الهجرة غير الشرعية /مخاطر ومحاذير/

الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات ، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير ، ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد البشير النذير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ".

أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

 أيها الإخوة الكرام : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا ضرر ولا ضرار ."

هذا الحديث رواه الإمام الطبراني والإمام البيهقي ، وقد عده الفقهاء من قواعد الفقه الإسلامي ، التي يندرج تحتها ما لا حصر له من الفروع والجزئيات الفقهية من مختلف الأبواب.

وقوله  صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) هو نهي بصيغة الخبر ، ومن معانيه: ( لا تضروا بعضكم ولا تضروا أنفسكم ) والنهي يفيد التحريم ، والحرام كما عرفه الفقهاء هو : ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه ، ومن هذا المنطلق كان إلحاق الضرر بالآخرين أ وبالنفس محظورا شرعا، ومن صور إلحاق الضرر بالنفس: تلكم الظاهرة الخطيرة، التي تفشت في مجتمعنا، واستفحل أمرها حتى أصبحت حديث العام والخاص، ألا وهي :

ظاهرة الهجرة غيرِ الشرعية [الحرقة].

فإنه مهما كانت الأسباب الدافعة إلى هذه الهجرة ، ومهما كانت المبررات التي يتعلل بها العديد من شبابنا الذين ولوا وجوهَهُم شطرَ أسبانيا أو إيطاليا أو غيرِهما .. فإنها تعد مخاطرةً بالنفس وإلحاقا للضرر بها؛ فإن الحراقَ لا بحرا قطعَ ولا نفسا أبقى ، فقد  هلك الكثير منهم ، وغرقوا في البحار ، وعادوا إلى وطنهم جثثا هامدة متعفنة، وهذا من أعظم الإضرار بالنفس الذي نهى عنه الشارع الحكيم، ومن ذلك قوله تعالى:" وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ". وهو نص عام يشمل أي نوع من أنواع التهلكة.

بل إن الإنسان إذا غلب على ظنه التهلكة في أمر ما ، ثم أقبل عليه كان مخالفا  لقوله تعالى:" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا".

فإن هلك لم يكن بمعزل عن قوله تعالى:" وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ".

وذلك لأن غلبة الظن تُنزَّل منزلة اليقين، ولقد قعد الفقهاء قاعدة فقهية أصولية مقصدية، وهي:"المفسدة المتوقعة كالمفسدة الواقعة أثرا ونتيجة".

فالضرر المنظنون ظنا راجحا بحصوله كالضرر المقطوع بحصوله سواء بسواء.

أيها المؤمنون الكرام:

إنه لا أحد ينكر ما يعيشه بعضنا من فقر وحرمان ، إلا أنه ينبغي أن لا يكون ذلك مبررا للمغامرة والمخاطرة بالنفس التي أمر الله بحفظها، وجعل حفظها مقصدا شرعيا ، واقعا في أعلى المراتب من المقاصد المأمور بحفظها.

ولأجل ذلك أباح الشرع النطق بكلمة الكفر حفظا للنفس من التهلكة:" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ".

وألزمنا بتحمل أهون وأخف الضرر حفظا للأنفس، فكان من قواعد الفقه الإسلامي المتفق عليها:"يُرتكب أخف الضررين وأهون الشرين". و"والضرر لا يُزال بمثله ولا بما هو فوقه من باب أولى".

هذه من الناحية الشرعية باختصار ، أما من حيث الواقعُ المرير الذي يتعلل الحراقون بالهروب منه، فإنه أمر يمكن معالجته والتغلب عليه، باتخاذ ما يمكن من أسباب والقيام بما توفر من أعمال، وإن بعض هؤلاء يدفع مبلغ 40 مليونا من أجل أن يهاجر هو وعائلته، وكان بإمكانه أن يستثمر هذا المبلغ في متاجرة أو فلاحة أو شراكة ... فيصون بها كرامته ويحفظ بها نفسه من التهلكة.

فينبغي للمسلم أن يجتهد في العمل في وطنه، ويصبر على ما يمر به من الشدائد في مرحلة ما ، فكل الرجال يعانون ، وكل الرجال ويكابدون محن الزمان، لكنَّ بعد العسر يسرا، وبعد المحنة منحة ، وبعد الشدة فرجا، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:

 وَلا تَجْـــــــزَعْ لنازلة الليـالي ** فــما لحــــــوادثِ الدنيا بقاءُ

وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً ** وشيمتكَ السمــاحة ُ والوفاءُ

وَرِزْقُكَ لَيْـــسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي ** وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ

وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُـــــرورٌ** ولا بـــــؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ

إذا ما كنت ذا قلــــــب قنوع ** فأنت ومالك الدنــيا ســـــواءُ

وقال آخــــر:

فاصبر إذا الدهــــر نبا نوبة ** فجُنة الحــــازمِ أن يصبـــــرا

فتقديم ما يمكن من أسباب والقيام بما توفر من أعمال مع الصبر والاحتساب، ينال عليه صاحبه حسن الثواب، وكلنا نقرأ كلام ربنا:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ".

أما من حيث مستقبل الأحلام الذي يطمح إليه المهاجرون غيرُ الشرعيين، من ثراء أو ربح سريع، أو عيشة هنيئة، فما هو إلا ضرب من الخيال على نحو قوله تعالى:" كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ".

فإن الأخبار المتواترة الواردة من هناك، والشهادات الحية ممن عايشوا مأساة المغتربين ، لخير دليل على ذلك، فكثيرون منهم لم يجدوا مأوى يأوون إليه، فصاروا يبيتون تحت الأنفاق ، وفي الغابات، وعلى أرصفة الشوارع  يفترشون [ الكرتون].

وكثيرون منهم لم يجدوا ما يسدون به جوعتهم؛ فصاروا يمتهنون السرقة ، وقد زُج ببعضهم في المتاجرة بالمخدرات .. وغير ذلك من المعاناة .. وهذا علاوة على ما يتعرضون له من الإهانة والضرب .. بل  قد قُتل العديد منهم   ووجدوا معلقين من أعناقهم في الغابات ..

وهذا على فرض إن قُدِّر لهم الوصول سالمين، فإن كثيرا منهم قد ابتلعتهم البحار كما رأينا.

وإذا علمنا أن هذه الرحلة نحو المجهول تترتب عنها كل هذه المخاطر والمحاذير الشرعية ، فإنه ينبغي للعاقل أن يعدل عنها، ويحذر إخوانه منها، ويبحث عن البدائل التي تحفظ له دينه وكرامته وسلامته..

ومهما كانت الظروف قاسية، فإنه لا ينبغي أن نخاطر بأنفسنا أو نتنكر لوطننا، ولله در الشاعر إذ يقول:

بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ ** وقومي وإن بخلوا علي كرامُ

وإن الإسلام يكره لنا تلك النظرة التشائمية، ويدعونا إلى الأمل والتفائل، وكم هو جميل قول الإمام الثعالبي:

إنّ الجزائـــر في أحوالها عجـــب  ** ولا يدوم بها للناس مكــروه 

 ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع  ** إلا ويُسر من الرحمن يتلـوه  

وإذا كان البعض يقولون أن الآتي أسوأ ؛ فإن القرآن يقول لنا:

" وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ".و يقول لنا: "أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ".

والحمد لله نحن في نعمة ، إذا ما نظرنا إلى من هو دوننا من الشعوب الشقيقة المشردة، في عالمنا الإسلامي.

 فاللهم أتم علينا نعمتك، وأعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا، وفرج عنا وعن سائر شعبنا، واغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. واحفظ وطننا ، وألهمنا مراشد أمورنا، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.