محاضرة في الفقه المقارن بعنوان
تحية المسجد أثناء خطبتي الجمعة (دراسة فقهية مقارنة)
إعداد: العبد المذنب المفتقر إلى رحمة ربه
العيد بن زطة غفر الله له ولوالديه
------------------------------------------
هيكل المحاضرة وخطتها
مقدمة
المطلب الأول : تحرير محل النزاع
المطلب الثاني : استعراض مذاهب الفقهاء
المطلب الثالث : استعراض الأدلة ومناقشتها
المطلب الرابع : القول المختار في المسألة وأسباب اختياره
خاتمة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد /
فلقد ظهر في مساجدنا بعض الشباب يأتون بتحية المسجد أثناء خطبتي الجمعة ، وهو أمر يدعو إلى الاستغراب ؛ باعتباره دخيلا على أهل هذا البلد ؛ لأن المتعارف عليه والمتوارث بينهم ترك تحية المسجد إذا صعد الإمام على المنبر .
وهنا يتساءل الناس - على مختلف مستوياتهم - عن حكم تحية المسجد في هذا الوقت ، هل هي محظورة كما عهدوا عن أئمتهم ؟ أم أنها مطلوبة شرعا كما يفعل هؤلاء الفتية ؟
تلك بعض الأسئلة التي تدور على ألسنة الناس ويريدون لها أجوبة مقنعة ؛ لأجل ذلك كان لابد من دراسة فقهية مقارنة لهذه المسألة ، حتى يتبين لنا وجه الصواب فيها إن شاء الله تعالى .
فلندخل إلى دراسة هذه المسألة بذهنية فارغة ، غير متحيزين إلى فئة ، فنستعرض آراء الفقهاء وأدلتهم ووجه الاستدلال بها ، ثم نناقشها ونخلص إلى بيان القول الراجح فيها إن شاء الله تعالى ، ومتى تبين لنا وجه الصواب فيها لم يجز لنا العدول عنه إلى غيره ؛ لأن رجحان القول يعني غلبة الظن بأن هذا الحكم هو الذي أراده الشارع وابتغاه ، بناء على ما يتبين لنا من قوة أدلته .
المطلب الأول : تحرير محل النزاع
1) لا نزاع بين أهل العلم في استحباب تحية المسجد لمن دخله ، فيندب له الإتيان بها قبل أن يجلس ؛ لقوله صلى اله عليه وسلم : "فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" [أخرجه مسلم].
2) واتفق الفقهاء أيضا على وجوب ترك تحية المسجد إذا دخله وقد أقيمت الصلاة الحاضرة.
3- واختلفوا فيمن دخل المسجد والإمام يخطب.
المطلب الثاني : مذاهب الفقهاء في المسألة
اختلف الفقهاء في ذلك إلى مذهبين:
المذهب الأول:
ذهب الشافعية والحنابلة إلى استحباب تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة على أن يتجوز فيهما ، وبه قال الحسن البصري ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور وغيرهم.
المذهب الثاني:
ذهب المالكية إلى حرمتها، وذهب الحنفية إلى كراهتها. وهو مذهب جمهور السلف من الصحابة والتابعين.
المطلب الثالث : استعراض أدلة المذهبين ومناقشتها
احتج الفريقان بأدلة كثيرة من النقل والعقل، ونحن في هذه المحاضرة إنما نذكر أهمها وأقواها، من خلال الفروع الآتية:
الفرع الأول: أدلة الشافعية والحنابلة ومن وافقهم
الدليل الأول ومناقشته : حديث جابر.
قال:"جاء سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا" [أخرجه مسلم].
وقد روي بروايات مختلفة تتضمن ذات المعنى.
قال ابن قدامة المقدسي (الحنبلي) وهو نص في المسألة [انظر: المغني 2/165].
ورد المالكية والحنفية على ذلك : بأنه قضية عين (أي ؛ خاصة بذلك الرجل) فلا يُقاس عليها غيرها ، والمراد أن يرى الناس سوء حاله فيُواسونه[انظ:المبسوط 2/28]. بدليل رواية الشافعي الآتية ، وفيها أنه :" دخل المسجد بهيئة بذة ... ثم حث الناس على الصدقة ، فألقوا ثيابا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل منها ثوبين". [أخرجه الترمذي].
وأجاب الشافعية والحنابلة عن هذا الرد : بأنه ... تأويل باطل يرده قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " [أخرجه مسلم]. فالخطاب فيه عام موجه لكل مسلم.
وأجاب المالكية والحنفية : بأن ذلك كان قبل وجوب الاستماع إلى الخطبتين ، فيكون منسوخا بقوله تعالى :"وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون".[الأنفال]. [انظر: تهذيب المسالك2/245].
الدليل الثاني ومناقشته: حديث أبي سعيد الخدري:
روى الشافعي بسنده أن عياض بن عبد الله قال:" رأيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه جاء ومروان يخطب ، فقام فصلى ركعتين ، فجاء إليه الأحراس ليجلسوه فأبى أن يجلس حتى صلى ركعتين ، فلما قضينا الصلاة أتيناه فقلنا : يا أبا سعيد كاد هؤلاء أن يقتلوك ، فقال: ما كنت لأدعها لشيء بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأيت رسول الله وجاء رجل وهو يخطب فدخل بهيئة بذة قال : أصليت ؟ قال لا ، قال : فصل ركعتين ثم حث الناس على الصدقة ؛ فألقوا ثيابا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل منها ثوبين". [أخرجه الترمذي]. [أنظر الأم 1/197].
ورد المالكية والحنفية : بأن هذا لا يعدو أن يكون فعل صحابي بناه على فهمه الخاص، لحديث سليك الغطفاني وقد تقدمت مناقشته.
الدليل الثالث: احتجوا بالنظر من عدة وجوه:
1- قالوا إنه قد دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة ؛ فيسن له الإتيان بتحية المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم " فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" [أخرجه مسلم].
ورد المالكية والحنفية : بأن هذا لا يصح ؛ لأنه صادف في ذلك الوقت عملا آخر الاشتغال به واجب ، وهو خطبة الجمعة، فلا يجوز له الاشتغال بالمندوب عن الواجب.
2- قالوا أن تحية المسجد قربة فيجمع بينها وبين الإنصات إلى الخطبة ، فيكون قد جمع بين قربتين.
ورد المالكية والحنفية : بأن هذا لا يسلم به ؛ لأن الاشتغال بتحية المسجد يفوت الاستماع فلا يتحقق له الجمع بينهما.
3- قالوا أنها صلاة ذات سبب فلا تمنع الخطبة منها، كما في قضاء الفوائت.
ورد المالكية والحنفية: بأن ذلك منتقض بترك النفل عند طلوع الشمس وعند غروبها، ولو كان ذا سبب كما في ترك ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس وتحل النافلة.
الفرع الثاني: أدلة المالكية والحنفية ومن وافقهم
الدليل الأول : حديث جابر :
"أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله يخطب فجعل يتخطى الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس فقد أذيت وأنيت" ومعنى أنيت تأخرت.[أخرجه ابن ماجه رقم 1115].
وجه الاستدلال : أنه أمره بالجلوس ولم يأمره بالصلاة ، ولو كانت مطلوبة لأمره بها.
ورد الشافعية والحنابلة : أنه محتمل ، فإما أن يكون الموضع ضيقا ، وإما أن يكون في آخر الخطبة ، فلو اشتغل بها لفاتته تكبيرة الإحرام ، والظاهر إنما أمره بالجلوس ليكف أذاه عن الناس ؛ لأنه كان يتخطى رقابهم. [المغني 2/9].
وأجاب المالكية والحنفية : بأنه لو كان لضيق الوقت أو المكان لنبه عليه جابر راوي الحديث ؛ ليرفع التعارض بين هذا الحديث وبين حديث سليك الغطفاني الذي رواه جابر نفسه.
الدليل الثاني : حديث ابن عمر: " إذا خرج الإمام فلا صلاة و لا كلام ". [أخرجه الطبراني].
ورد الشافعية والحنابلة: بأنه مخصص بحديث سليك الغطفاني .
وأجاب المالكية والحنفية : بأنه لا يصح التخصيص به بعد توجيهه إلى قضية عين.
الدليل الثاني : احتجوا بالنظر فقالوا:
الاستماع إلى الخطبة واجب وتحية المسجد مندوب يشغله عن أداء الواجب ، فوجب ألا يترك الواجب لفعل المندوب. [المبسوط2/29].
ورد الشافعية والحنابلة: بأننا لا نسلم بوجوب الاستماع إلى الخطبة فقد قال الشافعي في الجديد بأنه مندوب.
المطلب الرابع : القول المختار في المسألة وأسبساب اختياره
بعد هذا العرض الموجز لأدلة الفريقين يتبين لنا بأن أدلتهما تكاد تكون متكافئة من حيث القوة ، إلا أن المذهب المالكي والحنفي أقرب للرجحان ، وذلك للأسباب الآتية :
1- أن خطبتي الجمعة واجبة باتفاق الفريقين ، والاستماع إليها كذلك ، بدليل قوله تعالى: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ". قال الإمامُ أحمدُ: "أجمَعُوا أنَّها نزلتْ في الصَّلاةِ والخُطبةِ" أما تحية المسجد فهي مندوبة ، والواجب أولى بأن يُشتغل به ، ومما يؤيد هذا القاعدة المتفق عليها:"إذا تزاحمت مصلحتان روعي أولاهما اعتبارا". ومصلحة الاستماع أولى بالاعتبار من مصلحة التحية.
2- أن من غايات خطاب الجمعة ومقاصده : تحصيل الاتعاظ والتذكير ، بدليل قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ". وهذا المقصد لا يتحقق مع الاشتغال بتحية المسجد.
3- حديث سليك الغطفاني الذي هو المعتمد الأقوى عند الشافعية ضعف الاحتجاج به لسببين:
الأول: أنه معارض بحديث :"أجلس فقد أذيت وأنيت".
والثاني: أنه توجد قرينة قوية تصرفه إلى أنه قضية عين كما تقدم .
4- أن القول بسنية تحية المسجد أثناء الخطبة يفتح ذريعة للفساد من ناحيتين:
أولاهما: قد يتخذ ذريعة للتأخر عن التبكير لصلاة الجمعة ، وذلك مخالف للهدي النبوي ... وربما عمد بعضهم إلى تخطي الرقاب لأجل الصلاة وهو منهي عنه.
والثانية : قد يتخذه بعض الجهلة ذريعة إلى الإعراض عن الاستماع إلى الخطيب ، أو إحراجه والتشويش عليه ، و في ذلك فساد كبير وإثم عظيم ؛ لسوء النية وفساد المقصد ، ومناقضة قصد الشارع الحكيم ، ومن ناقض قصده قصد الشارع بطل عمله ، بل استحال إلى معصية.
وعملا بقاعدة :"سد الذرائع" يترجح قول المالكية وموافقيهم ، ولو كان الشافعي في هذا الزمن الذي ساد فيه الجهل وفسدت فيه الذمم لربما عدل عن قوله إلى قول مالك ؟
خاتمة
- وأخيرا هذا ما جاد به القلم ووسعه الجهد ، فما كان في هذه الدراسة من صواب فهو من الله وحده ، وما كان فيها من نقص فهو مني وأنا أهله .
- و لا أدعي بلوغ الكمال في هذه الدراسة و ما كنت أطمح إليه .
- كما لا أدعي أن ما توصلت إليه هو الحق الذي لا ريب فيه ، بل شعارنا السرمدي كما قال الشافعي : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب .
- وما عملي هذا إلا إبداء وتنظيم لما قرره فقهاء الشريعة في المسألة المطروحة .
- وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد والقبول ، آمين .
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
مصادر الموضوع ومراجعه
الفقه الحنفى:
- المبسوط ، تأليف محمد بن أحمد السرخسي المتوفى سنة 483 هـ ، دار المعرفة بيروت ، 1414هـ 1993 م (د ط).
الفقه المالكي:
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، تأليف أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد المتوفى سنة 595 هــ، دار الحديث القاهرة ، 1425 هــ 2004 م (د ط).
- تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك على منهج العدل والإنصاف في شرح مسائل الخلاف ، تأليف : أبي الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي ، المتوفى سنة 543 هـ ، تحقيق : الدكتور أحمد البوشيخي ، دار المغرب الإسلامي – تونس – 1430هـ 2009م
الفقه الشافعي:
الأم ، تأليف الإمام الشافعي محمد بن إدريس المتوفى سنة 204هـ ، دار المعرفة بيروت ، 1410 هـ ، 1990م (د ط).
الفقه الحنبلي:
المغني في فقه الإمام أحمد:للإمام أبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي الحنبلي المتوفى سنة 620 هـ = 1223 م .ط: دارالفكر بيروت الطبعة الأولى1422هـ 2000م.
كتب الحديث:
- صحيح البخاري ، تأليف: محمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري .
- شرح صحيح مسلم:للإمام أبي زكريا محيي الدين يحي بن شرف النووي الحراني الشافعي، المتوفى سنة 676 هـ = 1278 م . ط: دار المعرفة بيروت (د ت ط).
- الجامع الصحيح سنن الترمذي:لمحمد بن عيسى الترمذي السلمي . ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت - تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون.
- سنن ابن ماجه : تأليف ابن ماجة أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ،المتوفى: 273هـ
ماشاء الله، تقرير نافع وماتع، نفع الله بكم.
ردحذفجزاك الله خير
ردحذفجزاكم الله خيرا
ردحذف