......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 25 يناير 2018

جدد السفينة فإن البحر عميق ...

الخطبة الأولى
الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على لطفه وإحسانه ، ونشكره على تفضله وإنعامه ، ونسأله المزيد من أفضاله ،  ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله  رسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

أيها الإخوة المؤمنون : روى الإمام المقدسي والديلمي في الفردوس أن أباذر رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأربع فقال:" يا أبا ذرّ جدّد السفينة فإنّ البحر عميق ، وأكثر الزاد فإنّ السّفر طويل ، وأخْلص العمل فإنّ الناقد بصير ، وخفّف الأثقال فإنّ في الطريق عقبةً كؤود لا يقطعها إلا المُخِفُّون"

هذا الأثر له ما يؤيده من الدلائل القوية ، وقد اشتمل على أربعِ وصايا ثمينة وعظيمة ، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها ؛ إذ عليها تتوقف نجاتنا في رحلتنا إلى الدار الآخرة.

فالوصية الأولى : جدّد السفينة فإنّ البحر عميق
ولنضرب مثلا بسيطا لتوضيح المراد بالسفينة في هذه الوصية : فإنك إذا أردت أن تقطع المحيط بين أروبا وأمريكا – مثلا – عبر سفينة ، فإن هذه السفينة لكي تصل سالمة إلى هدفها ولا تغرق في البحار .. فلا بد لها من صيانة وتجديد .. فهي تحتاج إلى  تأكد من سلامة محركها ومختلف آلاتها وأجهزتها ... وتزودها بما يكفي من زيوت ووقود لقطع هذه الرحلة الطويلة ؛ لأن أعماق البحر لا تتسامح مع العطب والخلل !!
 وهذه الرحلة الطويلة والشاقة لا تساوي شيئا مع الرحلة إلى الدار الآخرة ، حيث القبر والبرزخ ، ثم البعث والنشور ، ثم الموقف .. والحساب والميزان ، ثم الصراط وبعده الجنة أو النار !!
فهذه الرحلة تحتاج  إلى تجديد سفينة التقوى والإيمان  ، في ميدان دنيا مائجةٍ بالفتن والتقلبات ؟ والشهوات والشبهات ... قَالَ لُقْمَانُ الحكيم لولده وهو يعظه ": يَا بُنَيَّ ، إِنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ ، قَدْ غَرِقَ فِيهَا نَاسٌ كَثِيرٌ ، فَلْتَكُنْ سَفِينَتُكَ فِيهَا تَقْوَى اللَّهِ ، وَحَشْوُهَا إِيمَانًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَشِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ ، لَعَلَّكَ نَاجٍ ، وَلا أَرَاكَ نَاجِيًافكان لا بدّ من تجديد سفينة الإيمان ، حتى نصل سالمين إلى مستقرنا الأخير ،  فالإيمان يقوى ويضعف ، ويزيد وينقص ،  يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ،  ومن  وسائل تجديده تقوية العلاقة بالملك الديان ، ومراقبته في السر والإعلان  ، والإكثار من التوبة الاستغفار ، والمداومة على  ذكر الله تعالى  والاستعداد للقائه ... فذلكم هو السلم الذي  يمكّن المسلم من العبور بسلام  والوصول بأمان ، في سفر بعيد وبحر عميق ؛ فلا يسلم من هذه الدنيا إلا من عرف الله ، واشتغل بتجديد سفينته إيمانه ، على نحو ما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
إن لله عبـــــــــادا فطنــــاً *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا  
نظروا فيـــــها فلما علموا *** أنهـا ليــسـت لحي وطـنا
جعلوهــا لجــة واتخـــذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا

أما الوصية الثانية فهي : وأكثر الزاد فإنّ السّفر طويل
فالرحلة إلى الدار الآخرة ليست نزهة أو نهاية أسبوع سهلة العبور ، بل هي رحلة طويلة وخطيرة ، فكان لا بدّ لها من مؤونة مناسبة ، والمؤونة هنا ليست المأكل والمشرب ، وليست كثرة الأموال أو قوة الجاه والسلطان ... ولكنها العمل الصالح الذي يدرّ الحسنات على صاحبه ، فالحسنات وحدها هي العملة السارية في رحلة الدار الآخرة ، ولربّ حسنة واحدة ترجح الكفة ؛ فيكون صاحبُها من الناجين ،  وقد تنقصه حسنة واحدة فيكون من الهالكين ، وقد قيل " لا تسأل عمّن هلك كيف هلك ؟ ولكن اسأل عمّن نجا كيف نجا؟ " وقد بين لنا  ربنا خير ما نتزود به لهذه الرحلة فقال جل وعلا " وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى " .
ولذلك فإن الميت يتمنى ويطلب الرجعة إلى الدنيا ؛ لا لشيء ؟ إلا ليتزود بصالح الأعمال ، قال البارئ جل ثناؤه:" حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ  لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ".

وها أنت يا أخي المسلم لا تزال حيا في هذه الدنيا فما الذي يعيقك أن تتزود لرحلتك الطويلة ؟ وما الذي يمنعك من شحن موازينك بالحسنات قبل الممات ؟

تزود من التقـــوى فإنــــك لا تدري *** إذا جن الليــــل أن تعيش إلى الفجر
فكم من صغار يُرتجى طولُ عُمرِهم *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمـــة القــبر       
وكم من صحيح مـات من غير علة *** وكم من سقيم عــاش حينا من الدهر
وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا *** وقـــد نسجت أكفانه وهــــو لا يدري
وكم ساكـــنٍ عند الصباح بقصــره *** وعند المساء قد كان من ساكن القبر
فداوم على تقــــوى الإله فإنــــــها *** أمان من الأهـــوال في موقف الحشر

والوصية الثالثة : وأخْلص العمل فإنّ الناقد بصير
فالله تعالى بصير بأعمالنا ، ويعلم خطرات قلوبنا ، قال تعالى:"وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" ولن ننجو - في رحلتنا إلى الدار الآخرة – حتى نمحض نيتنا لله وحده ؛ لأن الأعمال كلها لا تقوم ولا تستقيم إلا بالإخلاص لله وحده ، فالإخلاص هو جوهر العبادة،  وهو شرط قبول العمل ، فهو بمنزلة الأساس للبنيان ، وبمنزلة الروح للجسد ، فلا أجر ولا ثواب على أي عمل  مهما عظم إلا بالإخلاص، ويكفي في ذلك قوله تعالى: " فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ".  

أما الوصية الرابعة فهي: وخفّف الأثقال فإنّ في الطريق عقبةً كؤود لا يقطعها إلا المُخِفُّون
أيها الإخوة الكرام: كيف يكون حال راحلة – سواء كانت ناقة ، أو حصانا ، أو سيارة ، أو حافلة – تقتحم عقبة شاقة وصاعدة إلى أعلى ... وهي تحمل أكثر من طاقتها وحمولتها ؟ إنه الهلاك من غير شكّ ؛ ولذلك فإن العاقل يخفّف أثقال راحلته حتى يستطيع  تجاوز العقبة !!
 وكذلك حال الإنسان وهو يعبر على الصراط ، وهو جسر ممدود فوق جهنم ، لا معبر من أرض المحشر إلى الجنة  إلا من خلاله ، وقد جاء في وصفه أنه أرق من الشّعْر ، وَأحد من السَّيْف ، وأحر من الْجَمْر ... وقيل أن طوله مسيرة خَمْسمِائَة عَام ... وهو أسود مظلم من شدَّة سَواد جَهَنَّم ، "وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ" ومن زلت قدمه على الصراط وجد نفسه في أعماق جهنم ، ولا يستطيع العبور عليه إلا من تخفف من حمل الأثقال ، والمقصود بالأثقال – ها هنا -  الذنوب والمعاصي وظلم العباد كاغتيابهم وقذفهم وأخذ أموالهم بغير حق ... فتلك هي التي تُعرقل السير وتحول بين العبد وبين الوصول الآمن إلى الله ؛ لأجل ذلك ينبغي للمسلم أن يغتنم الفرص المتعددة ليمحو ذنوبه ، وليبدّل سيئاته حسنات ... وذلك ممكن إن شاء الله ؟  بالتوبة والاستغفار وفعل الخيرات وإرضاء الله تعالى ورد المظالم إلى أهلها ... قال الله  تعالى : " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ". وقال عليه الصلاة والسلام :" وأتبع السيئة الحسنة تمحُها وخالق الناس بخلق حسن " وقال تعالى:" إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ." وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ".
فبهذا يخفّف العبد حمولته وأثقاله ؛ فيقطع أشواط الرحلة بيُسر ويكون من الناجين إن شاء الله تعالى، أما من فوّت الفرص وتغافل عن التخفّف فيكون موقفه من الحسرة والندامة كما قال الله تعالى  :"  أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ".
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وعلى آله وصحبه الشرفاء ، وبعد:
أحبتي المؤمنون : جدّدوا سفينة الإيمان والتقوى ؛ فإنّ بحر الدنيا عميق ، وأكثروا الزاد فإنّ السّفر إلى الدار الآخرة طويل ، وأخْلصوا العمل لله فإنّه لا ينجو إلا المخلصون ، وخفّفوا أثقال الذنوب بالتوبة والاستغفار ورد المظالم إلى أهلها ، فإنّ في الطريق عقبةً كؤود لا يقطعها إلا المُخِفُّون ، ومثلوا لأنفسكم وَقد جِئْتم إِلَى الصِّرَاط ورَأَيْتم العاملين المخفين المخلصين قد جازوه إلى جنات النعيم ، ورأيتم العاصين الغافلين الظالمين قد زلت أقدامهم في دركات الجحيم ، فَاللهَ اللهَ أيها المؤمنون : لا تقطعوا أعماركم في الغفلة وإتباع الهوى ، ولا تقضوا حياتكم في القيل والقال والْخلاف والجفاء ؛ وخُذُوا لأنفسكم بِالِاحْتِيَاطِ ، واحذروا الْأَهْوَال الصعبة عِنْد جَوَاز الصِّرَاط ؛ فإن الصِّرَاط لَا يجوزه آثم وَلَا ينجو مِنْهُ ظَالِم ....
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية ، سيدنا محمد حامل لواء الحوض والشفاعة ، والذي ينادي يوم القيامة : يا رب أمتي أمتي ... فاللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين ، وأحيينا اللهم على سنته ، وأمتنا على ملته ، وارزقنا شفاعته واحشرنا في زمرته ،  وأوردنا حوضه الشريف وارزقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا ، ولا تحول بيننا وبينه بسوء فعالنا ، اللهم اختم لنا بالحسنى ، واجعل خير أعمارنا آخرها ، وخير أعمالنا خواتمها ، وخير أيامنا يم نلقاك ، واغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأهل الفضل علينا ، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


هناك 8 تعليقات:

  1. بارك الله فيك أستاذنا الكريم

    ردحذف
  2. والله أحسنت خطبة رائعة جدا

    ردحذف
  3. جزاكم الله خير الجزاء

    ردحذف
  4. الشريف الحسيني31 ديسمبر 2020 في 3:48 م

    السلام عليكم الشيخ العيد فاضل وخطيب بارع وواعظ بليغ

    ردحذف
  5. بارك الله فيك أستاذنا الكريم

    ردحذف
  6. السلام عليكم
    جزاك الله خيرا

    ردحذف
  7. السلام عليكم
    أقوال مفيدة فائدة التامة. بارك الله فيك

    ردحذف