بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وبعد:
فهذه دراسة موجزة لمسألة إخراج الزكاة قبل موعدها، مشتملة على بيان مذاهب الفقهاء
في المسألة وأهم نصوصهم وأدلتهم، مع مناقشتها والمقارنة بينها، وبيان ما هو أولى الأقوال
بالاختيار منها، وتأتي هذه الدراسة الموجزة إجابة عما أشكل من حكم تقديم الزكاة قبل حلول حولها، بسبب وباء كورونا. ورحم الله من نبهني إلى خطأ أو صحح لي مفهوما.
أولا : تحرير محل النزاع وسبب الخلاف
أجمع
العلماء على أن الزكاة لا تجب على من لا يملك نصابا ، ولا يجب إخراجها حتى يحولَ
عليه الحول ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى
يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" رواه ابن ماجه. واختلفوا
في ثماني مسائل ، ذكرها العلامة ابن رشد في بداية المجتهد [2 / 32] . منها : "جَوَازُ
إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ"
وسبب الخلاف في هذه المسألة ، هو
كما بينه ابن رشد بقوله : "
هَلْ هِيَ عِبَادَةٌ أَوْ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَسَاكِينِ؟ فَمَنْ قَالَ
عِبَادَةٌ وَشَبَّهَهَا بِالصَّلَاةِ لَمْ يُجِزْ إِخْرَاجَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ،
وَمَنْ شَبَّهَهَا بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْمُؤَجَّلَةِ أَجَازَ إِخْرَاجَهَا
قَبْلَ الْأَجَلِ عَلَى جِهَةِ التَّطَوُّعِ" هـ [بداية المجتهد .. ابن
رشد 2/ 32] .
ثانيا : بيان مذاهب الفقهاء في المسألة
وأدلتهم
اختلف
العلماء في هذه المسألة إلى مذهبين مشهورين ، وبيانهما كالآتي:
المذهب
الأول
يجوز
تقديم الزكاة قبل حلول حولها بسنة أو بسنتين، وهو مذهب الجُمهور منهم الحنفية والشافعية
والحنابلة وبه قال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ . [المغني لابن قدامة 2 / 470] .
- واحتجوا لمذهبهم بحديث
علي رضي الله عنه : "أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيل صَدَقَتِهِ قَبْل أَنْ تَحِل، فَرَخَّصَ
لَهُ فِي ذَلِكَ" أخرجه الترمذي و أبو داود.
- واحتجوا
أيضا بالمعقول وفي ما يلي بعض نصوصهم:
1-
من المذهب
الحنفي : قال السرخسي: "وَبَعْدَ
كَمَالِ النِّصَابِ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِسَنَتَيْنِ عِنْدَنَا .. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ .. (وَلَنَا) حَدِيثُ
الْعَبَّاسِ" يعني الحديث المتقدم ، وقال أيضا:" إنَّ سَبَبَ
الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ: [الْمَالُ] وَالْأَدَاءُ بَعْدَ تَقَرُّرِ
سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ ؛ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ ،
وَالرَّجُلِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ جَازَ ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ
الْوُجُوبِ"هـ [المبسوط
2 / 177] .
2-
من المذهب
الشافعي: قال بدر الدين ابن قاضي: "ولأنه حقّ وجب بسببين، وهما: النصاب
والحول، فجاز تقديمه على أحدهما، كتقديم كفارة اليمين على الحنث، فإن المخالفين قد
وافقوا عليها"هـ [بداية المحتاج في شرح المنهاج 1/ 544].
3-
من المذهب
الحنبلي : قال ابن قدامة المقدسي:" لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِمَالٍ وُجِدَ
سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَجَازَ، كَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ
قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَأَدَاءِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْحَلِفِ
وَقَبْلَ الْحِنْثِ"هـ[المغني2 / 471] .
وهؤلاء مع
اتفاقهم على جواز تقديم الزكاة قبل حولان حولها إذا وُجد النصاب، اختلفوا في بعض
المسائل :
- فعند
الحنفية والمعتمد عند الشافعية ، أن من قدم زكاته ، وزكاة ما قد ينتج من ربح أجزأه
ذلك ؛ لأنه تابع لأصل ما يملكه. وخالف الحنابلة في ذلك فقالوا لا يجزئه تقديم ما
ينتج من الربح.
- وعند
الحنفية يجوز لمالك النصاب أن يعجل نُصُبًا كثيرة من كل أنواع ماله ، لأن اللاحق
تابع للحاصل، وخالف الشافية في ذلك فأجازوه في مال التجارة خاصة.
المذهب
الثاني
وهو مذهب
المالكية : قالوا لا يجوز ولا يجزئ تقديم الزكاة قبل حلول حولها إلا بوقت يسير، ثم
اختلفوا في تحديده ، وفيما يلي بعض نصوصهم
في المسألة:
1- جاء في المدونة : " قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُعَجِّلُ زَكَاةَ مَالِهِ فِي
الْمَاشِيَةِ وَفِي الْإِبِلِ أَوْ فِي الْمَالِ لِسَنَةٍ أَوْ لِسَنَتَيْنِ،
أَيَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ: لَا. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: وَقَالَ لِي مَالِكٌ: إلَّا أَنْ يَكُونَ قُرْبَ الْحَوْلُ أَوْ قَبْلَهُ
بِشَيْءٍ يَسِيرٍ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا
يَفْعَلَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ"هـ [المدونة1 / 535].
2- قال القرافي:
" فِي الْيَسِيرِ خِلَافٌ وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ إِذَا جَوَّزْنَاهُ،
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ نَحْوُ الشَّهْرِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ
الْيَوْمَانِ .. وَقِيلَ نِصْفُ الشَّهْرِ، وَهَذَا الْخلاف يخْتَص بِالْعينِ
وَالْمَاشِيَةِ"هـ [الذخيرة3 / 137].
3- قال اللخمي:" وقال ابن حبيب: لا تجزئه إلا ما
كان مثل الخمسة الأيام، والعشرة لا أكثر من ذلك، وقيل: تجزئه الخمسة عشر يومًا.
وقال ابن القاسم في المستخرجة: أرى الشهر قريبًا"هـ [التبصرة
3 / 943]
والمعتمد
في المذهب المالكي أنها لا تجزئ إن قدمها بأكثر من شهر، وهو ما سار عليه سيدي خليل
حيث قال:" أَوْ
قُدِّمَتْ بِكَشَهْرٍ" قال الدردير عند شرحه لهذا
:" الصَّوَابُ حَذْفُ الْكَافِ إذْ لَا تُجْزِي
فِي أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ "هـ [حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير1 /502]
واحتج
المالكية لمذهبهم بالسنة والقياس على أصول وأحكام الشريعة:
أما السنة
فقوله صلى الله عليه وسلم :" لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ
عَلَيْهِ الْحَوْلُ" رواه ابن ماجه وغيره. أي لا زكاة صحيحة ، كما في حديث :"لا
نكاح إلا بولي" أي لا نكاح صحيح ، بخلاف أصحاب المذهب الأول الذين احتجوا
بهذا الحديث على عدم الوجوب دون الصحة.
أما
القياس على أصول وأحكام الشريعة : - وهو الحجة الأقوى عند المالكية - فقال مالك في المدونة:" إِنَّمَا
ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُصَلِّي الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ"هـ
[1 / 535].
وقال القاضي
عبد الوهاب :" ولأنها عبادة مختصة مؤقتة فلم يجز تقديمها قبل وقت وجوبها
كالصلاة والصوم "هـ [الإشراف على نكت مسائل الخلاف1 / 387].
كما أعمل
السادة المالكية في المسألة نظرتهم المقصدية الثاقبة؛ فنظروا إلى المسألة من حيث مآلُها،
فقالوا: أن الفقير الذي تُقدم له الزكاة قد يستغني قبل حلول حولها ، فتكون بذلك قد
دفعت إلى غير مستحقها فلا تجزئ. فإن
أخرجها رب المال ثانية لعدم الإجزاء لحقه الضرر، والضرر يزال، وإن لم يخرجها يكون
قد وضعها في غير محلها وفوت حق مستحقيها. [انظر في ذلك الإشراف على نكت مسائل
الخلاف1 / 387].
ثم أعملوا
في جواز التقديم بوقت يسير القاعدة الفقهية :"ما قارب الشيء أعطي حكمه".
وأجابوا
عن حديث علي الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بتعجيل صدقته ، والذي
هو أقوى حجة عند المخالفين بأنه :" مُحْتَمَلُ التَّعْجِيلِ قَبْلَ
الْحَوْلِ بِيَسِيرٍ ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ السَّاعِي ، أَوْ يُعَجِّلُ لَهُ
السَّاعِي ، أَوْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ " [الذخيرة3 / 137].
كما أجاب القرافي عن الحجج العقلية للمخالفين
بحجج مماثلة ، تبين اختلاف مسألة تقديم الزكاة عن غيرها مما ذكروه، فتقديم كفارة اليمين
قبل الْحِنْثِ ليس كتقديم الزكاة؛ لأن قصد الْحِنْثِ يقوم مقام الحنث، وكذلك تقديم
الديون قبل حلول أجلها، يختلف عن الزكاة بكونها عبادة تفتقر إلى النية بخلاف
الديون وهكذا .... [الذخيرة3 / 137 - 138].
ثالثا :
القول المختار وأسباب اختيار
بعد
استعراض مذاهب الفقهاء وأهم أدلتهم في المسألة يتبين لنا ما يأتي :
- أن أغلب أدلة الفريقين تكاد تكون متكافئة ؛ حيث
لا يخلو دليل منها عن إجابة وجيهة.
- فحديث
علي الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم للعباس
بتعجيل صدقته ، تعتريه أربع احتمالات كما ذكر القرافي، والمقرر لدى أرباب
الأصول أن:"الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال". لا
بالكلية وإنما على تعيين ذلك الوجه المتنازع فيه ، كجعل هذا الحديث نصا في جواز
تقديم الزكاة.
-
وحديث :"لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ
حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" الذي احتج به المالكية هو الآخر قد
يُجاب عنه بمثل ذلك، بأنه محمول على عدم وجوب الزكاة قبل وقتها، لا على عدم جواز
تقديمها ، وأن نفي الوجوب لا يقتضي عدم الصحة.
-
والدلائل العقلية متقابلة كذلك، باستثناء دليل المالكية بأن الزكاة عبادة كالصلاة والصيام والشارع قد وقَّت للعبادات أوقاتا محددة، فهذا الدليل لا مدفع له ؛ من
حيث أنه الأصل المقرر الذي لا يُعدل عنه إلا بدليل ؛ مما يجعل مذهب السادة
المالكية أقوى حجة، وأقرب إلى مقاصد الشريعة ، وأكثر ملاءمة لأساليبها التشريعية
المنوطة بــ [بالضبط والتحديد] وقد أفاض الإمام الهمام الطاهر ابن عاشور في
تقرير هذه الحقيقة وتبيينها، وذكر من مسائلها :" التوقيت: مثل مرور الحول في زكاة الأموال، وطلوع الثريا في زكاة الماشية، ومرور أربعة أشهر في
الإيلاء، والحول في بعض العيوب، والشهرين في الإعسار بالإنفاق، وأربعة أشهر وعشر
في عدة الوفاة "هـ [مقاصد الشريعة 3 / 348].
- وعليه
فإن مذهب المالكية يبدو هو الراجح في هذه المسألة والله اعلم، وهذا في الظروف العادية ، أما إذا طرأت ظروف
استثنائية، كان القول فيها بالتزام الراجح مفضيا إلى تفويت مصلحة الفقير، جاز حينئذ العدول عن الراجح
إلى المرجوح في تلك المسألة ؛ لأن المرجوح – وإن كان ضعيفا – يتقوى جانبه في
الظروف الطارئة ، بأصلِ درأ المفاسد وجلب المصالح ، وأصلُ "مراعاة
الخلاف" يرجع إلى هذا المعنى ، وكذلك "أصل الاستحسان".
وقد عرفوه بأنه :"ترك الدليل العام في بعض مقتضياته على سبيل الاستثناء
والترخص".
وأما ما
ذكره القاضي ابن عبد الوهاب من الضرر المتوقع بتقديم الزكاة ، كفوت مصلحة
المستحقين للزكاة باحتمالية استغناء من قُدمت له قبل الحول، وإلحاق الضرر بربها لو
أُلزم بإعادة إخارجها .. فإن هذا يُقابل في الظروف الطارئة بقاعدة:" لا تترك المصالح الغالبة لأجل المفاسد النادرة
"هـ فلا تترك مصلحة الفقير الواقعة
والمحققة؛ لأجل مفسدة متوقعة ومحتملة احتمالا بعيدا.
- وهذا
التوجيه ينطبق تماما على نازلتنا الكورونية، وما ألحقته بالفقراء من أضرار
محققة لا تحتمل التأجيل، مما يجعل القول
بتقديم الزكاة ولو بكسنة ، هو الأقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها، الهادفة إلى رعاية
المصالح الغالبة، ولأجل ذلك أفتى فقهاؤنا بجواز إخراج القيمة في زكاة الأبدان على
خلاف مشهور المذهب، والأمر هو هو، لكن إذا اتسع الأمر عاد إلى ضيقه، وإذا زالت
الضرورة زال ما جاز بسببها، أي لا يقال بجواز تقديم الزكاة بإطلاق، بل هو مقيد
بظروفه معلل بأسبابه. والله أعلم
هذا ما
تيسر لي جمعه وتوضيحه على عجل؛ نزولا عند رغبة الطالبين ، وصلى اللهم وسلم وبارك على
سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق