وأن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة ، تجاه دينهم وتجاه وطنهم وأمتهم...
فعليهم
تعلق أمتهم آمالها؛ ليكونوا حملة راية دينها، وليذودوا عن مقدساتها، ويحموا
ثوابتها ومرجعيتها من الأخطار الواقعة أو المتوقعة عليها...
فإن
الطلبة كانوا ولا يزالون القلبَ النابضَ للأمة؛
بما يحملون من إيمان بفكرة تقدم أوطانهم، وازدهارها وتحريرها من كل أشكال
التبعية الثقافية والاقتصادية وغيرها، وبما يحملون من حماسة واستعداد للتضحية، من
أجل الدفاع عن عقيدتهم وخدمة شعبهم ووطنهم،
فهم في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها،
شأنهم كشأن أصحاب الكهف الذين أثنى الله عليهم بفتوتهم فقال تعالى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْنَاهُمْ هُدىً).
لذلك
فإنّ الأملَ يحدونا أن
يكون طلابنا اليوم خيرَ خلف لخير سلف، وأن يكونَ همُّهم تحصيل العلوم النافعة، التي
يجعلون منها رمزا للنجاح، ووسيلة للنهوض بهذا الوطن المعطر بدماء الشهداء، والارتقاء به ليلتحق بركب الدول المتطورة،
وتشريفه في المحافل الدولية، ببراعة الاختراع والانجازات العلمية، وتمثيله بالسلوكات
الحضارية الراقية... وما ذلك بعزيز ولا بعيد إذا ما آمن أبناؤه وطلابه بقيمة العلم
والعمل، وأنهما سبيل التقدم والازدهار، فبهذا نحفظ امانة الشهداء، ونكون حقا خير خلف لخير سلف.
"وقُـــلِ اعْمَلــــُوا فَسَيَـــــرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُـــولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".
اللهم
لك الحمد على نعمة الحرية والسيادة والانتصار، ولك الحمد على نعمة العافية والأمن
والاستقرار.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، وتقبلهم بأحسن ما تتقبل به عبادك الصالحين، وجازهم عنا خير الجزاء، وأمِنا اللهم في أوطاننا، ووفق ولاة أمورنا إلى ما تحبه وترضاه، ووحد بين صفوفنا، واهد شبابنا وحسّن أخلاقنا ويسر أرزاقنا، واجمع كلمتنا على الحق والدين، وانصرنا على من عادانا، ومن أرادنا بخير فوقه لكل خير، ومن أرادنا بسوء فاشغله بنفسه واجعل تدبيره في نحره، وصل اللهم و سلم وبارك على سيدنا ونبينا و مولانا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
جزاكم الله خيرا شيخنا العيد
ردحذفالسلام عليكم ورحمة الله نشكر فيكم هذه المحبة والغيرة لأجل الوطن والدعوة إلى الاعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والربط بين الأحداث الوطنية وأحداث الأمة الإسلامية عبر تاريخها المجيد ، وكذا الحديث عن مجمل الأحداث المرتبطة بالذاكرة الوطنية وإيضاحها لأبنائنا . بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا .
ردحذفحفظك الله شيخنا الفاضل
ردحذف