الخطبة الأولى
الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام
قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ،
ولطفه وإحسانه ، ونسأله المزيد من أفضاله ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و
رسوله ، وصفيه من خلقه ، صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
أيها الإخوة الأكارم : عما قريب ستشرق الدنيا وتبتهج بشهر
رمضان المبارك ، الذي يتلهف المؤمنون شوقا لبلوغه ؛ لتستعيد فيه نفوسهم عافيتها وصفاءها ، من بعد
تلوثها بالنزوات والشهوات ، في زحام دنيا مائجة بالفتن والمغريات ...
فبعد أيام قلائل سيهل علينا هلال رمضان ؛ فتسعد في ظله النفوس ، وتهنأ في رحابه القلوب ، وتستريح في أجوائه
الضمائر ، وتستمتع بعبيق نفحاته الخواطر، وتستنير بأنواره الإيمانية الأبصار والبصائر
...
كيف فلا ؟ وهو الشهر الذي فيه تتضاعف الحسنات ، وتستجاب الدعوات ، وتتنزل
فيه الرحمات والبركات، وفيه تغفر الذنوب وتقال
العثرات وتكفر السيئات ، وفيه تتزين
الجنة وتُفتَّح أبوابُها للمؤمنين والمؤمنات، وتغلق أبواب النيران وتصفد مردة الشياطين ، وفيه ليلة هي خير من
ثلاث وثمانين عاما ، ولله
فيه عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة من ليالي رمضان ... وكل ذلك ثابت في أحاديث سيد
المرسلين ، صلى الله عليه وآله الطاهرين.
لذلك
كان بلوغ رمضان من أجل الأمنيات ، التي يتطلع إليها المؤمنون والمؤمنات ، وقد كان الحبيب
محمد صلى عليه وعلى آله وسلم يتمناها ، ويسأل الله أن يبلغه إياها؛ فيقول في دعائه
:" اللهم بارك لنا في رجب وشعبان و بلغنا رمضان". وبلوغ رمضان يعتبر في حد
ذاته سببا من أسباب المغفرة ، فقد قال سيدنا
وحبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام:"الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى
الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا
اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ".
فأبشر
نفسي ، وأبشركم أحبتي الكرام ، بشهر الصيام والقيام ؛ تأسيا بالحبيب المصطفى عليه
ألف صلاة ووألف سلام ، الذي كان يبشر أصحابه بقدومه فيقول:"أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللهُ
عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغَلَّقُ فِيهِ
أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ".
وروي عن المُعَلَّى بنِ الفضل: " أن السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم
يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم ". وقال يحي بن أبي كثير: " كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان ، وتسلمه مني
متقبلا ".
فقولوا بألسنة صادقة وقلوب أهل اليقين : اللهم بارك لنا في ما
تبقى من أيام شعبان، وبلغنا رمضان ، وسلمــنا إلى رمضان وسلمه لنا ، وتسلمه منا متقبلا ، آمين.
أيها
الإخوة الكرام:
إن شــهرا هذه خصائصه .. وتلك مزاياه وفضائله ..
ينبغي أن نستقبله استقبالا يليق بقدره ومقامه ، ومن ذلك أن نستقبله بالتوبة والاستغفار،
والندم على ما فرطنا في جنب الله جل وعلا ، فإن أسعد يوم في أعمارنا
، هو ذلك اليوم الذي نصطلح فيه مع الله ، فقد قال - صلى الله عليه سلّم لكعب بن
مالك لما تاب وتاب الله عليه - : " أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ
عليك منذ ولدَتك أمّك "..
ومهما بلغت ذنوبك – أخي المسلم – فلا تيأسنْ من
رحمة ربك ؛ فإن ربك واسع المغفرة ، وقد فتح أبوابه للتائبين ، فقال تعالى : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ".
ووعدهم – سبحانه وتعالى - بقبول
توبتهم ، والعفو عما مضى من سالف سيئاتهم ، فقال تقدست أسماؤه: " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ".
ولذلك ينبغي أن نجعل من هذه الشهر نقطة تحول في حياتنا ، ونتهيأ
من الآن بأن نعيش أيامه كما أمر الله ، فنَعْمُرَ
أوقاتَه بالأعمال الصالحة ، كالمحافظة على الصلوات ، والإكثار من النوافل والصدقات
، وتلاوة القران والمواظبة على الأدعية والمناجاة ، وتفطير الصائمين ، والإحسان
إلى الفقراء ، وتفقد أحوال المحتاجين ، وغير ذلك من أبواب الخيرات .. التي أمرنا
ربنا بالتسابق إليها والتنافس فيها ، فقال جل جلاله:" فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ". وقال سبحانه وتعالى
:" وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ". وقال تعالى
:"وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ".
ولْنحذرْ
أن نكون من أولائك الغافلين عن معاني هذا الشهر الكريم ، الذين لا هم لهم في رمضان إلا الأكل والشرب ، فتجدهم يتهيأون لاستقباله بلهفة وشراهة ؛ وكأنهم يتوقعون فيه مجاعة طارئة ، أو كانوا من قبل أن يأتيَهم من الأكل لمحرومين ؟؟ وأسوأ من هؤلاء أولائك الذين جعلوا حظهم من رمضان التنقل من طول
السهرات ، إلى مشاهدة الأفلام والمسلسلات ، ومن النوم بالنهار إلى الفجور والمشاجرات
، أو الغش في التجارة والمعاملات؟ !
ذلك واقع كثيرين للأسف الشديد، ولا معنى للصيام مع هذه السلوكيات السيئة ، فقد جاء في الحديث الشريف : " رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ". و" مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ". أي ليس لله إرادة في قبول صيامه.
فاحذروا إخوتي الكرام : من هذه الأخلاقيات السيئة ؛ لئلا يفوتكم ما في
هذا الشهر من خير عميم ، واحرصوا على أن تستقبلوه استقبالا يليق بمقامه وقدره على النحو الذي ذكرنا سابقا ، وإياكم ثم إياكم أن تضيع هذه الفرصة من بين أيدكم ؛ فإننا لا ندري إن كنا
سنعيش إلى رمضان القادم أم لا ؟ فالأعمار بيد الله ، "وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا ". وقد علمنا علم اليقين .. ورأينا بعين اليقين .. إخوانا لنا كانوا معنا في رمضان الماضي ، لكن أين هم الآن ؟ لقد رحلوا عنا بلا رجعة ؟؟ فأصبحوا مرتهنين بما كسبوا ؟ وإن لكم في رحيلهم لعبرةً ومزدجرا ؟ ولله دَر القائل :
كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ * مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْــــوَانِ
أفْنَاهُمُ المــوتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو * حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
ولذلك لا تضيعوا الفرصة أيها المؤمنون ، واحذروا التسويف والأماني ، فإن أعظمَ
الناس خسرانا ، من أدرك رمضان ولم يغفر له
فيه ، فرمضان هو موسم التجارة الرابحة مع الله تعالى ، ولا يُحْرَمُ الربحَ في موسم الربح ، ولا يُحْرَمُ المغفرةَ في شهر المغفرة .. إلا شقي ؟ عافاني الله وإياكم من هذا الحرمان ، ووفقني الله وإياكم لكل خير.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين الأحياء والمييتين
أنه هو الغفور الرحيم
أنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وآله وصحبه
الشرفاء ، وبعد:
أيها
الإخوة الكرام:
لا ينبغي أن نستقبل رمضان بمشاعرنا وعواطفنا فحسب ، بل ينبغي أن نتجاوز ذلك إلى برمجة أوقاتنا وأعمالنا ، كما يبرمج التجار
أو قات وأعمال تجارتهم ، فينيغي أن نبرمج أعمال
الليل وأعمال النهار ، على النحو الذي يمكننا من إعطاء كل ذي حق حقه ، فلربك عليك حق ، ولكل من نفسك وأسرتك ووظيفتك عليك حق .. فأعط
لكل ذي حقه
، ولن تتمكن من ذلك ما لم تقسم أعمال اليوم
و الليلة بشكل منظم ، يحميك من أن تستهلك أوقاتَك المشاغلُ الجانبية ؛ فيمضي عليك
الليل والنهار، ورصيدك لا يزال فارغا من الحسنات ، لذلك كانت هذه البرمجة مهمة جدا في حياة المسلم ؛ لأنها تعينه
على اغتنام هذا الشهر الكريم ، وتقيه من خسارة فضائله ، والحرمان من خيراته وهباته
، وفقني الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.
عباد الله أوصيكم ونفسي
المخطئة المذنبة بتقوى الله ، فاتقوا الله حق تقواه ، وراقبوه مراقبة عبد يعلم
يقينا أن الله مطلع عليه ويراه ، وتزودوا من هذه الدار الفانية ، للآخرة الباقية
عملا صالحا يرضاه ، واعلموا أنكم من هذه الدنيا راحلون وإلى الله راجعون ، وبين
يديه واقفون ، وعن أعمالكم محاسبون ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره ، ولا يظلم الله أحدا من العالمين ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت
من لدنه أجرا عظيما.
واعلموا أن الله قد أمركم بأمر عظيم ،
بدأه فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه ، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه
وإنسه ، فقال عز من قائل ، ولم يزل قائلا عليما ، وآمرا حكيما :" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً
".
اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد في الأولين وفي الآخرين،
وفي كل وقت وحين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
اللهم أهِّلْنا لخدمتك وخدمة دينك
وخدمة عبادك ، وأنعم علينا بأنسك وحضرتك ، وأيدنا بنصرك وتوفيقك ، واكفنا شر
أعدائنا من الإنس والجن أجمعين ، واجعل بلادنا بلاد العلم والدين ، وأصلح حكامنا وفقهم
إلى ما فيه صلاحنا في عاجلنا وعاقبة أمرنا
، واغفر اللهم لوالدين وجميع المسلمين الأحياء والميتين ، وصل اللهم على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد ، وعلى
آله الطاهرين وصحبه الميامين ، هذا .. وإن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ؛ فقوموا إليها يرحمْكم الله.
جزاك الله خيرا
ردحذفجزاك الله كل خير
ردحذفالسلام عليكم بوركت هذه الجهود وتقبلها الله .
ردحذفبارك الله فيك وجزاك الله خيرا ونفع بك البلاد والعباد
ردحذف