محامد
لحمد لله حق حمده ، الحمد لله
الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه
وإحسانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و
رسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما
بعد/
مقدمة
لا يخفى عليكم ما للعلم و
للعلماء من فضل و مكانة ، فالعلماء هم مصابيح الهدى ونجوم الدجى ، بدعوتهم يهتدي
السالكون ، وبعلمهم يسترشد الحائرون ، فكم من جاهل علموه، وكم من تائه أرشدوه، وكم
من حائر قد بصروه ، وهم ورثة الأنبياء وحماة الشريعة ، و بقاؤهم
في الأمة نعمة ورحمة، وقبضهم وموتهم عذاب ونقمة ، ولا تزال الأمة بخير ما عظمت
علماءها وعرفت لهم قدرهم ومكانتهم . وإكرامهم
واحترامهم إنما هو إكرام واحترام للعلم الذي يحملونه
في صدورهم ، وإهانتهم والاستخفاف بهم نذير شر بالوباء والخيبة والخسارة ، ولا خير في لسان طعن في أمانتهم وديانتهم وسعى جاهدا في تشويه صورتهم ، فالطاعن في
العلماء طاعن في الشريعة والقاتل للعلماء قالت للشريعة ، و من اجب على كل مسلم أن
يحترم العلماء وأن يدافع عنهم ، ويذود
عن حياضهم الشريفة ، ويقف في وجه من يتفوه بالقبيح في جنابهم الكريم .
فضل
العلماء
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة
في بيان فضل العلماء والتنويه بمكانتهم ، منها :
- قوله تعالى : " يرفع الله الذين آمنا منكم
والذين أوتوا العلم درجات" وقوله تعالى :" شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ
إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(آل عمران18).
ففي هذه الآية استشهد الله سبحانه
وتعالى بأولي العلم من خلقه على أجلِّ مشهود عليه وهو : توحيده سبحانه وتعالى
وإفراده بالعبادة، وهذا يدل على فضل العلماء من وجوه كثيرة :
• منها أنه تعالى استشهد بهم ، ولم يستشهد بغيرهم من البشر.
• ومنها أنه تعالى قرن شهادتهم بشهادته سبحانه وتعالى.
• ومنها أيضا أنّ في هذه الشهادة تزكية وتعديل لهم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يُشهد إلا العدول من خلقه.
• منها أنه تعالى استشهد بهم ، ولم يستشهد بغيرهم من البشر.
• ومنها أنه تعالى قرن شهادتهم بشهادته سبحانه وتعالى.
• ومنها أيضا أنّ في هذه الشهادة تزكية وتعديل لهم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يُشهد إلا العدول من خلقه.
- وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى
الحوت يصلون على معلمي الناس الخير" (الترمذي 2685) وقال أيضا :" من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل
الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات
ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل
العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب،
وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (أبو داود
(2641) والترمذي (2682) وابن ماجة (223)
العلماء
أولياء الله وحماة شرعه
والعلماء هم أو لياء الله الذين
أعلن الله الحرب على محاربيهم ، حيث قال جل وعلا في الحديث القدسي : " من عاد
لي وليا فقد آذنته بالحرب " ، قال أبو حنيفة : " إن لم يكن الفقهاء
أولياء الله فليس لله ولي ". (الفقيه والمتفقه"للخطيب
البغدادي(1/150)
وقال الإمام الشافعي: "إن لم
يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله ولي" (المجموع شرح المهذب للإمام النووي
(1/20)
ولهذا قال عكرمة - رضي الله عنه : " إياكم أن تؤذوا أحداً من العلماء ، فإن من آذى عالماً فقد
آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والعلماء هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتزييف،
وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟!! فقال: يعيش لها الجهابذه". (اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/472)
ومرة أخذ هارون الرشيد أحد
الزنادق ليضرب عنقه ، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال له هارون الرشيد : أريح
العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كلها ما فيها حرف نطق به ؟! فقال
الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من إسحاق
الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً فيخرجونها
حرفاً حرفاً.(تذكرة الحفاظ (1/252)
فالعلماء هم حفظة الشريعة من
الشبهات و التقول فيها بالهوى والتشهي ، يقول النبي صلى الله عليه و سلم:" يحمل هذا العلم
من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين
" وإذا غاب العلماء عن الأمة ضلت في دينها
لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ
مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ
بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ
يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا
وَأَضَلُّوا) رواه الشيخان)
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه والجاهـلون لأهل العلم أعـــداء
ففز بعلم تعـش حيـاً به أـــــبدا ًالناس موتى وأهل العلم أحياء
قال الشافعي رحمه الله في بيان فضل العلماء
:
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهـــم
على
الهدى لمن استهدى أدلاّءوقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه والجاهـلون لأهل العلم أعـــداء
ففز بعلم تعـش حيـاً به أـــــبدا ًالناس موتى وأهل العلم أحياء
فقدان
العلماء مصيبة و خسارة
و ألا وان من أعظم المصائب التي
يبتلى بها الناس فقدان العلماء ، لأن فقدانهم ليس فقدانا لذاتهم
وصورتهم .....وإنما هو فقدان لجزء كبير من ميراث النبوة ، وهو سبب لرفع العلم
النافع و انتشار الجهل الناقع.
وما الرزية فقد مال و لا شاة تموت و لا بعير و
لكن الرزية فقد حـــر يموت بموته بشر كثيـــر
قال الله تعالى : (
أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها )
قال أهل العلم في تفسيرها: نقصانها من أطرافها : خرابها بموت علمائها و فقهائها و
أهل الخير منها .
مقتل
العلامة البوطي فاجعة عظيمة
وها هي أمة الإسلام اليوم تفقد
واحدا من أجل علمائها ، وهو : العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ، رحمه الله
وطيب ثراه ، عاش هذا العالم مدافعا عن الشريعة الإسلامية المعظمة ، ومتصديا
للطاعنين فيها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " يموت كل إنسان على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه
" فقد مات البوطي على ما عاش عليه ، مات هو يدافع
عن الشريعة ، و هو ينتظر الصلاة ، وفي ليلة الجمعة ، في بيت من بيوت الله تعالى ،
ونسأل الله تعالى أن يبعثه على ما مات عليه كما قبضه على ما عاش عليه ، آمين يارب
العالمين .
وقد أكرمني الله جل جلاله أن
ألازم هذا الشيخ سنتين متتاليتين ، في جماع دنكز وجامع الرفاعي وغيرهما بدمشق ،
أخذت عنه خلالهما خيرا كثيرا ، وما رأيته ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وبكى
شوقا إليه عليه الصلاة والسلام ، وها هو اليوم يرحل عنا إلى بارئه بعد جهاد طويل
بالقلم واللسان ، مخلفا لأمة الإسلام العديد من المؤلفات النفيسة ، من
أهمها :
الحكم العطائية شرح وتحليل4 أجزاء.
ضوابط المصلحة في الشريعة
الإسلامية
محاضرات في الفقه المقارن
فجزاه الله عنا
خير ما جزي داع عن دعونه
وخير ما جوزي
عالم عن أمته.
بأي
ذنب قتل البوطي؟؟ !!
لقد مات
الشيخ البوطي ، وتلك سنة الله في خلقه ، " كل نفس ذائقة الموت "
والبقاء لله وحده ، ونحن لا ندري و لا نريد أن ندري من قتل البوطي ، لكننا
نتساءل بأي ذنب قتل البوطي ؟
*
ألأنه قال لا للفتنة ؟ فالله تعالى يقول" واتقوا فتنة لا
تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " بل تصيب
الظالمين وغريهم من الأبرياء ، وقال تعالى : " والفتنة أكبر من القتل "وها
هي نتيجة الفتنة التي طالما حذر منها البوطي :
- عشرات الآلاف قد قتلوا من الرجال والنساء والأطفال .............
- وأما الجرحى والمعطوبون والمعوقون فلا عداد لهم.................
- ومدن بأكملها قد دمرت تدميرا وصارت في خبر كان ..............
- ولم يعد هناك أحد آمن على نفسه أو عرضه أو ماله.................
- ويكفي في هذه الفتنة أنها كانت سببا في مقتل الأمة لعلمائها ، في بيوت ربها
!!!
" واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة "
لهذا ظل البوطي يصيح بأعلى
صوته : " اتقوا الفتنة .. ادرؤوها في مهدها.. كفوا أيديكم واصطلحوا مع الله
..
قدروا النتائج وانظروا في
المآل.."
أفيبرر هذا قتله ؟؟ ّّ
*
أم قتل البوطي لأنه قال لا للخروج عن الحكم المسلم ؟؟ فذلك ما
قرره العلماء قبله بإجماع ، فقد أجمع أهل العلم قاطبة على أنه لا يجوز الخروج عن
الحاكم المسلم ، و لا تجوز مقاتلته ، إذا كان ذلك يؤدي إلى فتنة أو مفاسد
أكبر من مفاسد البقاء تحت حكم الحاكم وسلطانه ، وهو ما قررته أصول الشريعة
وقواعدها الكلية ، كأصل : " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " وأصل : " الضرر لا يزال بمثله و لا بما هو
فوقه من باب أولى " وغيرهما من الأصول الشرعية التي على أساسها قال العلماء لا
يغير منكر بمنكر مماثل ، والبوطي ليس بدعا في هذا ، أفيبرر ذلك قتله ؟؟ !!
* أم قتل البوطي
لأنه قال أن المنشقين قد اجتهدوا ونسأل الله أن يثيبهم على اجتهادهم ؟؟ لعل
هناك من الأطراف من فهم أن في هذا القول تبرير للانشقاق وربما تشجيع
عليه ؛ لأن صاحبه مأجور ؟! هذا أمر معلوم في شرعنا ،فمن المقرر
شرعا أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران ، ثم أن البوطي هدفه
واضح وهو لم شمل أمته ومحو الأحقاد من قلوبها ، لتكون صفا واحدا في وجه ما يراه
مؤامرة صهيونية تسعى إلى بسط هيمنتها على المنطقة ، وليتأتى لها ذلك عمدت
إلى إشعال نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد ، تحت غطاء دعوات شتى ظاهرها
فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب ، هذا ما يراه البوطي فهل يبرر ذلك قتله ؟؟ !!
فبأي ذنب قتل البوطي إذن ؟؟
هل
خطأ العالم يبرر قتله ؟؟!!
* ولنفرض أن
البوطي قد أخطأ في موقفه مما يحدث في بلده ، أفيبرر ذلك قتله ؟؟ كلا
ثم كلا ! فلو كان كل عالم يقتل أو يؤخذ بخطئه أو هفوته أو زلته لما بقي على
ظهر الأرض من عالم يذكر .
والشيخ البوطي من ذوي
الأيادي البيضاء والأقدام الراسخة في العلم والمعرفة . ولقد علمنا النبي صلى الله
عليه وسلم كيف نتعامل مع المخطئين من ذوي الفضل والسوابق الحسنة ، كما في قصة حاطب
بن أبي بلتعة الذي بعث بكتاب إلى المشركين يكشف فيه سر جيش المسلمين وهو في
طرقه إلى فتح مكة ، فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه
كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ومع ذلك فقد عامل النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ
حاطبا ـ رضي الله عنه ـ معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة،
فجعل - صل الله عليه وسلم - من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه، وهو منهج تربوي حكيم
. فلم ينظر النبي - صل الله عليه وسلم - إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن
كانت كبيرة ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه، فوجد
أنه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة
متكاملة، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم، في مجال
الدعوة والجهاد، والعلم والتربية ..
وأيا كان قاتلوا البوطي ؟؟!! إن
كانوا يرون أنه قد أخطأ في موقفه من الفتنة ، فهلا نظروا إلى ماضيه ، وهلا
نظروا إلى ما قدمه من خدمات جليلة النفع للإسلام والمسلمين ؟ وهلا استفادوا من
معاملة النبي لحاطب ؟؟!!
ألا عجبا لأمة
تقتل علماءها ! وعجبا لأمة تطاول على علمائها ! وعجبا لأمة تطعن في علمائها
!
الخاتمة
أيها
الإخوة الأعزاء : من خلال ما قد سبق يتبين لنا:
-
أن البوطي قتل مظلوما ، ومن قتله كان ظالما ، ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
- وأن مقتل البوطي جريمة شنعاء اهتز
لها كياننا ، واحترقت بها قلوبنا ، وجرحت بسببها أكبادنا ، و لا جرم أن
مقتله لخسارة فادحة للإسلام والمسلمين ، تقر به أعين أعداء هذا الدين ، وإننا
نحتسب الشيخ البوطي شهيدا عند الله و لا نزكي على الله أحدا ، ونسأل الله أن
يرحم شيخنا وأن يتقبله بأحسن ما يتقبل به عباده الصلحين .
-
وإننا اليوم أصبحنا في آخر الزمان حقا ، إذ كل ما ذكره النبي صلى الله
عليه وسلم من علامات الساعة – الصغرى – قد ظهر ، والتي من جملتها كثرة القتل
والفتن ، قال صلى الله عليه وسلم :" يتقارب الزمان ، ويقبض
العلم ، وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج " قالوا : وما الهرج ؟ قال :
" القتل " . متفق عليه .
فانظروا
كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين انقباض العلم وبين كثرة الفتة وكثرة القتل ،
وبيان ذلك أن العلم إنما يقبض بموت العلماء ، وإذا قبض العلم ظهرت الفتن ، وإذا
ظهرت الفتن كثر القتل ، وهو ما نراه اليوم مجسدا في واقع امتنا ، والله المستعان !
و
لا ينفعنا أمام هذه الأوضاع المؤلمة وهذه الفتن المتلاحقة إلا عودة
صادقة و سريعة إلى الله تعالى ، فاصطلحوا مع ربكم أيها المسلمون ، واستغفروه
وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم .
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .