بعد غلق المساجد بسبب وباء كورونا ، عمد بعض
الإخوة إلى إقامة صلاة الجماعة في الشوارع ، وفي الساحت المحاذية للمساجد.
وبما أن
المساجد مغلقة لما ذُكِر، فإن أجر الجماعة يحصل لمن صلى بأهله ؛ لأن الجماعة تنعقد
بإثنين فأكثر .. ومادام أجر الجماعة حاصلا لمن صلى بأهله، فلا مسوغ لهذا السلوك
ولا مبرر له، إلا أن يكون - والعياذ بالله - مشاقة لجماعة المؤمنين وإمامهم، فيما
اتفقوا عليه من تدابير الوقاية، وقد يكون الفاعلون لذلك غير متفطنين لهذا الامر.
يقول الله تعالى:"وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى"
"سَنَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ
لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ،
وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى ".ـ
ومن
المشاقة المذكورة في الآية القيام بأعمال تناقض قصد الشريعة في تحصيلها للمصالح
ودفعها للمفاسد، كما في إجراء منع الجماعة توقيا من انتشار الوباء القاتل، وقد ذكر
الشاطبي في هذه المسألة كلاما في غاية الأهمية فقال:
"أَنَّ
الْآخِذَ بِالْمَشْرُوعِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشَّارِعُ ذَلِكَ
الْقَصْدَ آخِذٌ فِي غَيْرِ مَشْرُوعٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا
شَرَعَهُ لِأَمْرٍ مَعْلُومٍ بِالْفَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ بِالْقَصْدِ إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ؛ فَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ الْمَشْرُوعِ
أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَاقَضَ الشَّارِعَ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ، مِنْ
حَيْثُ صَارَ كَالْفَاعِلِ لِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ وَالتَّارِكِ لِمَا أُمِرَ
بِهِ" [الموافقات3 / 30].
وجريا على
ما قرره الشاطبي يكون القائم بصلاة الجماعة على هذا النحو كغيرِ الآتي بالمشروع،
من حيث مناقضتُه لقصد الشريعة من إقامة صلاة الجماعة، ومن حيث تفويتُه لمقصد
الشريعة - المتثل هاهنا - في المصلحة العامة المراد تحصيلها من خلال تعطيل الجماعة
مؤقتا.
وهذه المناقضة
لمقاصد الشريعة لها أثر وخيم ، عبر عنه الشاطبي بقوله :
"كُلُّ
مَنِ ابْتَغَى فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ غَيْرَ مَا شُرِعَتْ لَهُ ؛ فَقَدْ
نَاقَضَ الشريعة، وكل ما نَاقَضَهَا؛ فَعَمَلُهُ فِي الْمُنَاقَضَةِ بَاطِلٌ،
فَمَنِ ابْتَغَى فِي التَّكَالِيفِ مَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ؛ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ"[الموافقات3
/ 28].
وقد شاع
بين الباحثين التمثيل لهذه المسألة بالواهب زكاته في آخر الحول فرارا من الزكاة ،
وهذا ما هو إلا نموذج ، وإلا فإن هذه القاعدة يسري حكمها على كل جزئية يتحقق فيها
حكمها ومناطها.
وإلإتيان
بالجماعة على هذا الوجه ليس بمعزل عن هذه القاعدة ؛ لكونه تذرعا بفعل مشروع إلى
فعل غير مشروع، هو : مشاقة جماعة المؤمنين وإمامهم، وتفويت مصلحتهم العامة المراد
حفظها، وتلك المصلحة من وضع الشارع ؛ بحيث يقرها الشرع، ويصدقها العقل، وليس
بالضرورة أن يكون من يقوم بمثل هذا قاصدا للمشاقة ابتداء، لكنه قد يقع فيها من حيث
لا يشعر، لذلك لزم التنبيه حتى يكون المسلمون على بصيرة من امرهم.
وهذا السلوك مناقض لمقاصد الشريعة من مشروعية
صلاة الجماعة، التي ذكر العلماء من مقاصدها: "التآلف
والتعاون بين المؤمنين ومضاعة المثوبة بالاجتماع لتعظيم الله .."
وهذا السلوك الذي يقوم به هؤلاء عن جهالة،
يناقض هذه المقاصد بل ويهدهما أيضا، بما يفضي إليه من تفريق كلمة عموم الأمة،
وعرقلة جهودها في دفع خطر الوباء.
ومن سبيل المؤمنين الذي تعتبر مخالفتُه مشاقةً
: مخالفة ولاة المسلمين فيما يسنونه حفظا للمصلحة العامة، سواء كان ذلك على
الدوام، أو كان في ظروف طارئة كما في نازلتنا، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه:
اللهم فقهنا في ديننا وبصرنا بحقائق الأمور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق