محامد
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
أجمعين ،
أما بعد /
مقدمة
أيها
المؤمنون : لقد أمرنا الله تعالى بالخوف
منه ، وبين أن ذلك من دلائل الإيمان به ،فقال
جل ثناؤه :" و خافون إن كنتم مؤمنين "
و قال سبحانه " وإياي فَارْهَبُونِ "و لهذا سيكون خطابنا في
هذا اليوم عن مقام الخوف من
الله تعالى
، و هو موضوع هام يطرح نفسه بقوة أمام هذه
الموجات العاتية من الفتن المتلاحقة ، والشبهات والشهوات المتعددة ، حتى
أصبح الناس يتجرؤون على محارم الله بمختلف
أنواع المعاصي والذنوب ، و السبب الرئيس في
ذلك : ضعف جانب الخوف من الله في قلوب العباد ، بسبب غفلتهم عن الله وعن الدار الآخرة .
فالخوف
من الله تعالى هو العاصم من
الغفلة و الهوى والشهوات بمختلف أشكالها ؛ و هو الذي يهيج نار الخشية في
القلوب ،
وإذا ما هاجت نار الخشية في القلوب اندفعت الجوارح إلى عمل الطاعات وأحجمت عن فعل الموبقات
فضل الخوف من الله
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في بيان فضل الخوف من
الله تعالى ، منها:
-- قوله تعالى : ((ولمن
خاف مقام ربه جنتان )) و قال تعالى: (وأما من خاف مقام
ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)).
- - و عن ابن العباس رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "عينان لا تمسهما
النار:عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس سبيل
الله "[1] . و قال عليه الصلاة والسلام: "من خاف أدلج ، و من أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن
سلعة الله هي الجنة"[2] والمعنى أن من خاف المخاطر أدلج في السير، أي سار بالدجى بغاية
النشاط والقوة حتى يقطع السير بسرعة و حتى يسلم من المخاطر ، و الدلجة : السير
في أول الليل ، وقيل في آخره ؛ لأن
السير
في أول الليل وفي آخره يكون فيه قوة و نشاط على السير.
من كان بربه أعرف كان له أخوف
والناس في خوفهم من
الله درجات : والعلماء والعارفون بالله في أعلى تلك الدرجات ، قال تعالى " إنما يخشى الله من عباده
العلماء " فعلى قدر العلم والمعرفة بالله تكون الخشية منه ؛
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس
خوفاً من الله ، لأنه أعرفهم بربه ،
و من كان
بربه أعرف كان له أخوف ، يقول صلى الله و سلم عن نفسه: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية "[3]
صور من خوف الملائكة و الصالحين
و الخوف من
الله تعالى طال حتى الملائكة المقربين والأنبياء والصالحين:
- يقول الله تعالى – في شأن ملائكته - : "يَخَافُونَ
رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" و قال
صلى الله عليه وسلم : " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى جِبْرِيلَ
فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"[4] .
- و كان نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم - و هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - يقوم الليل حتى
تتفطر قدماه ، و يسمع لصدره – في الصلاة
- أزيز كأزيز المرجل من شدة البكاء من
خشية الله. وتقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم .. ضاحكاً ... وكان إذا رأى غيماً وريحاً عرف ذلك في وجهه
فقلت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون منه المطر وأراك إذا رأيته
عرفت الكراهة في وجهك؟ فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح،
وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا"[5].
- و هذا أبو بكر رضي الله عنه ، أفضل الأمة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم نظر إلى طير وقع على شجرة فقال:" ما
أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وتطير وليس عليك حساب ، ليتني كنت مثلك" وكان رضي الله عنه كثير البكاء .. وكان يمسك لسانه
ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"
- وها هو عمر الفاروق رضي الله عنه يقول لابنه عبد الله
وهو في سكرات الموت: "ويحك ضع
خدي على الأرض عسى الله أن
يرحمني ، ثم يقول: ويل أمي إن لم يغفر لي ، ويل أمي إن لم يغفر لي ." ويأخذ مرة تبنة من الأرض فيقول: "ليتني هذه التبنة ، ليتني لم أكن شيئا، ليت أمي لم
تلدني، ليتني كنت منسيا".
- و هذا عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي
حتى يبل لحيته ، وكان يقول: "لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن
أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصيرُ".
وبكى الحسن البصري
بكاءً شديداً فسألوه ما يبكيك فتلا عليهم قول الحق تبارك وتعالى: " وَبَدَا
لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ " وقوله تعالى "وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ
مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ "
فهذا حال الملائكة و الأنبياء و والصحابة و الصالحين في الخوف من
الله تعالى، فأين نحن من ذلك أيها المؤمنون ؟؟ إن كثيرا من المسلمين
اليوم لا يخافون الله حق خيفته ، قد غرهم إمهال
الله لهم فظنوا أن الله غافل عما يعملون، "أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" و
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : "وعزتي
لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني
في الدنيا أخفته يوم القيامة"[6]
حقيقة الخوف من الله
وحقيقة
الخوف المحمود : أن يشعر العبد - موقنا - بأن الله مطلع عليه في سائر أحواله ، في سره و علانيته ، يراقب حركاته وسكناته ، وأن يعلم
أن لا محالة راجع إلى ربه ، وأنه سيحاسبه على أعماله ، صغيرها وكبيرها ، مستشعرا
قوله تعالى : " وقالوا مال هذا الكتاب لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .." وقوله تعالى :" يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية "والخوف
الحقيقي هو : ما حال بينك وبين محارم الله ، هناك أناس كثيرون يقولون نحن نخاف
الله و هم مقيمون على معصيته :
-
يقولون نحن نخاف الله وهم يفترون الكذب .
-
يقولون نحن نخاف الله وهم يتعاملون بالربا .
- يقولون نحن نخاف الله وهم يسيئون الجوار .
- يقولون نحن نخاف
الله وهم يقعون في أعراض الناس .
-
يقولون نحن نخاف الله وهم ينظرون إلى المحرمات ..................
هذا خوف مزيف وادعاء كاذب ، فلو خافوا
الله حقا لابتدعوا عن معاصيه .
تعصــــي الإله وأنت تظهر حبه.....لعمري إن هذا لأمر شنيع
إذ لو كان حبك صادق لأطعته....إن المحب لم يحب مطيع
علامات الخوف الصادق
وقد ذكر أهل العلم علامات إذا توافرت في العبد دلت على
صدق خوفه من الله تعالى ، منها :
يقول صلى الله عليه وسلم، يقول: (( يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ليكونن أقوام يظهرون للناس التخشع يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ، ألسنتهم أحلى
من العسل ، وقلوبهم أمر من الصِّبر، فبي حلفت لأنزلن فتنة تدع الحليم حيران ، أبي يغترون أم عليّ يجترئون؟ )) لا حول و لا قوة إلا بالله ، يتظاهرون
بأنهم يخافون من الله ، ولكن بواطنهم خبيثة ، يمكرون ويخدعون ، يتظاهرون بحبهم
للحق وأكثرهم للحق كارهون ، فنعوذ بالله أن تكون ظواهرنا جميلة و بواطننا خبيثة
كما قال
عمر بن الخطاب : " من سرته
حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن" فانظر
إلى نفسك يا أخي هل أنت تشعر بالفرح والسرور إذا عملت حسنة ؟ هل أنت تفرح بصدقتك ؟ و هل تفرح بذكر الله كثيراً...؟ وهل تفرح بإغاثتك للملهوفين ...؟ و هل تفرح بإسهامك في بناء المساجد وعمارتها...؟ إذا كمنت كذلك فأنت مؤمن .
وانظر إلى نفسك : هل تشعر بالحزن والأسى إذا
عملت سيئة ؟ فهل تحزن إذا اغتبت أحدا ..؟ وهل
تحزن إذا نظرت منظراً لا يجوز..؟ وهل تحزن إذا فاتتك الصلاة
..؟ وهل تحزن إذا وجدت نفسك تخوض مع
الخائضين..؟ إذا كنت تشعر بالحسرة والندم على
سيئاتك فأنت مؤمن تخاف الله ، وإلا فأنت
كاذب !! قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَأُولَئِكَ
جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
"
إذا وجدت نفسك تترقى في الصلاح والعبادة والقرب من الله
تعالى فذلك برهان على صدق خوفك من الله ، أما إذا كان العكس - والعياذ بالله - أي إذا كانت أيامك الماضية خير من أيامك الحاضرة
، فهذا دليل على أنك لا تخاف الله ، وأنك موقوف على
الخطر ، فما ذا تنتظر ؟؟ بادر بالتوبة قبل فوات الأوان .
يـا آمنـا مـع قبـح الفعـل منـه هــــــــــــــــل *** أتــــاك
توقيـع أمـن أنت تملكــــــه
جمـعت شيئيـن أمنـا و اتبـاع هـــــــــــوى *** هذا إحداهما في
المرء تهلكـــــــــــه
والمحسنون على درب الخوف قد ساروا *** و ذلـك درب لســــــــت تسلـكـــــــــه
فرطـت في الـزرع وقت البذر من سفـــه *** فكيف عند حصاد الناس تدركــــــــه
هذا وأعـجب شيء فيـك زهــــــدك فـي *** دار البقاء
بعيش سوف تتركـــــــــــــه
الخاتمة
إخوة الإيمان استشعروا خوف الله في
قلوبكم ، واعلموا أن الله يعلم ما في نفوسكم فاحذروه ، وأنه سبحانه و
تعالى يحصي لكم أعمالكم ثم يجزيكم به ، وأنه لا أحد منكم ينجو بعمله إلا أن يتغمده الله برحمة منه ، فاعملوا وسددوا
وقاربوا واسألوا الله القبول والرحمة والمغفرة ، و لا تزهدوا في الطاعة فلا يدري
أحدكم أي حسنة تدخله الجنة ، و لا تستهينوا بالمعاصي فلا يدري أحدكم أي سيئة تدخله
النار ، وصلوا وسلموا على خير الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[4] أخرجه
ابن أبي عاصم في "السنة" 621 - بإسناد جيد وهو مخرج في "الصحيحة" 2289" وعزاه
السيوطي 1/393 لابن مردويه والطبراني في "الأوسط" وصحح إسناده
[6] خرجه ابن حبان في
صحيحه ، و البزار في مسنده ، و البيهقي في شعب الإيمان ، و ابن المبارك في
كتاب الزهد ، و أبو نعيم في حلية الأولياء ، وصححه الحافظ ابن حجر في
مختصر زوائد البزار ، والشيخ الألباني في السلسلة .