يلاحظ في أوساط متعددة من الناس، الجرأة على اقتحام ساحة الفتوى، بلا مؤهل علمي معتبر، وبلا تهيب أو وجل، وكثير من هؤلاء - المقتحمين لهذا الميدان- ليسوا [من أهل الذكر]. الممكنين من فهم دلالات النصوص على الأحكام، والعارفين بمصطلحات الفقهاء وتعدد مدراكهم..
وإنما هم أصحاب قراءات سريعة في كتب المعاصرين أو مذكراتهم أو محاضراتهم، أما المصادر الأصلية للعلوم الشرعية فبينهم وبينها ألف حاجب، ولو قرأوها ما فهموها؛ لأنهم لا يملكون مفاتيح فهمها وهضمها، ومن قديم قال أبو حيان الأندلسي:
يَظُنُّ الْغُمْرُ أَنَّ الْكُتْبَ تَهْدِي ** أَخَـا فَهْــــــــمٍ لإدراكِ الْعُلُـومِ
وَما يَدْرِي الْجَهُولُ بأنَّ فِيْها ** غوامــضَ حَيَّرَتْ عَقْل الْفَهِيمِ
إذَا رُمْتَ الْعُلْومَ بِغَيْرِ شَيْـخٍ ** ضَلَلْتَ عَنِ الْصِّراطِ الْمُسْتَقِيْمِ
وَتَلْتَبِسُ الأمـورُ عَلَيْكَ حَتَّى ** تَكـونَ أَضَّلَ مِـنْ تُومَا الْحَكِيمِ
والأسباب المؤدية إلى الانزلاق في الفتوى كثيرة، ومن أهمها:
1- سوء فهم النصوص الشرعية، وعدم امتلاك الآليات اللغوية والأصولية، التي يتعذر بدونها تنزيل الأدلة الشرعية والقواعد العلمية على ما يناسبها من الوقائع والمسائل والفروع، وهو ما يسميه العلماء (بتحقيق المناط).
2- الجهل بمقاصد الشريعة وعلل أحكامها، فما من حكم شرعي إلا وله حكمة أو غاية مرسومة ، هي أساس تشريعه، فلا يصح أن يبتر الحكم الشرعي عن غايته أو يتـخذ وسيلة لتحقـيق غرض ينافي غرض الشارع فيما رسـم له مـن غاية أو مصلحة، ولذك قال الشاطبي: "فَلَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا الْأَحْكَامُ".[الموافقات1 / 319].
3- التجرؤ على مقام الفتوى وعدم التهيب من اقتحام مجالها، وهو من كبائر الإثم والفسوق، ففي الحديث: "أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ". [رواه الدارمي مرسلا].
وقد عُرف كبار فقهاء السلف بتهيبهم من الفتوى وتريثهم في أمرها.
قال أن عبد الرحمن بن أبي ليلى :
"أدْركْت عشْرين وَمِائَة من الْأَنْصَار من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل أحدهم عَن الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول".[صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن حمدان الحنبلي1 / 7].
وروي أنا مالكا رضي الله عنه: "سُئِلَ عَن ثَمَان وَأَرْبَعين مَسْأَلَة فَقَالَ: فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا لَا أَدْرِي.
وَقيل: رُبمَا كَانَ يسْأَل عَن خمسين مَسْأَلَة فَلَا يُجيب فِي وَاحِدَة مِنْهَا، وَكَانَ يَقُول: من أجَاب فِي مَسْأَلَة فَيَنْبَغِي من قبل أَن يُجيب فِيهَا أَن يعرض نَفسه على الْجنَّة وَالنَّار وَكَيف يكون خلاصه فِي الْآخِرَة ثمَّ يُجيب فِيهَا.
وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَقيل: لَهُ إِنَّهَا مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة فَغَضب وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعلم خَفِيف؛ أما سَمِعت قَول الله تَعَالَى {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا}". [آداب الفتوى والمفتي والمستفتي1 / 16].
4- التسرع وعدم الرجوع إلى المصادر العلمية الأصيلة، وإلى الثقات من أهل العلم، فربما قرأ أحدهم مقالا في الانترنت فيبادر إلى نسخه ولصقه، ثم ينطلق منه مرجحا بين الأقوال، أو داعيا إلى الخروج عن المذهب المتبع، دون دون تحقق من الضرورات المقتضية للخروج عن المذهب، ولا مراعاة للضوابط التي تتم في إطارها هذه العملية، التي تتطلب خبرا للشريعة وتصرفاتها، وللنفوس وتطلاعتها، فما يصلح فتوى لشخص قد لا يصلح لآخر؟ وقد سأل سائل ابنَ عباس: هل للقاتل توبة ؟ قال : لا. ثم سأله آخر في ذات المجلس هل للقاتل توبة ؟ قال نعم.
5- تتبع رخص العلماء النادرة بإطلاق، كفتيا إباحة الاستمناء بإطلاق المأثورة عن ابن حزم، وكفتيا جواز الاستمناء في نهار رمضان وعدم وجوب القضاء منه، التي نشرها فركوس على موقعه مخالفا بها الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، ومناقضا بها حكمة مشروعية الصيام المتمثلة في كسر شهوتي البطن والفرج، وفاتحا بها ذرائع الفساد بين شباب المسلمين.
وقد قيل: (من تتبع رخص العلماء تزندق). و(من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام).
6-الاعتماد على الخلافيات في تجويز الفعل، والقول بإباحته بمجرد كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، دون النظر إلى ما يشهد للقول بالإباحة من دليل راجح على القول بالمنع، والمقرر أن [الخلاف ليس من حجج الإباحة].
وانتهاج هذا المسلك يعتبر اتباعا للهوى، وتمييعا للشريعة لتنزل إلى مستوى سلوكات الناس ورغباتهم العادية، بدل السمو بها لتتلاءم مع شرع الله جل وعلا.
وقد رأيت - في واقعنا - أن بعض الناس - من العامة وأشباه الخاصة - يتبعون هذا المسلك المنحرف، فيبحثون عن تصيد الخلافيات، ليعدلوا عما هو مقرر في المذهب إلى ما تهواه أنفسهم من الخلاف، وقد شاع هذا الخلط في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل، مما جرأ العامة على التمرد على مرجعية الأمة ومذهبها المتبع، حتى أصبح كل من هب ودب يقول: مادام الأمر مختلفا فيه فلا حرج في الأخذ بأسهل الأقوال!!
وبالرجوع إلى المصادر العلمية الموثوقة وجدت أنه مسلك قديم، قد حذر منه العلماء واعتبروه خطأ جسيما، من ذلك:
- ما جاء في نقل الشاطبي عن الباجي أنه قال:
"وَكَثِيرًا مَا يَسْأَلُنِي مَنْ تَقَعُ لَهُ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْأَيْمَانِ ونحوها: لعل فيها رواية؟ أم لَعَلَّ فِيهَا رُخْصَةً؟ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا من الأمور الشائعة الجائزة.
ولو كَانَ تَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ إِنْكَارُ الْفُقَهَاءِ لِمِثْلِ هَذَا لَمَا طُولِبُوا بِهِ وَلَا طَلَبُوهُ مِنِّي وَلَا مِنْ سِوَايَ.
وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسُوغُ.
وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ، رَضِيَ بِذَلِكَ مَنْ رَضِيَهُ، وَسَخِطَهُ مَنْ سَخِطَهُ"هـ[الموافقات 5 / 91].
ثم عقب الشاطبي على هذا بقوله:
"وَقَدْ زَادَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ؛ حَتَّى صَارَ الخلاف في المسائل مَعْدُودًا فِي حُجَجِ الْإِبَاحَةِ.. وَهُوَ عَيْنُ الْخَطَأِ عَلَى الشَّرِيعَةِ حَيْثُ جَعَلَ ما ليس بمعتمد متعمدا، وَمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ حُجَّةً". [الموافقات5 / 92].
والله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق