يباح للمسافر -ذكرا كان أو أنثى- أن يجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت، وهما الظهران والعشاءان، ولا جمع في الصبح على أي حال.
قال سيدي خليل : [وَرُخِّصَ لَهُ جَمْعُ الظُّهْرَيْنِ .. بِلَا كُرْهٍ]. وكالكظهرين العشاءان وقد ورد التنصيص عليهما في الرسالة.
وقال شراح المختصر: الأولى للمسافر أن لايجمع بين الصلاتين، وأن يصلي كل صلاة في وقتها، وإن جمع بينهما فلا كراهة.
وللشيخ الأجهوري:
الجمع للظهريـن يوم الموقف ** يسن كالجمع بجمع فاعرف
وتركه أفضل في حال السفر ** كندب فعلـتـه بليلة المطــــــر
والجمع نوعان:
1- جمع تقديم : وهو أن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر، والمغرب والعشاء في وقت المغرب.
2- جمع تأخير: وهو أن يصلي الظهر والعصر في وقت العصر، ويصلي المغرب والعشاء في وقت العشاء.
ويكره أن يفصل بينهما بكلام أو بصلاة نفل، ويقيم لكل منهما اتفاقا، واختُلف في الأذان لهما، فقيل: يؤذن لكل منهما وهو المشهور، وقيل: لا يؤذن لأيٍّ منهما، وقيل: يؤذن للأولى فقط. [الدر الثمين284].
ويشترط لأباحة الجمع أن يكون السفر مباحا، ويحرم الجمع في السفر المحرم كالسفر للسرقة، ويكره الجمع في السفر المكروه كالسفر للهو، وإن وقع صح في كليهما على خلاف في المسألة.
ويشترط لإباحة الجمع أن يكون السفر برا، فلا يباح بحرا ولا جوا، وقد نص سيدي خليل على اشتراطه بقوله: [وَرُخِّصَ لَهُ جَمْعُ الظُّهْرَيْنِ بِبَرٍّ].
قال الشيخ الدردير - معلا ذلك :"قَصْرًا لِلرُّخْصَةِ عَلَى مَوْرِدِهَا". [الشرح الكبير 1 / 368].
يعني: أن رخصة الجمع وردت في سفر البر فتقصر عليه ولا تتعداه إلى غيره.
وبمثل هذا علله غير واحد من الشراح، ولم أجد -حسب بحثي المتواضع- في شروح المختصر ولا في غيرها من مراجع المذهب قولا مخالفا لما ذكر سيدي خليل، ولا أجزم بعدم وجود ما لم أجد.
وما دعاني للبحث هو أن الشيخ موسى إسماعيل -الذي يعد من أبرز أقطاب المذهب المالكي في عصرنا- ذهب إلى عدم اعتبار هذا الشرط، فللمسافر أن يجمع بين الصلاتين سواء سافر برا أو بحرا أو جوا.
فأردت أن أعرف إن كان لقوله هذا مستند في المذهب، أم أنه خرج عنه بالكلية إلى مذهب الشافعية، وعلى كل فقد ناقش المسألة مناقشة علمية لا نظير لها ولا مدفع لما أورد فيها من مرجحات، فانظرها في كتابه [الوجيز 2 /36].
ولا يشترط لإباحة الجمع أن يكون السفر طويلا، بل يجوز الجمع مطلقا ولو كان السفر دون مسافة القصر.
ولا يشترط أن أن يجد به السير - أي يجتهد في سيره لإدراك أمر هام - على المشهور خلافا لما في المدونة.
ولعدم اشتراط الطول والجد أشار سيدي خليل بقوله: [وَإِنْ قَصَرَ وَلَمْ يَجِدْ .. وَفِيهَا شَرْطُ الْجِدِّ لِإِدْرَاكِ أَمْرٍ].
وقوله: [فيها]. إشارة لما في المدونة، والمشهور خلافه كما تقدم، قال عليش في منح الجليل:"وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ جَوَازُ الْجَمْعِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَمْ لَا". [منح الجليل1 /416].
وتختلف صفة الجمع باختلاف أحوال المسافر، التي نص عليها سيدي خليل بقوله:
[بِمَنْهَلٍ زَالَتْ بِهِ، وَنَوَى النُّزُولَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَقَبْلَ الِاصْفِرَارِ أَخَّرَ الْعَصْرَ، وَبَعْدَهُ خُيِّرَ فِيهَا.
وَإِنْ زَالَتْ رَاكِبًا أَخَّرَهُمَا إنْ نَوَى الِاصْفِرَارَ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَفِي وَقْتَيْهِمَا، كَمَنْ لَا يَضْبِطُ نُزُولَهُ، وَهَلْ الْعِشَاءَانِ كَذَلِكَ؟ تَأْوِيلَانِ].
والحاصل مما ذكره أن للمسافر حالتين، تحت كلٍّ منهما ثلاث صور:
الحالة الأولى: أن تزول عليه الشمس في المكان الذي نزل فيه للاستراحة.
وهي المرادة بقول سيدي خليل: [بِمَنْهَلٍ زَالَتْ بِهِ] والمنهل: مكان نزول المسافر.
وتشتمل هذه الحالة على ثلاث صور:
1- فإن زالت عليه الشمس في مكان نزوله، ونوى الارتحال منه، والنزول مرة أخرى بعد غروب الشمس، فيصلي الظهر والعصر جمع تقديم قبل أن ينطلق في سفره، فيكون قد صلى الظهر في وقتها الاختياري، والعصر في وقتها الضروري المقدم الخاص بالمسافر.
وهذا مفهوم قول سيدي خليل: [وَنَوَى النُّزُولَ بَعْدَ الْغُرُوبِ].
2- وإن زالت عليه الشمس في مكان نزوله، ونوى الارتحال منه والنزول مرة أخرى قبل اصفرار الشمس، أي قبل دخول الوقت الضروري للعصر، صلى الظهر قبل أن ينطلق في سفره، وأخر العصر وجوبا ليصليها في وقتها الاختياري، فإن قدمها مع الظهر صحت، ويعيدها استحبابا في وقتها الاختياري بعد نزوله.
وهذا معنى قول سيدي خليل :[وَقَبْلَ الِاصْفِرَارِ أَخَّرَ الْعَصْرَ].
3- وإن زالت عليه الشمس في مكان نزوله، ونوى الارتحال منه والنزول مرة أخرى بعد اصفرار الشمس وقبل غروبها، صلى الظهر قبل ارتحاله، وخُيِّر في العصر، فإن شاء قدمها مع الظهر قبل أن يرحل، وإن شاء أخرها إلى إلى الاصفرار، أي إلى وقتها الضروري، والأولى تأخيرها؛ لأنه معذور بالسفر، والمعذور يجوز له تأخير الصلاة إلى وقتها الضروي، وإن أخرها فلا يؤذن لها؛ لكراهة الأذان في الضروري، وإن قدمها أذن لها تبعا للظهر؛ لأنه وإن كان ضروريا مقدما لها، فهو في حكم الاختياري.
وهذا معنى قول سيدي خليل: [وَبَعْدَهُ خُيِّرَ فِيهَا].
الحالة الثانية: أن تزول عليه الشمس وهو سائر في سفره.
وهي المرادة بقول سيدي خليل: [وَإِنْ زَالَتْ رَاكِبًا]
فقوله: [راكبا]. معناه: سائر في سفره ولو كان ماشيا كما فسره الشراح وهو المعتمد.
وتشتمل هذه الحالة على ثلاث صور أيضا:
1- إن زالت عليه الشمس، وهو وهو سائر في سفره، ونوى النزول في الاصفرار أو قبله أخر الظهر والعصر حتى ينزل فيصليهما جمع تأخير، ولا يجوز جمعهما جمع تقديم، وإن قدمهما صحت العصر ويعيدها استحبابا بعد نزوله.
وهذا معنى قول سيدي خليل :[أَخَّرَهُمَا إنْ نَوَى الِاصْفِرَارَ أَوْ قَبْلَهُ].
2- إن زالت عليه الشمس، وهو وهو سائر في سفره، ولم ينو النزول في الاصفرار ولا قبله، بأن نوى النزول بعد الغروب، فيصلي كل واحدة في وقتها الاختياري، بأن يصلي الظهر في آخر وقتها، ثم يدخل وقت العصر فيصليه في أول وقته، ويسمى هذا جمعا صوريا.
وإن جمعهما في هذه الحال جمع تقديم فالظاهر الإجزاء كما نص عليه الدسوقي.
وهذا معنى قول سيدي خليل: [وَإِلَّا فَفِي وَقْتَيْهِمَا].
3- وإن زالت عليه الشمس، وهو وهو سائر في سفره، ولم يكن وقت نزوله منضبطا، أي لا يدري متى ينزل؟ هل ينزل قبل الاصفرار أو في الاصفرار أو بعد الغروب؟ فحكمه كما في الصورة المتقدمة، بأن يصلي الظهر في آخر وقتها، ثم يدخل وقت العصر فيصليه في أول وقته، ويسمى هذا جمعا صوريا أيضا.
وإن زالت الشمس على من لا ينضبط وقت نزوله، وهو نازل فيصلي الظهر قبل ارتحاله ويؤخر العصر.
ومثلُ الجمع بين الظهرين الجمعُ بين العشاءين تقديماً وتأخيراً، بتنزيل الغروب منزلة الزوال، وتنزيل ثلث الليل الأول من الليل منزلة الاصفرار، وتنزيل طلوع الفجر منزلة الغروب.
قال سيدي خليل : [وَهَلْ الْعِشَاءَانِ كَذَلِكَ؟ تَأْوِيلَانِ]. أي فهمان لشارحي المدونة، وهما كذلك أي كالظهرين فيمن غربت عليه الشمس سائرا اتفاقا، وفي من غربت عليه نازلا على الراجح من التأولين.
وبناء على ذلك:
أولا: إذا غربت عليه الشمس وهو نازل
- فإن نوى الارتحال والنزول بعد الفجر جمعهما جمع تقديم قبل ارتحاله.
- وإن نوى النزول قبل الثلث الأول من الليل قدم المغرب وأخر العشاء وجوبا، فإن قدمها صحت مع الإثم، ويعيدها استحبابا قبل خروج وقها الاختياري.
- وإن نوى النزول بعد الثلث الأول من الليل وقبل الفجر خُيِّر في العشاء، والأولى تأخيرها كما تقدم في العصر.
ثانيا: إذا غربت عليه الشمس وهو سائر في سفره
- فإن نوى النزول في الثلث الأول من الليل أو بعده، وقبل الفجر أخرهما فيصليهما جمع تأخير.
- وإن نوى النزول بعد الفجر جمع جمعا صوريا، بأن يصلي المغرب في آخر وقتها الاختياري مراعاة للقول بامتداده للشفق، ثم يصلي العشاء في أول وقتها.
* ومن زالت أو غربت عليه الشمس وهو نازل، فجمع العصر مع الظهر، أو العشاء مع المغرب جمع تقديم، وفي نيته الارتحال والنزول بعد الغروب أو بعد الفجر أو لم ينو شيئا، ثم لم يرتحل لمانع أو لغير مانع، فقيل: يعيد الثانية أي العصر أو العشاء في وقتها الضروري، والمعتمد أنه لا إعادة عليه في وقت ولا في غيره.
[انظر: منح الجليل لعليش 1/ 419. لوامع الدرر للشنقيطي2 / 614].
* ومن ارتحل قبل الزوال، وأدركه الزوال سائرا، ونزل عند الزوال فجمع العصر مع الظهر جمع تقديم، يعيد الصلاة الثانية وهي العصر استحبابا في الوقت الضروري على الراجح، وهذا مقيد بما إذا جمع غير ناو الرحيل، أما إذا جمع وفي نيته الارتحال فلا إعادة عليه.
[انظر: شرح مختصر خليل للخرشي2 / 70].
ووإلى هتين المسألتين أشار سيدي خليل بقوله: [أَوْ قَدَّمَ وَلَمْ يَرْتَحِلْ، أَوِ ارْتَحَلَ قَبْلَ الزوَالِ وَنَزَلَ عِنْدَهُ فَجَمَعَ، أَعَادَ الثَّانِيَةَ بالْوَقْتِ].
والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق