......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأربعاء، 27 أكتوبر 2021

البعد الروحي لثورة التحرير الجزائرية

 

الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية

وزارة الشؤون  الدينية والأوقاف

مديرية الشؤون  الدينية والأوقاف

المعهد الوطني للتكوين المتخصص بالتلاغمة ولاية ميلة

مداخلــة بعــنوان:

البعد الروحي لثورة التحرير الجزائرية

 تقديم : الإمام الأستاذ : العيد بن زطة

يوم الخميس 28 أكتوبر 2021

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين.

الجمع المبارك : سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

وبعد:

نشكر الهيئة الموقرة لإدارة المعهد الوطني وعلى رأسها السيد المدير المحترم على الدعوة الكريمة والاستضافة الطيبة.

وأول ما نستفتح به المقال ، قول الباري جل ثناؤه: :

" وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".

فإن هذا النص المبارك ينطبق - بعموم لفظه - علينا في هذه البقعة المباركة الطاهرة من أرض الله تعالى، فلقد أتت علينا مرحلة من الزمان استضعفنا فيها الغزاة الفرنسيون والحلف الاطلسي، فلم نكن نأمن فيها على أنفسنا وأعراضنا وأموالنا ...

ثم أتت بشائر النصر، وبدلنا الله من بعد خوفنا أمنا، ومن بعد استعمارنا حرية وسيادة: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ". وقد جعل العزيز الحكيم لكل شيء سببا، فما كان هذا لهذا النصر أن يتحقق لولا تلك التضحيات الجسام، التي قدمها أسلافنا البواسل، من الشهداء الأبرار، ومن المجاهدين الأخيار، ومن كافة الشعب المغوار، الذي احتضن هذه الثورة من بدايتها إلى نهايتها، فلم يكن استقلال الجزائر وليدَ مفاوضات سياسية، خارجية أو داخلية! كما يريد أن يصوره أرباب الاتجاه العلماني، والتيارِ التغريبي، وأذناب الاستعمارِ بصفة عامة، فإن هذا تزوير للحقيقة التاريخية، وإجحاف لثورة دفعت ثمن حريتها مليونا ونصف مليون من الشهداء أو يزيدون، وهذا في ثورة نوفمبر خاصة، وإلا فإن عدد شهداء الجزائر قد تجاوز الخمسةَ ملايين، خلال حرب دامت سبعين عاما، وهو ما أثاره – مؤخرا - الرئيس عبد المجيد تبون بعد أن ظلت هذه الحقيقة مطوية دهرا طويلا.

ولا جرم أن التاريخ هو ذاكرة الأمة، فلا عقل لأمة لا تعي تاريخها، ولا حرمة لجيل ينسى أو يتناسى تاريخه، ولله در الشاعر أحمد شوقي حيث قال:

مثل القوم نسوا تاريخهم .. كلقيــــطٍ عــيّ في الناس انتســـابا

أو كمغلوبٍ على ذاكـــرةٍ .. يشتكي من صلة الماضي انقضابا

لأجل هذا كان لابد من تبيين الحقائق التاريخية للناس، كما تُبين لهم فروض الشعائر التعبدية، لأن التاريخ جزء لا يتجزأ من بنيان ديننا الإسلامي، ولأن قرآننا المجيد كما اشتمل على بيان العقائد ودلائلها، والشرائع وأحكامها، والتربية وآدابها، فقد اشتمل أيضا على بيان القصص وعظاتها، وقال تعالى: [فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] والقصة جزء من التاريخ. وقد قال سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنه: "كنا نُعلّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلّم السورة من القرآن". يعني: أن تعليم المغازي كان موازياً في الأهمية لتعليم القرآن الكريم، وقد اعتبر ابن باديس رحمه الله التاريخ والمصير المشترك ركنا من أركان الوحدة الوطنية، بمعني أنها لا تتحقق بدونه؛ لأن الركن هو ما لا تقوم ذات الشيء إلا به.

وهذه الحقيقة ينبغي أن يضعها أئمتنا البواسل نصب أعينهم في توجيههم للأجيال الصاعدة، ولذلك نشكر إدارة المعهد على اختيار هذا الموضوع.

ومن الجوانب التاريخية الهامة التي ينبغي أن نعيها : [البعد الروحي لثورة نوفمبر المجيدة]

فإن هذه الثورة التي صنعت التاريخ ، وبهرت العالم، وقهرت الجبابرة ، وقصمت ظهور الأكاسرة, وغيرت مجرى التاريخ، وأعطت لشعوب العالم دروسا عملية في التضحية والجهاد، والثبات والاستشهاد ... تختلف وتتميز عن كثير من الثورات والمقاومات في العالم بربانيتها وإبعادها الروحية، فهي لا تختلف عن بدر وأحدَ وحنين والقادسية وحطين .. فكما يتدارس العالم الإسلامي هذه الغزوات؛ ليأخذ منها العبر والعظات، فكذلك ينبغي أن يتدارس غزوة نوفمبر المجيدة؛ لأنها لا تختلف عن أخواتها في الغاية والمنهج. وهذا ما عناه صاحب الإلياذة بقوله :

نوفمبر غيرت مجرى الحياة ** وكنت نوفمبر مطلع فجر

ذكرتنا في الجزائــــــــر بدرا** فقمنا نضاهي صحابة بدر

ودلائل ذلك كثيرة ومعلومة لدى الوطنيين الأحرار، لكننا اليوم نواجه موجة من التضليل والتعتيم والتشويه لتاريخنا المجيد، فكان لابد من توضيح هذه الحقيقة، وتتجلى الأبعاد الروحية لثورة نوفمبر في جوانب عدة ، نذكر منها على سيبل المثال لا الحصر:

1-   ارتباطها بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في بدايتها وفي نهايتها.

-    ففي بدايتها انطلقت يوم الاثنين 6 ربيع الأول من عام 1374هــ وهذا لم يكن من قبيل الصدفة، بل هو اختيار من قادة الثورة ؛ تيامنا بالمولد النبوي الشريف، وقد شاع أن انطلاقة الثورة في ذلك التاريخ كانت على الساعة 00. ولكن ما سمعته شخصيا من بعض المجاهدين الذين كانوا في قلب المعركة أنها انطلقت على الساعة الواحدة ص، وهذه الحقيقة يصدقها العقل، ويشهد لها حساب الشهور، لأن الساعة 00 تابعة لـ 31 اكتوبر، أما الفاتح نوفمبر فيبدأ من الساعة الواحدة ص. ويرمز انطلاق الثورة على الواحدة إلى أن وحدانية الله تعالى هي المرتكز الأول الذي ارتكز عليه أسلافنا للقيام بثورتهم.

-    وأما في نهايتها فخروج الجزائريين والجزائريات غداة الاستقلال مرددين شعار: [يا محمد مبروك عليك الجزائر عادت ليك]. فبدأت الثورة في مولد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وانتهت بالمباركة لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

2- كانت كلمة :[الله أكبر] هي الإشارة الأولى لإطلاق الرصاص في ثورتنا، فلا تسمع في ساحة المعركة دوي البارود  ممتزجا التكبير، و كانت كلمة :[الله أكبر] هي النشيد الذي يُشيع على أنغامه الشهداء إلى مثواهم الأخير، ومدلول كلمة [الله أكبر] غير خافٍ؛ فهي سر بعث القوة في نفس كل ثائر بالحق؛ لأن من أيقن أن الله أكبر من كل شيء لم يخش أحدا سواه، لذلك قرر قادة الثورة مواجهة فرنسا وقوات الحلف الأطلسي، بما عندهم من أسلحة بدائية وإمكانيات بسيطة؛ لأنهم رأوا أن الله أكبر من كل قوة.

3-   كانت كلمة السر بين المجاهدين في أول الثورة : [خالد / وعقبة]، وكلاهما من الفاتحين

الإسلاميين، مما يعني أن الثورة كانت تختط نهجهم في الهدى وتسير، وكان حملة سلاحها يُدعون بالمجاهدين، وقتلاها يدعون بالشهداء، وكلاهما مصطلح إسلامي معلوم. وكل ذلك يكشف بوضوح عن طبيعة ثورتنا وبعدها الروحي.

4- كان معظمُ قادة هذه الثورة من حملة القرآن الكريم، وأغلبُهم من خريجي المدرسة البادسية، وهذه حقيقة أخرى أريد طمسها لأجل الطعن في  جمعية العلماء المسلمين، فسي مصطفى بن بوالعيد ، وديدوش مراد، والعربي بن مهيدي، ومحمد شعباني، وسي الحواس، والعقيد عميروش، كل هؤلاء وغيرهم كانوا من حملة القرآن ، وكان العقيد عميروش لا يفارق مصحفه في ساحات الوغى، وكان يحث جنوده على الصلاة ، ويعاقب كل من يقول لزميله: [أنت منين]؟ أي من أين أنت؟ حرصا منه على ترسيخ أواصر الأخوة الإسلامية والوحدة الوطنية بين كافة الجزائريين، وهو قبائلي حر، واللبيب بالإشارة يفهم.

5- بيان أول نوفمبر قرر هذه الحقيقة الهامة بوضوح ، إذ نص صراحة على أن الهدف الأول للثورة هو:

" إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية". وسيظل العمل على تحقيق هذا البند أمانة في أعناق الأجيال، من أعلى السلم إلى أدناه، كما قال الشهيد ديدوش رحمه الله : "إذا متنا فدافعوا عن أرواحنا، نحن خلقنا من أجل أنموت ، ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة". وإنما تستكمل مسيرة الشهداء بتحقيق الغاية التي استشهدوا من أجلها، وهي التي تضمنها هذا البند من بيان أول نوفمبر.

6- هذا من جانبنا نحن ، وأما من جانب العدو فإن حربه علينا كانت حربا صليبة من بدايتها إلى نهايتها، كما قال البشير الإبراهيمي رحمه الله:

"إن الاستعمار الفرنسي كان صليبي النزعة، فهو منذ احتل الجزائرعاملٌ على مَحْوِالإسلام ؛ لأنه الدين السماوي الذي فيه من القوة ما يستطيع به أن يسودَ العالم ، وعلى مَحْوِ اللغة العربية؛ لأنها لسانُ الإسلام ، وعلى محو العروبة ؛ لأنها دعامة الإسلام ، وقد استعمل جميع الوسائل المؤدية إلى ذلك". هـ

ومن تلك الوسائل التي أشار إليها البشير الإبراهيمي :

غلق الاستعمار وتهديمه للمساجد والمدارسة القرآنية، واضطهاده للعلماء، ومحاربته للغة العربية لأنها لغة الوحي، وتجهيله للجزائرين والجزائريات ليسهل مسخهم، ونشره للمبشرين لتنصير الشعب الجزائري، واعتماده لسياسة الإدماج واختلاط الأنساب ... وهذه الجريمة الأخيرة لم يجرب في العالم مثلها.

فغاية الاستعمار – إذن- لم تكن الاستيلاء على ثرواتنا الطبيعة ومساحاتنا الخضراء، كما علمتنا مناهجنا التربوية للأسف الشديد، بل كانت غايته تذويب الشخصية الجزائرية، ومحو الهُوية الوطنية ، واجتثاث العقيدة الإسلامية؛ لتحل محلها عقيدة الصليب، وهو ما صرح به وزير الخارجية الفرنسية آنذاك حيث قال: "إنها معركة الهلال والصليب .. ولا بد أن ينتصر الصليب".

وفي مؤتمر أقيم بأسبانيا قال أحد المستشرقين الفرنسيين :"هل تعتقدون أننا كنا نسخر نصف مليون من جنودنا في الجزائر من أجل مساحاتها الخضراء؟ بل كنا نعتبر الجزائر الجسر الذي يعبر منه الفاتحون المسلمون بالتعاون مع إخوانهم الجزائريين إلى أربا الواهية"هـ

والحق ما شهدت به الأعداء.

ولكن كما قال سيدنا البصيري رحمه الله:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم

فإن بعض المعتوهين يحاول اليوم طمس هذه الحقيقة؟ التي شهد بها الأعداء أنفسهم، والتي صرحت بها نصوص القرآن العظيم، من مثل قوله تعالى: " ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ".وقوله تعالى:"ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا".

ففعل (( لا يزال )) في الآية الكريمة [ولا يزالون]. يفيد الدوام والاستمرارية ، و(( حتى )) تفيد انتهاء الغاية ، والغاية - هاهنا - هي رد المسلمين عن دينهم، بمختلف الوسائل الحربية، سواءٌ المسلحة منها أو الفكرية والثقافية، ومن هنا نستخلص – أيها الإخوة الكرام - أن الحرب على الجزائر كانت حربا صليبية بأتم الكلمة، هدفها طمسُ معالم الإسلام، ومحوُ الهوية الوطنية، هذا هو الهدف الرئيس ! وما سواه فأهداف ثانوية.

وبالمقابل أن ثورتنا المجيدة إنما استحقت نصر الله وتأييده ؛ لكونها كانت نصرة لله، ونصرة لدين الله ، ولو لم تكن كذلك لما استطاعت إلى تحقيق النصر سبيلا ، لأن المعركة بيننا وبين فرنسا لم تكن متكافئة عددا وعدة، ولأن الله تعالى قال :" وما النصر إلا من عند الله". تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم ". وبمفهوم المخالفة المقرر لدى أرباب الأصول: إن لم تكن حربكم أو ثورتكم نصرا لله فلن ينصركم الله.

ولقد أدرك شاعر الثورة هذه الحقيقة فصرح بها قائلا :

و لولا الوفاء لإسلامنا ... لما قرر الشعب يوما مآله

هذه بعض الجوانب من الأبعاد الروحية لثورتنا، التي ينبغي أن نعيها، وننقلها للأجيال ذكرا مجيدا؛ ليعلموا أن سر قوتهم إنما يكمن في التمسك بهذا الدين، الذي تمسك به أجدادهم وآباؤهم، فاستحقوا النصر والتمكين، وأننا متى تنكرنا لديننا أو انحرفنا عن منهجه كنا عرضة للهزائم والزوال والاندثار.

ولله ما أروعها من كلمات تلك التي عبر بها مفدي زكريا عن روحانية ثورتنا محذرا من عواقب الانحراف عنها - فقال رحمه الله ناطقا بسم الشهداء :

شربت العقيدة حتى الثمالــــة ..... فأسلمت وجهي لـرب الجــلالـه

ولولا الوفــاء لإســـــلامنــــا ..... لمـا قرر الشعب يومـا مــــآلـــه

ولولا استقامـة أخـــــلاقنــــا ..... لمـا أخلص الشعب يوما نضالـه

ولولا تحالف شعــــــب وربٍّ ..... لمـا حقق الرب يومــا ســـؤالـه

هو الدين يغمـر أرواحـــــنــا ..... بنـور اليقيـن ويرسي العــدالــه

إذا الشعب أخلـف عهد الإلـه ..... وخـان العقيــدة فارقُـــب زواله

وفي الختام: نسأل الله تعالى أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يوفقنا جميعا لاستكمال مسيرتهم الربانية، وأن يحفظ جزائرنا من كل مكروه، وأن يجعل لها من محنتها مخرجا، وأن يطهرها من الخائنين وأذناب الاستعمار.

ومهما كانت الظروف قاسية فلا تيئسوا ولا تهنوا ولا تستكينوا؛ فإن المستقبل مشرق، وإن الخير قادم بإذن الله تعالى، وقد قال سيدي عبد الرحمن الثعالبي قدس الله سره:

إن الجزائر في أحوالها عجــــب *** ولا يدوم بها للناس مكــروه

ما حل عسر بها أو ضاق متسع *** إلا ويسر من الرحمان يتلوه

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين، والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق