محامد
الحمد لله رب العالمين ،
والعاقبة للمتقين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبد
الله ورسوله الصادق الوعد الأمين ، صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه وأتباعه إلى
يوم الدين / أما بعد:
أيها الإخوة الكرام :
مقدمة
خطاب اليوم سيكون - إن شاء الله - حول قاعدة هامة من قواعد
القرآن العظيم ،
يندرج
تحتها ما لا حصر له من الفروع والجزئيات ، وهي قوله تعالى : "وقولوا للناس حسنا"[ البقرة83].
فهذا النص القرآني الكريم يعد
أصلا ثابتا ، وقاعدة مطردة ومستمرة في مجال التعامل مع الناس ، فالإنسان بطبعه مدني كما يقال
، وكثرة تعاملاته اليومية تحتم عليه الاحتكاك بطوائف مختلفة من البشر ، فقد يسمع قولا منهم حسنا ، وقد يسمع منهم قولا قبيحا
؟؟
فتأتي هذه القاعدة القرآنية لتضبط علاقته اللفظية مع الناس ، فالشريعة لم تترك
جانبا من جوانب الحياة إلا ووضعت له ما يضبطه وينظمه وفق ما أراده الشارع الحكيم وابتغاه .
شواهد
هذه القاعدة
ولهذه القاعدة شواهد عديدة ،
فقد تكرر ذكرها في القرآن في أكثر من موضع
، نذكر منها :
1) " وقل لعبادي يقولوا التي هــــــــــي أحســـــن إن الشيطــــــان
ينزغ بينهم"[ الإســراء53ْ].
2)
" و لا تجادلوا
أهل الكتاب إلا بالتي هي أحســــــــــــن إلا الذين ظلموا منهم"[العنكبوت46].
3)
"
أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم يالتي هي أحسن"[ االنحـل125].
مدلول
هذه القاعدة
ومن اللطائف الواردة في هذه الآية
الكريمة : "وقولوا للناس حسنا" أن فيها قراءتين:
الأولى : " وقولوا للناس
حُسْنا". والثانية : ﴿وقولوا للناس حَسَنًا﴾. بفتح الحاء والسين.
قال أهل العلم: القول الحسن يشمل: الحسن في هيئته
وفي معناه:
- ففي هيئته : أن أن نسوقه للآخرين بلطف ولين ، بألفاظ لا غلظة فيها ولا شدة ...
- وفي معناه : بأن يكون مشتملا
على الخير ، فيدخل فيه النصح والتذكير والأمر بالعروف والنهي عن المنكر..
إذن فنحن مأمورون – في هذه الآية - أن
نقول للنناس خيرا ، وفي الحديث الشريف:" من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"[ رواه البخاري مسلم]. ولكن لا يقبل
منا قول الخير ولا نثاب عليه إلا إذا سقناه للآخرين بألفاظ حسنة ، لا غلظة
فيها و لا شدة ...
بعض الناس يقف موقف الناصح أوالداعي إلى الله ، فيؤنب ويعنف
ويحرج عباد الله ، فيفسد من حيث يريد أن يصلح ، ويفرق من حيث يريد أن يجمع ..... وهو يحسب أنه يحسن صنعا ؟ ولكنه في حقيقة الأمر
قد أساء ، لذلك فهو مأزور غير مأجور ، وإنما يؤجر إذا كانت أقواله حسنة في هيئتها ،
حسنة في معانيها كما أسلفنا ، وفي الحديث : " إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي
شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ"[ رواه مسلم]
أهمية
هذه القاعدة والحاجة إليها
ومن هنا تدرك أهمية هذه القاعدة ومدى احتياجنا إليها ، خاصةً و نحن في حياتنا نتعامل مع أصناف
مختلفة من البشر، فيهم المؤمن
والكافر، وفيهم الصالح والطالح ، وفيهم الصغير والكبير، وفيهم المغرض والحسود والحقود ، وفيهم
العالم والجاهل ، وهلم جرا ... ولفظ الناس في قوله تعالى "وقولوا للناس
حسنا" لفظ عام يشمل جميع الأصناف التي ذكرنا ، و نحن مطالبون شرعا بأن نحسن القول لجميعهم ...
بل نحن نحتاج
لهذه القاعدة حتى في تعاملنا مع أقرب
الناس إلينا : مع
الوالدين، مع الزوجة ، مع الأولاد
، مع الخدم ، مع الشركاء ، مع طلابنا وأساتذتنا ...الخ
صور من تطبيقات هذه القاعدة
في واقع الحياة
إذا تأملتم – أيها الإخوة
- القرآن العظيم ؛ وجدتَم أحوالا عديدة قد نص عليها القرآن كتطبيقات عملية لهذه القاعدة ، نذكر منها في هذا المقام:
1) تأملوا قول الله تعالى -في شأن الوالدين - :" و لا تنهرهما
وقل لهما قولا كريما" [الإسراء23]. فنهي سبحانه
وتعالى عن نهر الوالدين وزجرهما ،
ثم أمرٌ بأن نقول لهما قولا
كريما .. والقول الكريم هو القول الحسن الذي لا تعنيف فيه ...
2) وفيما يخص مخاطبة السائل المحتاج قال تعالى "وأما السائل فلا
تنهر" [الضحى10]. أي؛ فلا تزجره ، ولكن تفضل عليه بشيء ، أورده بقول جميل
؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلا قط. ويرى بعض العلماء أن هذه الآية عامة في كل سائل
! سواء كان سائلا للمال أو كان
سائلا للعلم .
3) ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة القرآنية أيضا ، ما أثنى الله به على عباد الرحمن بقوله: "وعباد الرحمن
الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"[الفرقان63].
يقول ابن جرير -
في بيان معنى هذه الآية - :
"وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروفمن القول، والسداد من الخطاب". [تفسير الطبري19 / 295.]
وهم يقولون ذلك "لا عن ضعف ولكن عن ترفع ، ولا عن عجز إنما عناستعلاء ، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع"[الظلال:5/130].
إذن : فهذا بيان للطريقة و الكيفية المثلى
والأجدى لتعامل الأمجاد مع ذوي الإساءة ، فلا يليق بأولائك أن ينحدروا عن مقامهم الرفيع إلى مستوى هؤلاء ، و إلا صاروا مثلهم ، لذلك
قال الحكماء: "لا تجادل الأحمق ؛ فيخطأ الناس في التمييز بينكما " ، أي؛ لا يدرون أيكما هو الأحمق ؟ ثم أنه لا فائدة ترجى
من مجادلة هؤلاء
كما قال الشاعر: لو أن كل كلب عوى
ألقمته حجرا *** لكان الصخر مثقالا بدينار. وما أكثر الكلاب العاوية التي لو رددنا على
عوائها لأتعبنا أنفسنا دون طائل.
نماذج من الردود الحسنة على سفاهة الجاهلين
نماذج من الردود الحسنة
على سفاهة الج
- إن الإعراض عن
اللغو والسفه خير من الجواب في كثير من الأحايين ، كما قال الشافعي رحمه :
إذا نطق السفيه
فلا تجبه *** وخير من إجابته السكـوت
إذا أجبـــته
فــرجــت عنه *** وإذا تركته كمـــــدا يموت
وإذا كان لا بد من الجواب فليكن بالقول الحسن :
- مر المسيح عليه السلام بقوم من
اليهود فقالوا له شرا، فقال لهم خيرا، فقيل له: إنهم يقولون شرا
وتقول لهم خيرا ؟ ! فقال: كل واحد ينفق مما عنده.
فمن في بضاعته الخير فهو ينفق منه ، ومن في بضاعته شر فهو ينفق منه ،
فالشر لا يصدر إلا عن نفوس شريرة ، كما أن الخير لا يصدر إلا عن نفوس خيرة.
- وهذا المعنى يفسر لنا رد هود عليه
السلام على إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى
توحيد ا لله قالوا:"إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة
ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين"[الأعراف67].
فإن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم " هود " لأن الشقة
بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا، فهو فى الذؤابة من الخير والبر، وبين قوم سفهوا
أنفسهم وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها ـ لغبائهم ـ تضر وتنفع !! كيف يضيق
المعلم الكبير بهرف هذه القطعان ؟؟
هكذا ينبغي أن تكون مواقف النبلاء
الأمجاد ، لا تهزها إساءة ، ولا تستفزها جهالة ، لأن لغو السفهاء يتلاشى فى
رحابتها كما تتلاشى الأحجار فى أغوار البحر المحيط .
ما يضير البحر أمسى زاخرا *** إن رمى فيه غلام بحجر
أين نحن
من تطبيق هذه القاعدة ؟؟؟
إن مما يُؤسف عليه أن نرى كثرة الخرق لهذه القاعدة في واقع الأمة الإسلامية ، وذلك في أحوال كثيرة .... وخاصة في مجال الدعوة إلى الله ،
فترى بعضهم يعمد إلى السب و الطعن والتضليل والتبديع ... زاعما أنه يدافع عن الحق
، ولو كان صادقا في دفاعه عن الحق لما كانت دعوته بهذه الطريقة المقيتة
الهادمة لقيم الدين، روي عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال :" إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق فيشتم، ويسب، ويغضب، فاعلم أنه معلول النية؛
لأن الحق لا يحتاج إلى هذ".
فإن الدعوة إلى الله لا تكون بالسب والطعن ... وإنما تكون وفق المنهج
الذي بينه القرآن المجيد : "أدع إلى سبيل
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم يالتي هي أحسن".
ومن المخجل أن ترى من يبشرون بالنصرانية يحرصون على تطبيق هذه القاعـــــــدة؛
من أجل كسب الناس إلى دينهم الباطل ؟ أوليس أهلُ الإسلام أحق بتطبيق
هذه القاعدة؛ من أجل كسب الناس إلى هذا الدين العظيم الذيارتضاه الله لعباده ؟ !
وقد نبهت آية الإسراء إلى خطورة ترك تطبيق هذه القاعدة
، فقال سبحانه :"وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن
إن الشيطان ينزغ بينهم". تلك هي العلة : فإننا إذا لم نعمل بهذا التوجيه ، ونقول للناس
حسنا ، وندعو بالتي هي أحسن ، فإن الشيطان سينزغ بيننا ، ويثير الفتنة بيننا ، ويوقعنا
في العداوة والقطيعة والشرور ، فيتفرق جمعنا ويتشتت شملنا ... وتلك هي الحالقة ،
التي تحلق الدين لا الشعر .
الختام
فما أعظم هذا التشريع ؟! وما
أحوجنا إلى أن نتفقه فيه ، ونتعامل على ضوئه في واقع حياتنا ؛ فنكون من
السعداء في عاجلنا وعاقبة أمرنا.
وفقني الله وإياكم وجميع المسلمين إلى
الأخذ بهذه التوجيهات القرآنية والعمل بمقتضاها.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا
ومولانا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق