التهجم على ابن
باديس وجمعيته ما هو إلا جزء من الحرب المعلنة على رموز هذا الوطن؛ بغرض تشويه
تاريخه، وإسقاط مصداقية رموزه الدينية والتاريخية، حتى لا تبقى له مرجعية يستند
إليها، ويستمد منها مقوماته الشخصية، فهذه الحملة لا تختلف في غايتها ومنهجها عن
التصريح الأخير لماكرون بأن الجزائر لم تكن أمة قبل الاستعمار، كما لا تختلف عن تصريح
نور الدين آيت حمودة بأن الأمير عبد القادر كان عميلا للاستعمار، وأنه باع الجزائر
لفرنسا، وقبل هذا وذاك التهجم على شخصية الفاتح عقبة بن نافع رضي الله عنه.
فهي– إذن – حرب معلنة على هوية الجزائر وأصالتها وذاكرتها ورموزها التاريخية، وإلا فما المغزى من التهجم على الباديسية، ومحاولة الفصل بينها وبين النوفمبرية، في هذه المرحلة الحرجة التي ترمم فيها الجزائر بنيانها!؟ وتستعد فيها لإحياء ذكرى اندلاع ثورتها!؟
وعلينا أن نعلم في هذا الصدد أن الباديسية ليست شخصا أو جمعية معينة، بل هي مشروع إصلاحي يُعنى بالدفاع عنه الشعب كله، فالمساس بابن باديس في نظر الجزائريين – إلا من شذ – هو مساس بالثوابت الوطنية التي نعبر عنها بقولنا: "الاسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا".
فابن باديس رحمه الله هو أول من قرر هذه الثواب وأرسى قواعدها، وعمل على ترسيخها وحفظِها من الأخطار الواقعة عليها، وهو أول من رفع شعار: "الجزائر أولا وقبل كل شيء". وهو من هيأ التربة الصالحة والمناخ الملائم لثورة نوفمبر المجيدة؛ بما غرس من عقيدة صحيحة في القلوب، وبما أو قد من حماسة في النفوس، وبما أرسى من وحدة في الصفوف، وقد لمح لإشعال تلك الثورة في أكثر من مناسبة، كما في وصيته الخالدة التي عهد بها إلى الجزائريين من بعده:
مـــَنْ كَــــان يَبْغي وُدَّنَا
.. فَعَلَى الْكَرَامَـةِ وَالرّحبْ
أوْ كَـانَ يَــــبْغـي
ذُلَّــنـَا .. فَلَهُ المـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ
هَـذَا نِـــظــامُ
حَـيَـاتِـنَــا .. بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ
حتَّى يَعــودَ لـقَـــومـنَـا ..
من مَجِدِهم مَــا قَدْ ذَهَبْ
هَــذا لكـُمْ عَـهْـدِي بِــهِ ..
حَتَّى أوَسَّـدَ في الـتُّـرَبْ
فَــإذَا هَلَكْتُ فَصَيْـحتي .. تَحيـَا الجَزائرُ وَالْـعـرَبْ
ففكرة الثورة كانت حاضرة في ذهن ابن باديس ورفقائه من أول وهلة، وقد صرح بها في أكثر من مرة، من ذلك:
- لما بادر بعضهم إلى التطوع في صفوف الجيش الفرنسي، غضب ابن باديس رحمه الله وقال: "لو استشاروني لأشرت عليهم بالصعود إلى جبالي أوراس وشن الثورة منها على الاستعمار"هـ
- وقال في نادي الترقي: " إني سأعلن الجهاد على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا الحرب".
- وقال رحمه الله : "والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على إعلان الجهاد لأعلنته".
- ولما اندلعت ثورة نوفمبر بادرت جمعية العلماء في 2نوفمبر 1954 لمباركتها وتأييدها والدعوة إلى دعمها، وبيان البشير الإبراهيمي معلوم في ذلك.
- وأول محرر لبيان اول نوفمبر واول طالب شهيد واول شاب شهيد واول حافظ للقرآن شهيد محسوب على جمعية العلماء، وهو الشهيد زدور ابراهيم بن الشيخ الطيب المهاجي أبرز أعضاء جمعية العلماء بوهران.
وإذن : فإعلان الجهاد وتحقيق الاستقلال كان هو الهدف الأسمى الذي يسعى إليه ابن باديس وجمعيته، وأن جهودهم الإصلاحية لم تكن إلا تمهيدا وإعدادا له، غير أنهم رأوا أن أوانه لم يحن بعد، لذلك لما قيل لابن باديس: قد لوحظ أنك لا تدعو إلى الاستقلال وتحرير الجزائر؟ أجاب: "نحن نبني الجدران، والاستقلال هو سقف الجدران، وهل هناك من يبني سقفا بدون جدران"؟هـ
وبناء على ما تقدم نقول: إذا كانت الباديسية شخصا أو جمعية، فثورة نوفمبر لاعلاقة لها بالباديسية؛ لأن ابن باديس مات قبل اندلاع الثورة، ولأن جمعية العلماء ليست هي من أعلن الثورة، وإنما أعلنتها جبهة التحرير الوطني.
أما إذا كانت الباديسية مشروعا – وهي كذلك كما تقدم – فإن نوفمبر كان باديسيا بحق، لأنه ثمرة لجهود ابن باديس وجمعيته، ولأن أهداف ثورة نوفمبر أتت مكملة للمشروع الإصلاحي لابن باديس ، ولأن مفجري الثورة والذين التحقوا بها فيما بعد كان معظمهم من أبناء المدرسة الباديسية؛ فمجموعة الـ22 كان معظم أعضائها من المنتسبين للمدرسة الباديسية، والعقيد سي عميروش كان رئيسا لفرع جمعية العلماء بفرنسا .. وغير هؤلاء كثير.
وليس المراد من فصل نوفمبر عن
البادسية توضيح حقيقة تاريخية مجردة كما زعم بعضهم، ولا إصباغ الثورة بصبغة ذات
بعد صوفي كما قد يتوهم البعض، لأن مثيري هذه الفكرة لا علاقة لهم بالتصوف من قريب
ولا من بعيد، ولأن ابن باديس كان – عند التحقيق – صوفيا مالكيا، وقد أوضحت تلك
الحقيقة بالدلائل في بحث مستقل بعنوان:
حقيقة التصوف وعلاقته بالفقه وما أثير حوله من شبهات (مناوأة ابن باديس له أنموذجا)
وإنما المراد : تجريد الثورة من ربانيتها وأبعادها الروحية، وجعلها ثورة علمانية لا علاقة لها بالمبادئ الإسلامية، وإنقاذ ما تبقى من المشروع التغريبي الزوافي، وعرقلة مسيرة عودة الجزائر إلى أصالتها من خلال تعميم اللغة العربية، وقطع دار الاستعمار من النفوس بعد أن قطع من الأرض.
والمؤسف أن بعض المتدينين
الجزائريين المعوقين ذهنيا بدل أن يبينوا هذه الحقائق للناس، ويكشفوا عن خلفيات
المؤامرة وأبعادها، ويحذروا من مخاطرها خصوصا في هذا الوقت بالذات، استغلوا الفرصة
ليصبوا جام غضبهم على جمعية العلماء، فكانوا جزءا من المؤامرة على الجزائر الحبيبة
من حيث لا يشعرون، ومن الشبهات التي أثاروها وتمسكوا بها:
عدم قيام ابن باديس بمقاومة مسلحة، وعدم تضييق فرنسا على أعضاء جمعية العلماء؟
والرد على هذه الشبهة: قد تقدم أن فكرة الثورة كانت حاضرة في ذهن ابن ابن باديس، وأنه كان يعد لها عدتها، وإنما لم يعلنها في تلك الظروف؛ لأن الشعب الجزائري لم يكن مؤهلا لها حينئذ، حيث غلبت عليه الأمية وسيطرت عليه الخرافة، وأنهكته الفرقة، حتى وُجد في الجزائريين من يعتبر فرنسا ولي أمر تجب طاعته، ومن يعتقد أن الاستعمار قضاء وقدر لا مناص من التسليم له، ولو خاض ابن باديس ثورة بشعب هذا حاله لقضى على الجزائر، ولأخَّر استقلالها دهرا طويلا.
ولكنه رحمه الله كان خبيرا بالسياسة وفنونها، متفطنا لخبث فرنسا ودهائها، فقيها بالشريعة ومقاصدها، مستفيدا من أساليبها وتصرفاتها، في نظرها إلى نتائج الأفعال ومآلاتها .. كما استفاد أيضا من محلية المقاومات السابقة التي قامت في مناطق معزولة من الوطن، مما سهل على الاستعمار إفشالها، فكان لا بد من الإعداد لمقاومة عامة في ربوع جميع الوطن، وهو أمر من الصعوبة بمكان ووضع الشعب الجزائري على ما هو عليه.
لأجل ذلك سطر - رحمه الله قبل القيام بثورة عامة - منهجا قويما وحكيما لتغيير أوضاع الشعب الجزائري، وتهيئته روحيا وثقافيا للمعركة الفاصلة .. فوجه جهوده إلى تصحيح عقيدة الجزائريين، وتنقية عقولهم مما علق بها من الخرافات والأباطيل، وإصلاح التربية والتعليم بالعودة بهما إلى ينابيع الدين الإسلامي والثقافة العربية الأصيلة، وتصدى لمحاولات زعزعة الوحدة الوطنية، وحافظ على أصالة الجزائر وشخصيتها، وأنشد في ذلك قصيدته الغراء:
شَعْـبُ الجــزائرِ مُـسْــلمٌ ...
وَإلىَ الـعُروبةِ يَـنتَـسِـبْ
مَـنْ قَالَ حَادَ عَنْ أصْلِـهِ
... أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَقَدْ كَــذبْ
أَوْ رَامَ إدمَـــــاجًـــا لَــهُ ... رَامَ الـمُحَـالَ من الطَّـلَـبْ
وقد انتهج رحمه الله سياسة التقية في مخادعة فرنسا بإهامها أن جمعية العلماء جمعية ثقافية تعليمية، لا تهدف إلى محاربة الاستعمار، بل هي مساعدة له على تمدن الشعب الجزائري، وهذه عبقرية فذة مبناها على قاعدة : [تحمل أدنى المفسدين لدرء أعلاهما]، وقد مكنت ابن باديس ورفقاءه من سماح الحكومة الفرنسية لهم بمزالة أنشطتهم بطرق قانونية، وعدم الحيلولة بينهم وبين توعية الشعب، غير أنهم لم يسلموا من مضايقة فرنسا وتهديداتها المتكررة.
وقد نجح العلامة ابن باديس رحمه
الله نجاحا باهرا في تحقيق أهدافه، فأحيى الأمة الجزائرية، وسلك مسالك شتى
للمحافظة على أصالتها وهويتها وإعدادها لنيل حريتها، فكان معدودا بلا منازع – إلا
من طمس الله بصيرته - ممن قال فيهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم : "
إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ
مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا".
وكانت ثورة نوفمبر المجيدة ثمرة لجهوده الإصلاحية، إذ هيأ لها التربة الصالحة والمناخ الملائم، ولولا جهوده العلمية والإصلاحية لما كانت هناك ثورة، وللبث الجزائريون في ظلمات الجهالة والخرافة، ولكن كما قال سيدنا البصيري رحمه الله:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
رحمه الله ابن باديس وحفظ الله
الجزائر وشعبها وجيشها الباسل والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق