إذا فُهِمت أولاهما على أنها منهج رباني يسلكه العبد للوصول إلى الله ، عن طريق الاجتهاد في تطهير الفؤاد من مساوئ الأخلاق وتحليته بمحاسنها ، ومجاهدة النفس وتزكيتها .. والارتقاء بها إلى مقام المشهادة والمراقبة .. كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
👈 وفهمت الثانية على أنها منهج رباني يسلكه العبد للتمسك بالسنة المطهرة والتحلي بأخلاقها والتأدب بآدابها على ضوء ما فهمه سلف هذه الأمة في تلك الفترة التاريخية التي تمثل العصر الذهبي للإسلام ، المشهود لأهله بالخيرية ، في قوله صلى الله عليه وسلم:" خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ..." .
فالصوفية والسلفية - بالمفهوم بالمتقدم - لا يستنكف مسلم عن الانتساب إلى أي منهما ، كما لا يحق لأي كان أن يستأثر بالانتساب إلى أيهما وحده دون سائر المسلمين.
لكن المشكلة في أدعياء الطريقتين أو الحركتين.
* فليس من الصوفية - مثلا - إباحة التمسح بالقبور أو الاستغاثة بالأموات أيا كانوا ؟ فهذا السلوك - وما أشبهه - يناقض النصوص الشرعية الثابتة ، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ".
* كما أنه ليس من السلفية في شيء أن يُشترط لصحة تدين الناجي أن يكون قلبه مشحونا بالأحقاد والضغائن لمخالفيه في الرأي ، فهذا السلوك يناقض الأصول الشرعية الثابتة من مثل قوله تعالى :"وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا". وقوله تعالى :"إلا من أتى الله بقلب سليم".
أو باحة الغيبة التي حرم الله وجعلها منهجا متبعا تحت مسمى الجرح والتعديل ..أواعتبار الامنتاع عن إفشاء السلام آية الولاء والبراء .. وما أشبه ذلك من السلوكات التي نراها مترجمة واقعا وحياة.
ومن ذلك أني في منشور متقدم قد كتبت عن مظلومية داعية من دعاة الإسلام تعرض للقهر والإذلال ، وهو سلمان العودة فك الله أسره وأحسن خلاصه، فعلق أحد أتباع الاتجاه الصوفي قائلا :" إخواني ولحمه وهابي". وعلق آخر من الاتجاه المعاكس قائلا:" انه من خوان المسلمين من الخوارج كلب النار عليه من الله مايستحق".
ولا جرم أن الصوفية الحقة والسلفية الحقة لبريئان من هذا السلوك ؟ الذي تجرد من كل أحاسيس الرحمة والرقة والحنو ... ولنفرض أنه إخواني أو وهابي .. أليس مسلما ؟ ألا تجمعنا به رابطة لا إله إلا الله ؟ ألم يكن نبينا عليه السلام رحيما حتى بالكافرين والمنافقين ..؟ وشواهد ذلك معلومة.
لكنْ صاحبانا لم يرق أي ٌ منهما لجراح مسلم محسوب من الداعين إلى الله ، وبخلا حتى بدعوة لخلاصه ولم جراحه ، بل ظهر في قوليهما ما ينبئ عن الشماتة به عياذا بالله ، ثم أن كلا منهما يدعي أنه من رسول ملتمس ... لا والله ؟ ما هذا بمنهج رسول الله ؛ فإن الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن ضربت أعناق أسرى بدر ، وكان من جملتهم "النضر بن الحارث". وبعد مقتله جاءت رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابنة النضر ، تناشده فيها بالرحم أن يطلق سراحه ، فلما قرئت الرسالة علىه دمعت عيناه ، وقال: " لو أتتني هذه الأبيات - يعني قبل مقتله - لأرسلته إليها برمته".
فرسول الله تدمع عيناه رأفة ورحمة بمشرك ؛ لأنه نوشد لأجله برابطة الرحم ؟ فكيف لو نوشد برابطة الإسلام ؟ وكيف لو كان من نوشد لأجله هو سلمان العودة المسلم الداعي إلى الإسلام ؟ عذرا يا سيدي يا رسول الله .. لقد ابتعدنا كثيرا عن المنهج الذي رسمته لنا .
لذلك أقول : أننا في حاجة ملحة إلى ضبط مفاهيمنا .. وقصودنا .. وتصوراتنا .. وسلوكاتنا .. بحقائق الإسلام .. بصرف النظر عن توجهاتنا الفكرية .. أو انتمائتنا المذهبية .. إذن لصفيت الكثير من خلافاتنا ، التي نخرت قِوانا ، ووزعت جهودنا ، وأذهبت ريحنا وأغرت بنا أعداءنا ..
ولا أزال أتذكر مقولة سمعتها من سيدي ومولاي البوطي رحمه الله في جامع تنكز بمدشق سنة 1992م ، قال : " إن الصوفية الحقة والسلفية الحقة يلتقيان في حقيقة واحدة وينهلان من منبع واحد ..". لكن المشكلة - كما تقدم - في أدعياء الطريقتين أو الحركتين.
ألهمنا الله رشدنا جميعا وبصرنا بحقائق الأمور.
بارك الله فيك على تصحيح هذه المفاهيم.
ردحذف