......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأحد، 17 أبريل 2022

إماطة التدليس والتلبيس عن عقيدة ابن باديس

لقد أُثير جدل كبير حول عقيدة ابن باديس رحمه الله، فمنهم من يقول أنه كان أشعري العقيدة، ومنهم من يقول بل كان سلفيا خالصا، ومن أسوإ ما قرأت في هذا الصدد: ما نُشر على [موقع عبد الحميد بن باديس باني النهضة العلمية] بعنوان: [عقيدة الإمام عبد الحميد بن باديس السلفية وبيان موقفه من الأشعرية]. وهو مقال طويل جدا، جزم كاتبه بأن ابن باديس كان سلفي العقيدة والمنهج، ويعني بذلك: سلفية النزعة الوهابية لا سلفية القرون الذهبية، وقال: بأنه ضلل طريقة المتكلمين عموما والأشعرية خصوصا، ونقل في ذلك نصوصا عن ابن باديس لم يذكر مصدرها، ولم تكن متطابقة مع ما وضع لها من عناوين، ولا منسجمة مع ما كتب عليها من تعاليق، ولسنا بصدد الرد على ما جاء في هذا المقال المطول والمتشعب، وإنما نود أن ننبه إلى أن آراء العلماء العقدية وغير العقدية ينبغى أن تستسقى من كتبهم بصدق وأمانة، من غير بتر لنصوصهم ولا تحريف لمدلولاتها.

وبخصوص الكشف عن عقيدة ابن باديس ، فمن القسط والإنصاف :

- أن لا نقول أنه كان سلفيا بإطلاق؛ لأن لفظ السلفية صار مشتركا بين فريقين مختلفين اختلافا كبيرا كما سيأتي.

- وأن لا نقول أيضا أنه كان أشعريا بإطلاق؛ لأن الأشعرية منهم المؤولة ومنهم المفوضة.

وتحقيق القول في ذلك أن نقول:

أن ابن باديس رحمه الله آثر اقتفاء طريقة السلف في الاستدلال على العقائد بالآيات والأحاديث، بدل الاستلال عليها بقواعد علم الكلام كالأشاعرة، وهو ما وضحه رفيق دربه البشير الإبراهيمي رحمه الله في مقدمته على كتاب : [العقائد الإسلامية ص20 وما بعدها ] لابن باديس، ومما قاله في ذلك :

"وأما أئمة الكلام: فالذي توسع في الطريقة العقلية ووسع دائرتها فهم جماعة معروفون كفخر الدين الرازي ... وهؤلاء هم الذين ثبتوا القواعد الكلامية والاستدلال على التوحيد بالعقل... وكلها جارية على الأصول التي أصلها أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه، وآراؤه هي التي يقلدها جمهرة المسلمين اليوم ... حتى جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيا بها طريق السلف في دروسه ... وأكملتها جمعية العلماء، فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله"هـ

وبالرجوع إلى كتاب : [العقائد الإسلامية ص73- 74] لابن باديس نجده ينص صراحة على انتهاجه لطريقة السلف في الاعتقاد، ومن ذلك قوله:

"الإِثْبَاتُ وَالتَّنْزِيهُ: نُثْبِتُ لَهُ تَعَالَى مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَنَنْتَهِي عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ نَزِيدُ عَلَيْهِ. وَنُنَزِّهُهُ فِي ذَلِكَ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَوْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَنُثْبِتُ الاِسْتِوَاءَ وَالنُّزُولَ وَنَحْوَهُمَا، وَنُؤْمِنُ بِحَقِيقَتِهِمَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى بِلاَ كَيْفٍ، وَبِأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفِ فيِ حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ"هـ

وقد احتج لذلك بقوله تعالى: "وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ". وقوله تعالى: "فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". وقوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء".

والمتأمل في نصه المتقدم يجده قد اشتمل على نفي الكيفية ووتفويض المعنى.. 

وهذا عين مذهب السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في تفويض معنى الاستواء والنزول ونفي كيفيتهما.

قال الشيخ زروق في شرح الرسالة1 / 45]:

"الاستواء على العرش ... من المتشابه الذي ينزه عن المحال ولا يتعرض لمعناه، وهو مذهب السلف وجماعة من الأئمة وحُمل عليه مذهب مالك"هـ

ونظير قول ابن باديس قول مالك رضي الله عنه : "الاستواء معلوم والكيف غير معقول- أو مجهول- والإيمان به واجب"هـ

فقول مالك وقول ابن باديس يلتقيان في حقيقة واحدة وهي:

أننا نثبت الاستواء لأنه معلوم ومذكور في كتاب الله عزوجل، ونؤمن به على نحو يليق بالله تعالى بلا تكييف ولا تأويل، ولا تحديد لمعناه على وجه التفصيل والتعيين، بل نفوض معرفته على التحقيق إلى الله وحده، مع جزمنا بأن الاستواء اللائق بالله هو غير الاستقرار والجلوس المتعارف عليه في حقنا؛ لأن ذلك من صفات الأجسام التي يتنزه عنها الخالق جل وعلا، ولأن ذات الله لا توصف بالهيئات الحسية من الجلوس ونحوه.

ولا يخالف الأشاعرة في انتهاج هذه الطريقة، فقد قال صاحب جوهرة التوحيد:

وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا *** أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا

ونص السهروردي في [آداب المريد ص 9 - 10] على إجماع الصوفية على حمل كل موهم كاليد واللسان والعين والجنب والقدم ونحوه على ما قاله مالك في الاستواء.

 وعلق الشيخ زروق على قول السهروردي بقوله: "فتأمل ذلك فإنه باب من التفويض وبالله التوفيق"هـ [شرح الرسالة1 / 46]:

أما سلفية النزعة الفكرية ذات التوجه الحنبلي أو الوهابي فيعتبرون كلا من تأويل الصفات وتفويض معانيها انحرافا عقائديا، بل اعتبر الشيخ ابن تيمية رحمه الله التفويض إلحادا، فقال في [درء تعارض العقل والنقل1 / 205] :

"قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد"هـ

وقد ألفوا العديد من الرسائل في الرد على ابن باديس بخصوص نصه المذكور وشبهه، من ذلك:

- [التنبيه على المخالفات العقدية عند ابن باديس والجمعية] لعبد الحق آل أحمد الجلفاوي.

- [الرد الوافي على من زعم أن ابن باديس سلفي] لنورة حسن غاوي.

ومن خلال ما تقدم نخلص إلى حقيقتين هامتين:

 الحقيقة الأولى:

أن مصطلح [السلف] ومشتقاته كسلفي وسلفية، لا يراد به عند ابن باديس وعامة العلماء سلفية النزعة الفكرية، ذات التوجه الحنبلي أو الوهابي، وإنما يراد به سلفية القرون الثلاثة الأولى المشهود لأهلها بالخيرية، في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

وتلك السلفية لا يستنكف مسلم عن الانتساب إليها والتأسي بها، وقد قال فيها العلامة ابن أبي شريف:

"ومذهب السلف أسلم فهو أولى بالاتباع كما قال بعض المحققين، ويكفيك في الدلالة على أنه أولى بالاتباع ذهاب الأئمة الأربعة إليه"هـ [الفواكه الدواني1 / 51].

وهي ذات السلفية التي ذكرها ابن جزي المالكي الأشعري في كتابه [القوانين الفقهية ص13] حيث قال:

"ورد في القرآن والحديث ألفاظ يوهم ظاهرها التشبيه كقوله تعالى ((على العرش استوى)) و((يداه مبسوطتان)) وكحديث نزول الله كل ليلة إلى سماء الدنيا وغير ذلك وهي كثيرة تفرق الناس فيها ثلاث فرق: (الفرقة الأولى) السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين آمنوا بها ولم يبحثوا عن معانيها ولا تأولوها بل أنكروا على من تكلم فيها ((والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا)) وهذه طريقة التسليم التي تعود إلى السلامة وبها أخذ مالك والشافعي وأكثر المحدثين. (الفرقة الثانية) قوم حملوها على ظاهرها فلزمهم التجسيم ويعزى ذلك إلى الحنبلية وبعض المحدثين. (الفرقة الثالثة) قوم تأولوها وأخرجوها على ظاهرها إلى ما يقتضيه أدلة العقول وهم أكثر المتكلمين"هـ

-  فالفرقة الأولى هي المرادة في مصطلح السلفية عند ابن باديس ورفقائه، وهي التي آثر اقتفاء طريقتها في مسائل الاعتقاد.

-  والفرقة الثانية هي سلفية النزعة الفكرية المنسوبة للوهابية والحنبلية.

-  والفرقة الثالثة هم أهل التأويل من الأشاعرة والماتريدية.

 الحقيقة الثانية:

أن اختيار ابن بادبيس لطريقة السلف لا يعني أنه يخطئ الأشاعرة، بل كان رحمه الله يجلهم ويحقق كتبهم وينشرها ويعتمدها في التدريس عقيدة وفقها وسلوكا، ويسير على منهجهم في كثير من مسائل الاعتقاد والسلوك، كمشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكالتبرك بالصالحين وشد الرحال لزيارة أضرحتهم .. وقد كان أول من حقق ونشر كتاب: [العواصم من القواصم] للفقيه الأشعري ابن العربي. كما حقق كتاب: [المنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية". للصوفي الأشعري سيدي عبد الرحمن باش تارزي. واثنى على على كل من مؤلف الكتابين ثناء عظيما، وغير ذلك مما قد وضحته بالتفصيل في بحث: [حقيقة التصوف وما أثير حوله من شبهات: مناوأة ابن باديس له أنموذجا]. وهو منشور على هذا الرابط:

https://laidbenzetta.blogspot.com/2020/04/blog-post.html

وبعد هذا التوضيح الموجز يمكننا أن نقول: أن ابن باديس أبعد ما يكون عن سلفية النزعة الوهابية، وأقرب ما يكون من الأشاعرة، بل هو - عند التحقيق - أشعري العقيدة؛ باعتبار أن التفويض الذي انتهجه في الاعتقاد هو إحدى الطريقتين المنتهجتين عند الأشاعرة، كما تقدم.

وإنما آثار ابن بادس الطريقة المذكورة؛ لأنها الأسلم عند كل العلماء، واتخذ الآيات والأحاديث منهجا في الاستدلال على العقائد بدل القواعد الكلامية؛ لتيسير معاني العقيدة على طلاب العلم، ولأن علماء السلف كانوا يرجعون في كل شأن من شؤون الدين إلى القرآن؛ ولأنه رأى في تلك المرحلة الحرجة أن سلطان القرآن على النفوس قد ضعف، فأراد أن يربط الأمة الجزائرية بالقرآن في كل شؤونها، وهذا مما لا يعترض عليه ذو عقل سليم.

والله أعلم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق