......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأحد، 3 يونيو 2018

مناقشة القائلين بعدم جوزا إخراج القيمة في زكاة الفطر



من أجل الوصول إلى إجابة مقنعة عن هذا التساؤل ، لا بد أن نشير في البداية إلى أن العمل بظاهر النص واجب ، شريطة ألا يقوم دليل معتبر يصرفه عن ظاهره ، ولهذا ينبغي للناظر في المسائل الاجتهادية أ ن يراعي ذلك عند انتزاعه للأحكام من ظواهر الأدلة ؛ لئلا ينزل الأدلة الشرعية على غير ما يناسبها من الوقائع والمسائل ،و حتى لا يبتر الأحكام الشرعية عن غايتاها ، أو يتـخذها وسيلة لتحقـيق غرض ينافي غرض الشارع فيما رسـم لها مـن غاية أو مصلحة ؛
ولذك قال الشاطبي: "لا بد من الالتفات إلى معاني الأمر لا إلى مجرده" [1] .
وقال القرافي:"وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ"[2] .
ولذلك قال أرباب الأصول : يتعين العدول عن ظاهر النص في سبعة مواطن، منها: " أن يكون ظاهر النص مخالفا لأصول الشريعة ومقاصدها " .
ومن التطبيقات الواردة على ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير"[3] .
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: " كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أَقِطٍ أو صاعاً من زبيب"[4] .
فالخبران ثابتان ثبوتا صحيحا ، وظاهرهما يفيد أن إخراج القيمة المالية لا يجزئ ، لأن الشارع حدد ما يخرج في زكاة الفطر جنسا وقدرا ، والعمل بالظاهر واجب اتفاقا كما أسلفنا ، ولكن الفقهاء اختلفوا في الأخذ بهذا الظاهر ، فبه أخذ الشافعي وأحمد فقالا بعدم إجزاء القيمة مطلقا وهو المشهور من مذهب مالك[5]، وقال الباجي وابن رشد والعلامة العدوي بالإجزاء مع الكراهة[6] .
أما الحنفية واشهب وابن القاسم من المالكية وسفيان الثوري والبخاري فلم يأخذوا بهذا الظاهر وقالوا بإجزاء إخراج القيمة مطلقا[7] .
وقال ابن تيمية وابن حبيب واللخمي بجواز إخراج االقيمة للمصلحة [8]، ووجه العدول عن الأخذ بالظاهر هاهنا ، هو مخالفته لمقاصد الشارع من زكاة الفطر ؛ لأن المعتبر في زكاة الفطر حصول الغنى للفقير والمسكين ؛ امتثالاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم  : " أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"[9].
والاغناء يحصل بالقيمة قطعا ، وقد يحصل بالطعام وقد لا يحصل ، فقد يكون الفقير في غنى عن الطعام ، وقد يتعذر عليه بيع الطعام لو أراد بيعه ، بينما تمكنه القيمة من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات ... لذلك كانت القيمة أقرب إلى دفع الحاجة وحصول الاغناء المطلوب والمقصود شرعا.
ورجحان هذا القول لا غبار عليه ولا مدفع له ، لا سيما إذا أضفنا إليه كون الناس في زمن توفر فيه الطعام وعز فيه الدينار ؛ فيكون إخراج القيمة أنفع للفقراء وأرعى لمقاصد الشارع.
ولربما لو كان مالك في عصرنا هذا لما وسعه الإفتاء بغير هذا ، ولم لا ؟ وقد قيل لأبي زيد القرواني أتتخذ كلبا وقد كره مالك ذلك ؟ فقال : " لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسداً ضارياً "[10] .
وقد منع عمر سهم المؤلفة قلوبهم وهو منصوص عليه ، لأن المقصد الذي شرع لأجله لم يعد له وجود ، وهو التاليف لصالح الإسلام لما كان ضعيفا ، ومن القواعد المجمع عليه لدى ارباب الأصول (الحكم يدور مع علته عدما ووجودا). والله أعلم.
وإذا أردت الاطلاع على تفاصيل موانع الأخذ بالظاهر في نصوص السنة فانظر هذا الرابط على موقعنا:
http://laidbenzetta.blogspot.com/2017/04/blog-post_18.html
-------------------------------------------------------------------------------
[1] الموافقات 3 / 149 وانظر الكيلاني ، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي76
[2]
الفروق 1 / 177
[3]
أخرجه الشيخان
[4]
متفق عليه
[5]
انظر : الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 525. والمجموع للنووي 5/ 385. والمعونة 1/ 410.
[6]
منح الجليل 2/97. والبيان والتحصيل 2/ 512.
[7]
فتح الباري 3/ 311.
[8]
مجموع الفتاوى 25 / 82. ومواهب الجليل 2/ 356.
[9]
رواه االبيهقي في الكبرى
[10]
شرح العلامة زورق على الرسالة 2/414


اعتراضات والإجابة عنها
اعترض أحد الإخوة على ما نشرته سابقا حول أفضلية إخراج زكاة الفطر نقودا ، ولما كانت اعتراضاته مشتملة على توجيهات أصولية مفيدة ، ارتأيت أن أنشرها مع الإجابة عنها ، ليستفيد منها القارئ الكريم ، ولأنه سيجد في الإجابة عنها درءا لأقوى الشبهات المثارة حول المسألة.
الاعتراض الأول :
 قال الأخ الكريم : قد لا يصح ترجيح إخراج القيمة ؛ إذا قيل أن  المقصد الشرعي هو الإغناءُ في الاقتيات  خاصة ،  لا في سائر أنواع الاحتياجات الأخرى.
الجواب :
لا يصح هذا الاعتراض لسببين:
1 – أنه يعتبر كالتخصيص بغير مخصص ، وهو غير جائز ، بل هو بدعة في الدين.

2- أن العلة هنا منصوص عليها ، وهي [أغنوهم عن الطلب] أو [عن السؤال] ، والمقرر عند الأصوليين أن الشارع إذا نص على حكم ، ونص على علته ـ أي نص على السبب المقصود من مشروعية ذلك الحكم  ـ فكل عمل يحصل به ذلك المقصود فهو مراد لله بنص الشرع ، كما قال مجد الدين عبد السلام بن تيمية:   "الحكم المتعدى إلى الفرع بعلة منصوص عليها في الأصل مراد بالنص "[المسودة في أصول الفقه ص 385].

فإذا أخرجنا الزكاة طعاما فقد حصل مقصود الشارع ، وهو الإغناء ، وإذا أخرجناها  قيمة فقد حصل مقصوده أيضا ، وبالتالي تكون القيمة هي الأخرى مرادة للشارع بنص الشرع ، لأنه نص على العلة من مشرعية زكاة الفطر.

الاعتراض الثاني :
قال الأخ الكريم : كيف يثبت التنصيص على العلة بحديث الإغناء وهو ضعيف ؟ ثم أن الشارع بين النوعَ الذي يحصل به الإغناء مع قدرته على إخراج القيمة  ، والداعي لإخراج القيمة موجود والمانع منها منتف ، ومع ذلك أخرَجَها طعامًا ولم يثبت أنه أخرجها ولو مرة دراهم مع علمه التام بما يصلح الفقراء والمساكين.

الجواب :
قد يجاب عن الحديث بأن له مؤيدات شتى ؛ ككون زكاة الفطر "طهرة للصائم وطعمة للمساكين". كما ورد في الحديث الصحيح ، فكما شرعت الزكاة طهرة للصائم من الرفث وجبر الخلل الواقع في صومه ، فإنها كذلك قد شرعت لإدخال الفرحة والسرور على الفقراء في يوم العيد ، وإنما تتحقق تلك الفرحة بتلبية احتياجاتهم وإغنائهم عن المسألة . فحديث " أغنوهم عن الطلب" أو " ..عن السؤال ". كما ورد في الرواية الأخرى مؤيد بهذا ، كما أنه  مندرج ضمن أصول الشرع ومقاصده ، الهادفة إلى رعاية المصلحة الراجحة ، وإذن فمعناه ثابت ثبوتا صحيحا ، وقد تلقته العلماء بالقبول، فلا تخلو مصنفاتهم من الاستشهاد به ، وكم من حديث ضعيف اعتبُر قاعدة شرعية ؛ لذات السبب.
وأما كون الشارع نص على جنس معين ، فإنه لم ينف ما عداه ، وإنما نص على تلك الأجناس ؛ لأن المقايضات والبياعات كانت تتم بها ، فكان الفقير في المدينة يمكنه أن يشتري ما يحتاج إليه بالقمح والشعير .. وهذا غير متصور في عصرنا ، بل قد يجعل مبتغيه سخرية بين الورى ، ولا فقه في الدين لمن لم يكن فاقها لواقع زمانه
ثم أن الشارع نفسه أذن في دفع القيمة ، كما في حديث البخاري عن أنس أن أبا بكر كتب له فريضة الزكاة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: "ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده ، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ، ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين..."

وإذا ثبت جواز أخذ القيمة في زكاة الأعيان فجوازها في زكاة الرقاب من باب أولى.
 
فإن قيل : إنما جاز ذلك لفقدان النوع الواجب إخراجه ، وهو بنت مخاض ، فالجواب: أن الطعام الذي لا يلبي احتياجات الفقير ، ولا يحصل له به إغناء عن السؤال ، يكون في حكم المفقود.

وروى البخاري  أيضا أن معاذا قال لأهل اليمن: "ائتوني بعرْض ثيابٍ خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهونُ عليكم وخيرٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".

فها أنت ترى معاذا يعلل أخذ البدل بمصلحة المزكين وفقراء الصحابة معا ، ولم يقل له أحد أن الشارع لم يأمر بمثل هذا مع وجوده  وووو ... بل الظاهر أنه علم ذلك من الشارع نفسه.

وروى ابن أبي شيبة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بالبصرة:"يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم ، عن كل إنسان نصف درهم" يعني في زكاة الفطر.

وروى ابن أبي شيبة أيضا عن زُهَيْرٍ بن معاوية ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ : " أَدْرَكْتُهُمْ وَهُمْ يُعْطُونَ فِي صَدَقَةِ رَمَضَانَ ، الدَّرَاهِمَ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ".  والآثار في ذلك كثيرة .

وإذن فإخراج القيمة ثابت عن النبي والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، والمسألة قد جرى فيها خلف قديم ، والأمر فيها واسع ، والمجادل فيها كمن يريد الغاء مذهب فقهي قائم بأصوله وقواعده ، وليس أهل العلم من يجادلون فيها ، وإنما يجادل فيها أرباب الفهم القاصر ، ولو اتسعت مداركهم ؛ لقالوا كما قال مالك بن أنس حينما هم الخليفة بجمع الناس على موطئه : " يا أمير المؤمنين أن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، ومع كل منهم علم ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم" . ونحن قد اخترنا هذا لأنفسنا.
 وهؤلاء الذين يريدون أن يفرضوا على الناس رأيا معينا والغاء ما سواه ، كأني بهم لو كانوا مكان مالك ؛ لقالوا يحرم الخروج عن موطئنا ، ومن خالفه فهو ضال مبتدع ، بل هو في الجحيم مخلدا.
أرجو أن يكون في هذا الجواب ما يلبي رغبة طالب الحقيقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق