......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأحد، 1 مايو 2022

الأحكام المتعلقة بصيام ست من شوال في المذهب المالكي

أولا: تحقيق المذهب في حكم صيام ست من شوال
ثبت في الخبر الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ".[رواه مسلم في صحيحه رقم 204-1164].
أي كأنما صام السنة كلها؛ وذلك لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضام بعشرة أشهر، وستة أيام من شوال بشهرين.
وإذن: فاستحباب صيام ست من شوال ثابت ثبوتا صحيحا.
غير أن مالكا رضي الله عنه كره إتباع رمضان بست من شوال، وقال في موطئه :
".. لَمْ أرَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَأنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْه أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ"[الموطأ رقم 1103].
وكراهة صومها هو المشهور، وعليه سار سيدي خليل فقال: "وَكُرِهَ الْبِيضُ: كَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ"هـ
وإنما كره مالك صيامها لئلا يعتقد الناس وجوبها مع طول الزمان ، كما كره أن تصام الأيام البيض لنفس العلة باطراد، وهي إيجاب ما لم يوجبه الشرع، سدا لذريعة الزيادة في الدين، لاسيما عند العوام.
قال القرافي: "وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ صِيَامَهَا فِي غَيْرِهِ - أي في غير شوال- خَوْفًا مِنْ إِلْحَاقِهَا بِرَمَضَانَ عِنْدَ الْجُهَّالِ".[الذخيرة2 / 530].
فإن كان الشخص عالما بدين الله جاز له صيامها مع نفسه من غير كراهة؛ إذ الحكم يدور مع علته عدما ووجودا.
ففي نقل الحطاب عن ابن رشد :"وَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ صِيَامُهَا".[مواهب الجليل2 /414].
فمالك رحمه الله لم يخالف بفتياه النص الشرعي، وإنما صانه من أن يؤول إلى مآل مناقض لمقصود الشرع، وهو ما فعله الخليفتان من قبله أبوبكر وعمر رضي الله عنهما؛ فقد روي أنهما كان لا يضحيان عن أهلهما لنفس العلة.
ولهذا قال شراح مختصر خليل : الكراهة مقيدة بأن يصومها متتالية، موصولة برمضان، معتقدا سنية اتصالها، وأن يتظاهر بصومها إن كان ممن يُقتدى به.
وبهذا يتجلى لنا أنه لا تناقض بين ما سار عليه خليل من ادراج صيام ست من شوال ضمن الصيام المكروه.
وبين ما سار عليه غيره من إدراجها ضمن الصيام المستحب، كابن جزي حيث قال: "وَالْمُسْتَحب: صِيَام الْأَشْهر الْحرم .. وَسِتَّة أَيَّام من شَوَّال"هـ
فقول خليل محمول على ما إذا صيمت جهرة متوالية موصولة برمضان، وقول ابن جزي وومن وافقه من فقهاء المذهب محمول على ما إذا صيمت خفية متفرقة غير موصولة برمضان.
وهذا التوفيق بين القولين هو لأجل المحافظة على مشهور المذهب، وهو الأنسب لجريانه على أصول المذهب من سد الذرائع وفتحها، ودوران الأحكام مع عللها.
ويُحتمل أن يكون ابن جزي وغيره قد اختاروا القول باستحبابها مطلقا؛ تمشيا مع القول بأن مالكا لم يبلغه الحديث المتقدم، وهو ما استظهره ابن رشد حيث قال:"لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ".[بداية المجتهد2 / 71].
ولا يقال: أن علة كراهتها المتقدمة لم يعد لها وجود، فقد رأيت بحكم مهنتي من يشرع في صومها في ثاني يوم من شوال، ويقول: عيدي لم يأت بعد، وإذا أتم صيامها قال: يا شيخ أنا عيدتُ اليوم، ورأيت بعضهم يتفاخرون بصومها فيأتوتون بالزلابية والتمر واللبن ويفطرون جماعيا في مدخل المسجد، في مظهر تتقزز منه النفوس لما يحمله من أمارات المراءاة والعياذ بالله.
وبهذا يتجلى لنا أن علة كراهة صيام أيام شوال مطردة، وأن نظرة فقهاء المذهب المالكي للمسألة، كانت نظرة مقصدية ثاقبة لا نظير لها، وأن قولهم باستحباب صوم ست من شوال عند انتفاء القيود المتقدمة، وكراهة صومها عند وجودها، يدل على عبقرية فذة في صناعة الإفتاء، وإجرائه على واقعية التشريع الإسلامي، ونهجه الوسط الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، وهذه - ولا شك - عبقرية نادرة اختص بها المذهب المالكي.
ثانيا: حكم صيام الأيام الستة بعد رمضان في غير شوال
قال فقهاؤنا أن فضيلة صيام ست من شوال تحصل لمن صامها في شوال أو بعده كذي الحجة مثلا، وأن الحديث إنما ذكر شوالا من باب التيسير على المكلف؛ لأن صومها بعد رمضان أسهل من صومها بعد ذلك بزمن بعيد.
ومن نصوصهم في ذلك:
- قال العدوي : "وَإِنَّمَا قَالَ الشَّارِعُ مِنْ شَوَّالٍ لِلتَّخْفِيفِ بِاعْتِبَارِ الصَّوْمِ، لَا تَخْصِيصِ حُكْمِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ فِعْلَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ الصِّيَامِ فِيهِ أَحْسَنُ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مَعَ حِيَازَةِ فَضْلِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ فِعْلُهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ حَسَنٌ أَيْضًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا بَعُدَ زَمَنُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ لِشِدَّةِ الْمَشَقَّةِ".[حاشية العدوي على الخرشي1 /243].
- وقال القرافي نقلا عن ابن العربي : "أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ - يعني مذهب مالك - فَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ شَوَّالٍ لَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ .. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظَرِ فَاعْلَمُوهُ".[أنوار البروق في أنواء الفروق 2 / 191].
ثالثا: حكم صيام ست من شوال لمن عليه قضاء من رمضان
يكره تقديم صيام ست من شوال على قضاء رمضان على المشهور، قال سيدي خليل عاطفا على مكروهات الصوم: (وَتَطَوُّعٌ قَبْلَ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ).
وإنما كُره التطوع قبل القضاء لأنه يفوت فضيلة تعجيله؛ فإن القضاء وإن كان واجبا على التراخي إلا أنه يستحب تعجيله؛ إبراء للذمة، وأداءً للواجب في أول وقته، فقد تعرض له العوارض فيعجز عن القضاء، وقد يدركه الموت ذلك.
قال خليل عاطفا على مندوبات الصوم: "وَتَعْجِيلُ الْقَضَاءِ".
فإن صام ستا من شوال قبل القضاء صح صومه مع الكراهة، قال الخرشي: "فَإِنْ فَعَلَ صَحَّ تَطَوُّعُهُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الزَّمَنِ لِشَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا عَلَيْهِ"[شرح مختصر خليل للخرشي2/ 245].
ويقابل المشهور ما لابن رشد، حيث ذهب إلى جواز تقديم التطوع على القضاء، محتجا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس قبل صلاة الصبح، مع أن قضاء الصلاة واجب على الفور، فكيف بقضاء الصيام الذي هو واجب على التراخي. [البيان والتحصيل 2 / 326].
رابعا: حكم الجمع بين نية القضاء وست من شوال
ذهب بعض فقهائنا إلى جواز ذلك، محتجين بالقياس على من نوى بغسله الجنابة والجمعة معا، وعلى من صلى الفرض ونوى به تحية المسجد، فإنه يجزئه عنهما فيهما.
ففي حاشية العدوي على الخرشي[2 / 241].
"فَائِدَةٌ : قَالَ الْبَدْرُ : اُنْظُرْ لَوْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ قَضَاءٍ عَلَيْهِ وَنَوَى بِهِ الْقَضَاءَ وَعَرَفَةَ مَعًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُمَا مَعًا؛ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ وَالْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُمَا مَعًا؛ وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ صَلَّى الْفَرْضَ وَنَوَى التَّحِيَّةَ، وَانْظُرْ النَّقْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ وَنَحْوِهِمَا تَأَمَّلْ".
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير[1/ 133] :
"وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ [أي الجمع بين غسل الجنابة وغسل الجمعة] صِحَّةُ نِيَّةِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ لِلْفَضِيلَةِ وَالْقَضَاءِ".
غير أن موسى إسماعيل من فقهائنا المعاصرين رأى أنه لا يصح الجمع بين نية القضاء وبين أيام شوال؛ محتجا بأن صيام الدهر المنصوص عليه في الحديث المتقدم إنما يحصل لمن صام رمضان كاملا، ثم أتبعه بست من شوال، والذي عليه قضاء أيام من رمضان لا يصدق عليه أنه صام شهر رمضان، ولذلك عليه أن يصوم ما عليه من قضاء ليكتمل له صيام الشهر، ثم يتبعه بست من شوال.
وقال بأن هذه المسألة تحتلف عمن كان عليه قضاء وصامه في يوم الاثنين أو الخميس أو في الأيام البيض فإنه يحصل له ما نواه من القضاء وفضيلة الصوم في تلك الأيام. الفتاوى الشرعية 2 / 214].
والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق