المسلك
الثالث:
" عدم الرضا بالطاعة وعدم التعيير بالمعصية "
محامد
الحمد
لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا ، وأوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع
الرسول عليها دليلا ، واتخذهم عبيدا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه
وكيلا ، واشهد أن
لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة نشهد بها مع الشاهدين ، و ندخرها عند
الله عدة ليوم الدين ، واشهد أن الحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه،
وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور ، واشهد أن محمدا عبده
المصطفى ، ونبيه المرتضى ، ورسوله الصادق
المصدوق ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، أرسله رحمة للعالمين وحجة
للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، صلاة دائمة
بدوام السموات والأرضين، مقيمة عليهم أبدا لا تروم انتقالا عنهم ولا تحويلا.
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران102)
مقدمة
أيها الإخوة
الكرام : قد تكلمنا فيما سبق عن مسلك المحاسبة
، فبينا حقيقتها وأقسامها ودلائلها...... وسنتحدث اليوم عن مسلك آخر من مسالك
النجاة ، وهـــو: " عدم الرضا بالطاعة وعدم التعيير بالمعصية " قال ابن القيم في مدارج السالكين نقلا عن صاحب المنازل أبي علي
الهروي :
" اعرف أن كل طاعة رضيتها منك
فهي عليك ، وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك "
هذه
الحقيقة عدها ابن القيم أحد أركان المحاسبة ، وهذا يعني أن المحاسبة لا تقوم إلا
بها ؛ لأن الركن هو: "ما لا
وجود لذات الشيء إلا به".
أولا : المراد بقوله " اعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي
عليك ............ "
يعني أن العبد إذا رضي بطاعته - واعتقد
أنه قد أداها على الوجه الأكمل كما يليق بمقام ذي الجلال والإكرام – فإنه بذلك يصيرها
معصية ، فتكون وبالا وحسرة عليه ؛ لأن الرضا
بالطاعة يؤدي إلى العجب والكبر والاستعلاء، وهو أكبر من الزنا
وشرب الخمر والفرار من الزحف اتفاقا... قال الله تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" [النجم:32]، وفي الحديث : "
ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" [أخرجه البيهقي في الشعب6865]. وقيل
لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئا ً؟ قالت: "إذا
ظن أنه محسن".
فعلى طالب النجاة أن يتهم
نفسه – دائما - بالتقصير ويسئ الظن بها ، وأن يكون على وجل من عدم قبول الطاعة ، وقد روي عن عمر أنه قال "يا ليت أن الله تقبل مني مثقال ذرة ؛ فإن الله يقول: "إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ "[المائدة27].
فلا يرضى بطاعته إلا جاهل بنفسه وآفاتها وعيوبها ، و لا يدعي الكمال في الطاعة إلا
جاهل بمقام ربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به جل جلاله.
ولهذا تجد العارفين
بالله يكثرون من الاستغفار بعد الطاعات ؛ لأنهم يدركون تقصيرهم فيها ، وأنهم لم يقوموا لله بها كما يليق
بجلاله وكبريائه ، قال تعالى
"والمستغفرين بالأسحار " قال الحسن في تفسيرها : "مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل". يعني بعد القيام. وقد جاء الأمر بالاستغفار بعد أداء الطاعات ، فمن ذلك :
-
قوله تعالى:" ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" فهو أمر بالاستغفار بعد
الإفاضة من عرفات ، أي بعد أداء أعظم ركن وهو
والوقوف بعرفة.
- وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا
سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ، ثم قال : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت
يا ذا الجلال والإكرام" [رواه البخاري] .
-
ومن الأدعية المأثورة بعد أداء الوضوء:
" سبحانك اللهم
وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، اللهم اجعلني من التوابين
، واجعلني من المتطهرين" [الترمذي رقم55]
وقال بعض
العارفين : "متى رضيت نفسك وعملك لله ، فاعلم أنه غير راض به ، ومن عرف أن
نفسه مأوى كل عيب وشر ، وعمله عرضة لكل آفة ونقص ، كيف يرضى لله نفسه وعمله"
وينبغي أن ننبه إلى أمر
هام : وهو : أن الرضا بالطاعة والعجب بالعمل ....لا يعني أن العبد لا يفرح بتوفيق
الله له لطاعته ، وإدراك نعمة الله تعالى بأداء الطاعة التي يترتب عليها رضا الله
تعالى، ونيل ثوابه ، والدخول في ديوان الصالحين.....وفي الحديث
" :من عمل حسنة فسر بها ، وعمل سيئة فساءته ، فهو
مؤمن
"
. [ رواه الهيثمي في مجمع الزوائد رقم 285 ]. فالفرح بالطاعة أمر ممدوح ، أما الرضا بالطاعة –
كما بينا - فهو مذموم.
والخلاصة :
أن مريد النجاة لنفسه ينبغي ألا يرضى بطاعته
مهما عظم شأنها ، بل عليه أن يستغفر الله بعدها ؛ لأنه مهما عظمت طاعته فلن ترقى
لئن تليق بجلال الله جل جلاله ؛ ولأنه إذا رضي بطاعته دخله العجب والغرور
والاستعلاء..وإذا حدث له ذلك كان من الهالكين.
ثانيا : المراد بقوله " اعرف أن ...... كل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك"
هذه الحقيقة تحتمل أحد أمرين:
الأول: إما
أن المعصية التي تعير بها أخاك - كأن تقول له يا نمام أو يا زاني ونحوهما..- فلا
بد أن تصير تلك المعصية إليك ، أي لا بد أن تعملها ، وهذا مأخوذ من الحديث الذي
رواه الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "منْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ, لَمْ يَمُتْ حَتَّى
يَعْمَلَهُ ". والتعيير بالذنب فيه نوع خفى من إظهار الشماتة ، وفي
الحديث:" لَا تُظْهِرَنَّ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ
اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ ". [الأصبهاني في الأمثال رقم
175]
والثاني: أن تعييرك لأخيك بذنبه هو أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته ؛ لما فيه من الإعجاب بالطاعة ، فكأنك بذلك تزكي نفسك وتدعي البراءة من الذنوب ... ولعل
أخاك - الذي تعيره بالذنب – تاب وانكسر بذنبه وتذلل لله وأنت لا تدري. ومن حكم ابن
عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى:
"رب معصية أورثت ذُلاً وانكسارًا، خير من طاعة أورثت
عزًّا واستكبارًا"
وكلام ابن عطاء
الله يتفق تماما مع ما قاله ابن القيم رحمه تعالى:
".....إن الذنب الذي تَذِلُّ به لله عز وجل ، أحب إليه من
طاعة تمُنُّ بها عليه سبحانه ، فإنك إن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا ، خير من أن تبيت
قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل ، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير
من أن تبكي وأنت مُدِل [ أي مفتخر من الإدلال وهو الفخر والتيه] وأنين
المذنبين أحب إلى الله عز وجل من زَجَل [صوت]المسَبِّحين
المدِلِّين".
والخلاصة:
أنه
لا ينبغي للعبد أن يزكي نفسه و لا أن يزدري غيره ؛ فلا يأمن كرات القدر وسطوته إلا
أهل الجهل ، وقد قال الله تعالى - لأعلم الخلق به وأقربهم إليه وسيلة - :" ولولا أن
ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ".
بل على طالب النجاة أن يسيء الظن بنفسه ؛ لأن حسن الظن
بالنفس يمنع من كمال التفتيش عن عيوب النفس ، وقد يلبس على العبد فيرى مساوئه
محاسن ، وعيوبه كمالا ، كما قال الشاعر:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي
المساويا
يعني
أنه متى كان العبد راض عن نفسه فلن يرى عيوبها أبدا ...فلزمه أن يسيء الظن بنفسه ؛
ليكتشف عيوبها وآفاتها؛ فيندفع لإصلاحها.
وصلي اللهم وسلم وبارك على
سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق