الحمد لله تعالى نحمده على تفضله وإنعامه، ولطفه وإحسانه، فله الحمد على كل
نعمة أنعم بها علينا ظاهرة أو باطنة، ونسأله تعالى أن نشكر نعمه ولا نكفرها، ومن شكر
فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله لغني عن العالمين، ونشهد أن لا إلا إله إلا الله
وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن
والاه إلى يوم الدين. أما بعد /
تمهيد
بالأمس قامت الأمة الجزائرية بأداء مهمة عظيمة ، تتمثل في اختيار من يتولى
القيام بإدارة وتسيير شؤونهم العامة ، وهذه المهمة ليست سهلة – أيها الإخوة - بل هي
أمانة و مسؤولية عظيمة أمام الله وأمام الناس وأمام الضمير ، فكل فرد مسئول
عن تصرفاته وأعماله، قال تعالى: " ولتُسألُن عما كنتم تعملون" [ النحل 93 ] وقال تعالى : " فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ
أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ "[ الأعراف 6 ]فكل واحد منا سيسأل
عما أراد بعمله ، سيسأل الذي تقدم إلى المسؤولية
وتسابق إليها ، وبذل ما في وسعه من أجل الوصول إليها ، سيسأل هذا عن
الدوافع التي دفعته إلى ذلك ، وماذا كان
يريد أن يحقق من هذه المسؤولية التي تولاها وحرص عليها ؟؟ كما يسأل - أيضا - الأفراد الذين اختاروه
وأوصلوه إلى تلك المسؤولية ، على أي معيار
تم اختيارهم لذلك الشخص ؟ إذن : فكلنا مسئولون أمام الله تعالى !! و الله تعالى لا تخفى عليه خافية، بل هو سبحانه
وتعالى : " يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور " [ غافر 19 ] أي يعلم النظرات الخاطفة التي تخفيها على
الغير ، كما يعلم ما تستره الضمائر، " يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ
لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ " [الحاقة
18]
عظم مسؤولية المنتخبين
أيها الإخوة : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :" كلكم راع وكلكم مسئول
عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته
وهو مسئول عنهم، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولدها وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل
راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"[1]
و الراعي هو الحافظ المؤتمن ، وهؤلاء المذكورون كلهم قد استووا في اسم : (
الراعي ) لكن مسؤولياتهم تختلف من شخص إلى آخر ، فالإنسان تتعاظم مسؤوليته بقدر السلطة
التي يتولاها، فليس مسئول عن أسرة كمسئول عن أمة ، و لا جرم أن الإخوة الذين اختارتهم الأمة لتولي
شؤونها قد ازدادت مسئولياتهم وكبرت الأمانة في أعناقهم ، فليعلموا أن الأمة قد
ربطت بأعناقهم أمانات وحاجات شتى ، لا تقضى إلا بواسطتهم و عن طريقهم ، فإن هم
قاموا بتلك الأمانات وقضوا تلك الحاجات فقد أدوا ما عليهم ، وإن هم فرطوا فيا
حسرتهم يوم القيامة ، يوم يسألون أمام
الجبار لما ذا خنتم الأمانة ؟؟
وإن الإنسان البصير الواعي بحقائق الأمور ليعجب حين يرى بعض الناس يهنئون مسئولا على مهمة كبيرة تولاها !! علام يهنئونه ؟؟
فتلك المهمة لا تُعطيه ميزة على غيره من الناس،
بل هي على العكس من ذلك تماما ، إنها تزيد من مسؤوليته أمام الله تعالى وأمام الناس.
صفات لا بد من توفرها في المسئول
جاء أبو ذر الغفاري يطلب من النبي أن يوليه إمارة، فيقول له: " يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها
أمانة، وإنها يوم القيامة لخزي وندامة إلا من أخذها بحقها ووفى الذي عليه فيها"[2] فالذي يتولى أمور الناس
ينبغي أن يكون قويا وأمينا حتى يتمكن من أداء مهمته على أحسن وجه ، و يقف في وجه الأقوياء المفسدين ، و يؤدي حق المستضعفين الذين ولاه
الله زمام أمورهم .
فالأمانة والقوة صفتان لا بد من توفرهما في كل من يلي أمرا من أمور
المسلمين؛ ولذلك لما قال ملك مصر ليوسف عليه السلام : " إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا
مَكِينٌ أَمِينٌ " قال له يوسف : " قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ " [ يوسف 55] فذكر وقدم له مؤهلاته لتولية هذا المنصب
، وهو أنه : حفيظ : أي أمين . وعليم : أي له دراية و خبرة بهذه المسئولية ، التي
هي تسيير الشؤون الاقتصادية .
ومن ثم فكل من يتصدى للقيام
بمسؤولية من المسئوليات ، في أي مجال من المجالات ، ينبغي أن يكون
أمينا ، و أن يكون عالما وخبيرا بطبيعة
تلك المسئولية .
ما على المسئول القيام به
أيها الإخوة : إن الذين يتولون المسؤوليات تجب عليهم واجبات عظيمة ، ينبغي أن يعرفوها تمام المعرفة :
- وأول ما يجب على المسئول أن يخلص في عمله ويتفانى في أدائه .
فإذا أخلص في عمله وأداه على أحسن
وجه ، كان عمله ذلك عبادة جليلة ، أفضل من
عبادة الصلاة والصيام والقيام .... ؛ لأن
الثواب على العمل يتعاظم بحسب ما يترتب عليه من الآثار والنتائج في الواقع والحياة
، فعن أبن عباس -رضي الله تعالى عنهما – قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من مشى في حاجة أخيه،
وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل
الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين " [3] وفى رواية: " كل خندق أبعد مما بين
الخافقين " ! فدل هذا الحديث على أن السعي في قضاء حوائج الناس وتقديم العون
لهم أفضل من الاعتكاف ونحوه كالصلاة والصيام....
- كما يجب على المسئول أن يحسن إلى
الناس ويرفق بهم ، ويسعى جاهدا إلى قضاء حوائجهم ، وما لا يستطيع قضاءه بنفسه رفعه إلى
غيره من المسئولين الأعلى منه .
فنبينا عليه الصلاة والسلام دعا ربه قائلا : " اللهم من ولي من أمر أمتي
شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به" [4]
فالمسوؤل الذي يُوقع الناس في المشقة إما بالإساءة إليهم ، و إما بمنعهم من
حقوقهم يستحق غضب الله تعالى و مأواه جهنم وبئس المصير .
وقد جاء الوعيد الشديد لذاك المسئول الذي يمتنع من استقبال الناس، فينتج عن
ذلك تضييع حقوقهم، قال -
صلى الله عليه وسلم - : " من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب
دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره "[5]
- ومما يجب على المسئول القيام به ألا
يستغل منصبه الذي عين فيه، لجر منفعة إلى شخصه أوقرابته..... بل عليه أن يعامل الجميع معاملة
عادلة ، و أن يحرص على صيانة المصلحة العامة ، أكثر من حرصه على مصالحه الخاصة
، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من استعملناه عل عمل فرزقناه
رزقا ( أي جعلنا له أجرة ) فما
أخذ بعد ذلك فهو غلول"[6] لأنه اختلاس من مال الجماعة الذى ينفق في حقوق الضعفاء
والفقراء، ويُرصد للمصالح الكبرى ، والله تعالى يقول : " ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "
أما الذى يلتزم حدود الله في مسؤوليته ، ويؤدي ما عليه من واجبات فهو عند الله معدود من المجاهدين لنصرة دينه
وإعلاء كلمته. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " العامل إذا استعمل فأخذ
الحق ، وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد فى سبيل الله حتى يرجع إلى بيته"[7]
نماذج من القيام بالمسؤولية
ولما أدرك سلفنا الصالح عظم المسؤولية وخطورتها ، بذلوا كلما في وسعهم
لأدائها على الوجه الأكمل ، فضربوا أروع الأمثلة في تحملها والقيام بها :
- فهذا أبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – حينما تولى الخلافة قال :
" أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن
عصيته فلا طاعة لي عليكم ، القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ، والضعيف فيكم
قوي عندي حتى آخذ الحق له " وكان – رضي الله عنه - يتفقد رعيته ويرعى شؤونهم
باستمرار ، وروي أنه كان يقوم على خدمة عجوز مقعدة ، فقدت الأسرة والمعين ، فكان
ينظف بيتها ويغسل ثيابها ويسد جوعتها ، وكان عمر كعادته يتفقد تلك العجوز فيجد أن
حاجتها قد قضيت ، فيتعجب من ذا الذي يسبقه إلى ذلك ، فترصد له ذات يوم فإذا هو أبو
بكر ، فبكى عمر وقال : " ما أردت أن أسبقه إلى شيء إلا وجدته قد
سبقني إليه "
- وهذا عمر – رضي الله عنه – يعبر عن شعوره بالمسؤولية وإدراكه لخطورتها ،
فيقول : " لو أن بغلة عثرت بالعراق لخشيت أن أسألني الله عنها يوم القيامة ،
لم لم تعبد لها الطريق يا عمر " هذه عثرة بغلة فكيف بعثرة أمة ؟؟
الخاتمة
أيها الإخوة : لا شك أن المنتخبين الجدد
تنتظرهم مهام ومسؤوليات جسيمة ، نسأل الله تعالى أن يوفقهم إلى القيام بها ، وإذا
علم الله صدق نواياهم وفقهم وأعانهم ويسر السبيل أمامهم ، و لا يعلم النوايا إلا
الله .
ونقول لهؤلاء اتقوا الله في أمتكم
ووطنكم ، واعلموا أنكم ستسألون عن رعيتكم ، و ليفكر كل مسئول منكم في حاله إذا عزل
أو أحيل على التقاعد، وقد أشار نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا المصير بقوله
: " إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة
"[8] . فالمتولي لمناصب المسؤولية
كالطفل الرضيع ، ينتفع بما يصل إليه من منافع وملذات، فإذا عزل أو تقاعد أو مات ، صار
يتألم ويتحسر ويبكي ، كما يبكي الطفل الذي يفطم عن الرضاع.
فالسعيد من المسئولين من نصح وأخلص وراقب الله في عمله ، ورفق بالناس ويسر عليهم
، فكان بذلك جديراً برحمة الله وعفوه ورضاه.
جعلني الله وإياكم من عباده الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق