بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا
ونبينا ومولانا محمد وآله الطاهرين وصحبه أجمعين ومن والاه إلى يوم الدين.
بعد :
فإن حقيقة التصوف يعتريها الكثير
من الغموض، وقد طالها تشويه وتحريف، وأثير حولها العديد من الشبهات، حتى أصبح
التصوف في نظر كثيرين عبارةً عن تكهنات غيبية، أو شطحات بهلوانية، أو طواف بالقبور
واستغاثة بها ، ومرد ذلك إلى سببين:
أحدهما: بعض السلوكات الصادرة عن
الغلاة أوالجهلة من أدعياء التصوف، التي يتنزه عنها الصوف الأصيل.
والثاني: تقصير أرباب التصوف في
التأصيل له، وإيضاح حقائقه بالأسلوب الذي يدركه الإنسان المعاصر، وتصحيح المفاهيم
الخاطئة المثارة حوله، كشبهة مناوأة ابن باديس للتصوف الشائعة بين الناس.
وفي هذا البحث الموجز سنبين
بإيجاز حقيقة علم التصوف، وعلاقته بالفقه الإسلامي، ثم نناقش شبهة مناوأة ابن
باديس للتصوف والصوفية.
المبحث الأول: حقيقة
التصوف وعلاقته بالفقه الإسلامي
الطعن في التصوف منزلق خطير؛ لأن
الطاعن فيه طاعن في ذات الدين ؛ باعتباره أحدَ مقاماته الواردة في حديث جبريل ،
وفيه : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"[1].
والإحسان هو أهم مجالات علم
التصوف ؛ ولذلك كان العلم به أي بالتصوف مندرجا ضمن الفقه في الدين المشار إليه في
قوله تعالى:" فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ"[2].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"[3]هـ
* فالطائفة المذكورة في الآية
تشمل الفقهاء، الذين استنبطوا لنا الأحكام المتعلقة بالظاهر، من عبادات ومعاملات
التي تسمى بــ[الفقه].
كما تشمل طائفة العلماء، الذين
استنبطوا لنا الأحكام المتعلقة بالباطن، أي بأعمال القلوب، من خشية وإخلاص ومراقبة
ومجاهدة ومحاسبة .. والطائفة الثانية هم فقهاء التصوف، كالإمام الجنيد ونظرائه
عليهم رحمة الله.
* وكلمة الدين الواردة في هذا
الحديث وفي الآية التي قبله تشمل كلا من الأعمال الظاهرة، التي أطلق عليها مصطلح
" الفقه ". كما تشمل السلوك وأعمال القلوب التي أطلق عليها مصطلح "
التصوف".
وقد تنوعت أقاويل العلماء في
اشتقاق كلمة [تصوف]، وأشهرها انه مشتق من [الصفاء] ؛ لأنه يهدف إلى تصفية
القلوب والخواطر من الأدران التي شينها ، كما قال ابن عاشر رحمه الله:
يُطَّهــــــِرُ
الْقَلْبَ مِــنَ الرِّياءِ *** وَحَسَــــدٍ عُجْبٍ وكُلِّ داءٍ
يُحاسِبُ النَّفْسَ عَلى
الأَنْفاسِ *** وَيَزِنُ الْخَاطِرَ بالْقِسْطاسِ
وبذلك يتجلى لك أن الفقه والتصوف
علمان متلازمان متكاملان لا غنى لأحدهما عن الآخر، إذ لا صلاح للفرد بدونهما ،
فالفقه يهدف إلى تنظيم وصبط أفعال المكلفين وأقوالهم، والتصوف يهدف إلى تزكية
نفوسهم وتطهيرها من عيوبها وغوائلها بإصلاح القلوب وتصفيتها من أدرانها ...
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على
تعريف الفقه بأنه :"العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبُ من أدلتها
التفصيلية". فإن المتصوفة قد تنوعت تعريفاتهم للتصوف تنوعا كبيرا.
ولا ضير في أن نعرفه على نهج
الفقهاء بأنه :"العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالأعمال القلبية".
وهذا التعريف يتفق مع تعريف ابن ذكوان رحمه الله حيث قال[4]:
علم به تصفية البواطــــن
*** من كدرات النفس في المواطـــــــن
وبتصفية البواطن تصفو الظواهر،
وبصلاح القلوب تصلح الجوارح، "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا
صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ،
أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"[5] .
وإذا كانت كتب الفقه قد درجت على
ذكر الأحكام الفقهية، مجردة عن القيم الروحية والإيمانية، فإن الناظر في القرآن
العظيم والسنة المطهرة يجد أن ثمة ارتباطا وثيقا بين الأحكام الفقهية وبين القيم
الروحية والإيمانية، أي بين الفقه والتصوف، وذلك ظاهر لم يتتبعه ويتأمله ، من ذلك
- مثلا - سورة الطلاق ، فهي مسوقة لبيان أحكام الطلاق أصالة، لكنها بين تقرير حكم
وآخر تذكر بالتقوى، والتقوى من أهم موضوعات علم التصوف كما قال ابن عاشر:
يَحْفَظُ فَرْجَهُ
وَيتَّقِي الشَّهيدْ *** في البَطْشِ والسَّعْي لِمَمْنوع يُريدْ
وقد ذكرت التقوى في سورة الطلاق
خمس مرات : "وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ "
، " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" ،
"وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" ،
" وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ
لَهُ أَجْرًا" ، "فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ".
وهذا الارتباط الحاصل بين
الأحكام الفقهية وبين القيم الروحية والإيمانية، أو بين الفقه والتصوف كثير جدا في
نصوص القرآن والسنة.
* ولذلك
لا ينبغي بتر الفقه عن التصوف، ولا التصوف عن الفقه، وإلا أدى ذلك إلى الزلل، على
نحو ما قال الإمام مالك رحمه الله :"من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف
ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق"[6]
. وقريبٌ من هذا قول الشافعي رحمه الله :
فقيهاً وصوفياً فكـن ليسَ
واحداً ** فَإني وَحَـــــــقِّ اللَّهِ إيَّـــــــاكَ أَنْصَحُ
فـــذلك قـــاسٍ لـم يذق
قلبه تقى ** وهذا جهولٌ كيف ذو الجهل يصلحُ
* كما
ينبغي توجيه الجهود إلى درء السلوكات المحدثة في التصوف مما ليس منه، من خلال
التأصيل له، وضبطه بالأصول الشرعية، التي نبه عليها الإمام الجنيد رحمه الله بقوله
: "مذهبنا هَذَا – يعني التصوف - مقيد بأصول الكتاب
والسنة"[7] . وقال أيضا: "علمنا
هَذَا مشيد بحَدِيث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"[8]
.
ولذلك فأي سلوك يناقض الكتاب والسنة فليس بتصوف، وإن زعم أربابه أنه كذلك، ولا يجوز أن يتخذه البعض ذريعة للطعن في هذا العلم الجليل، الذي به تطهر القلوب وتصفو السرائر؛ ليتحقق صدق التوجه إلى تعالى ، فإن الطاعن في هذا العلم طاعنا في الدين- كما ذكرنا آنفا- وطاعنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ باعتباره مرجعية التصوف الأولى، كما قال سيدنا البصيري رحمه الله:
وكلّهم من رسول الله
ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم
فما من متصوف - بحق - إلا وهو
آخذ بقسط من أنوار محمد عليه الصلاة والسلام؛ عملا بقوله تعالى : "لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"[9].
وهذه الآية الكريمة تعتبر من أهم
الدلائل المؤيدة لما هو مرسوم في المنهج الصوفي ، من خلال ما اشتملت عليه من
الحقائق الآتي بيانُها:
1- الأسوة :
وهي النموذج السلوكي، المتمثل في شخص رسول الله عليه الصلاة والسلام ، الذي كان
دائم التحليق بأفكاره ومشاعره في الملكوت الأعلى، مستغرقا في ذكر ومناجاة ربه جل
وعلا، متفانيا في محبته وعبوديته، موصولا به في ليله ونهاره، لا يكاد يذهل عنه حتى
في لحظات رقاده، تنام عيناه ولا ينام قلبه، وذلك كله نابع من معرفته الساطعة بربه؛
لأن الخشية ثمرة المعرفة، وقد قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام:" فَوَاللَّهِ
لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً"[10].
وهذه الروحانية المتجلية في
شخصيته صلى الله عليه وآله وسلم هي عين التصوف، وهي الغاية التي يسعى المتصوف
للتحقق بها؛ تأسيا برسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهذا النموذج السلوكي كما يتمثل
في شخص رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يتمثل كذلك في ورثته وخلفائه من
العلماء العارفين من بعده، الذين أوصى الله تعالى بمصاحبتهم : "يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
وإذا كان كل متعلم مفتقرا إلى
المعلم، فإنه في هذا العلم أشد افتقارا، لاشتماله على الرياضة الروحية والممارسة
السلوكية والمعارف الذوقية، التي يتعذر وصفها باللسان، لذلك اشترط أرباب التصوف في
منهجهم النموذج السلوكي، المعبر عنه في الآية بــ[الأسوة] والذي عناه ابن عاشر
بقوله:
يَصْحَبُ شَيْخاً عَارِفَ
المَسالِكْ *** يَقِيهِ فِي طَرِيقِهِ الْمَهالِكْ
يُـذَكِّـــــــــــــــــرُهُ
الله إِذَا رَآهُ *** وَيُوصِلُ الْعَبْدَ إِلى مَولاهُ
2- ذكرت
الآية الكريمة أن الدافع للتأسي برسول الله هو مرجاة اللهِ والدار الآخرة، ولك هي
غاية علم التصوف.
3- ثم
ذكرت الآية الكريمة أن مكرمة التأسي برسول الله الموصلة إلى الله والدار الآخرة،
إنما تحصل لمن ذكر الله كثيرا، ولأجل ذلك اشترط فقهاء التصوف أن يكون للمتصوف ورد
يومي من الأذكار ، بل إن ذكر الله كثيرا هو البرنامج العملي للمتصوف في سائر
أحواله؛ لأنه لا حظ في التأسي برسول الله لمن لا يذكر الله كثيرا كما يُفهم من
الآية.
وبهذا يتجلى لك أن التصوف ليس
فلسفة أوهاما كما يتصوره البعض، بل هو علم جليل به يتحقق صدق التوجه إلى الله
تعالى، وتلك هي الحقيقة التي ينبغي أن يُكشف عنها في علم التصوف؛ ليُعرض على عموم
المسلمين مقيدا بأصوله، مبرأً من أي شبهة تصدهم عنه، ومسؤولية ذلك تقع على عاتق
السادة العلماء؛ من منطلق الوفاء بميثاق البيان العلمي المأخوذ عليهم في عموم قوله
تعالى :"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ"[11].
المبحث الثاني: مناقشة ما
عُزِي لابن باديس من مناوأة للتصوف
شاع بين الناس بأن ابن باديس
رحمه الله كان من أولويات عمله محاربة التصوف والصوفية ، وقد آثرت مناقشة هذه
الشبهة لسببين :
1 - لما
لها من تأثير سلبي على نفوس الجزائريين بالنظر إلى مكانة ابن باديس في نفوسهم.
2- ولأن
الطوائف الوهابية اتخذتها مطية للطعن في التصوف وتشويه حقيقته، موهمة الناس بأنها
على نهج ابن باديس؛ بالنظر إلى ما تعاني منه من افتقار للمصداقة.
وهذه شبهة باطلة يصدق عليها
المثل المشهور: [حق أريد به باطل] ؛ لأن الواقع أن ابن باديس إنما حارب أدعياء
التصوف، من الجهلة الذين ساندوا الاستعمار، وربما اعتبروه قضاء وقدرا لا مناص من
الإذعان له ، أو اعتبروه ولي أمر تجب طاعته كما نص القرآن ... ولو كان أي منا مكان
ابن باديس لما وسعه إلا أن يقف موقفه ، من إعلان الحرب على تلك الطوائف العميلة ،
المثبطة لعزائم الجزائريين ، والملوثة لعقولهم بالخرافة، التي تتنزه عنها الصوفية
الحقة تنزها كبيرا.
أما أرباب التصوف الأصيل المقيد
بالكتاب والسنة كما تقدم في قول الجنيد، فهم من حمل لواء الجهاد والمقاومة ،
كالأمير عبد القادر ، وبوعامة ، والمقراني ، وبلحداد ، وغرهم جم غفير، فهؤلاء
ونظراؤهم ما كان لابن باديس أن يقف ضدهم ، بل كان يقفو إثرهم ويحتذي، وكان ينهل من
معينهم ، وآثاره ومواقفه شاهدة على ذلك، نذكر منها بعض النماذج ؛ لنكشف من خلالها
عن الموقف الرسمي لابن باديس من الصوفية والتصوف، ولنجمع بينه وبين ما يناقضه في
الظاهر من مناوئة للطرق الصوفية.
أولا: تصحيحه رحمه الله لـــ
"المنظومة الرحمانية"
من خدماته الجليلة للتصوف رحمه
الله : تصحيحه "للمنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة
الخلوتية" للشيخ سيدي عبد الرحمن باش تارزي، التي تعد من أدبيات الطرقية
الثرية في علم التصوف، وقال رحمه الله في تصحيحه لها:
"تم طبع المنظومة
الرحمانية ذات الأسرار الربانية الجامعة لأصول الطريقة الخلوتية، وآداب التربية
الشرعية الدالة على علم ناظمها وبركته بما نفع الله بها من أتباعه وتلامذته"هـ.[12]
وقال مثنيا على صاحبها سيدي عبد
الرحمن باش تارزي:"لا زال هذا الرجل معروفا من شبابه بجمال العفة، وحسن
السمت، ومكارم الأخلاق، والحياء التام، والتواضع الفطري مع جميع الناس"هـ
[13]
وجه الاستدلال : هذا الصنيع
دلالته واضحة، وهي خدمته رحمه الله لعلم التصوف وسعيه إلى نشره بين المسلمين، ولا
يُعقل أن يكون خادما للتصوف ثم مناوئا له في آن واحد.
ثانيا: رسالته للشيخ الطاهر
العبيدي وما جاء فيها من تبرك بالأولياء
حيث بعث رحمه الله رسالة مطولة
إلى الشيخ الطاهر العبيدي، أحد أعلام الصوفية بوادي سوف ، والتي خاطبه فيها -
معتذرا عن التأخر في الكتابة له - قائلا:
إن كنتُ قد قَصَّرْتُ في
الكتابة *** واللهِ ما مِلْــتُ عن وِدادي
وإنــــــما كــــان ذلك
مــــــني *** عن غفلةٍ ليس عن مرادي
فسامحـــــوا طاهـــري
بفضـل *** وحسْبُكــم مَسْــــكَنًا فؤادي
وقد ذكر له في تلك الرسالة أنه
كان كثير الترداد على أضرحة أولياء الله الصالحين للتبرك بهم ، حيث قال:
"فإني كتبته إليكم من
حضرة قسنطينة، يوم قدومي من رحلة كنت أعملتها من ناحية الجزائر وتلمسان، لزيارة
الأحياء والأموات من العلماء والصلحاء وأعيان الزمان، فتشرفت بسادات كثيرين منهم
العلماء والصالحين، ومن أعظم الجميع قدرا وأشهرهم ذكرا:سيدي أبي مدين الغوث، وسيدي
محمد السنوسي بتلمسان، وسيدي محمد بن عبد الرحمن، و سيدي عبد الرحمن الثعالبي
بالجزائر ..." [14]
وجه الاستدلال: أن مخاطبة
الصوفية بهذا الإجلال، وشد الرحال لزيارة أضرحة الصالحين والتبرك بآثارهم وذكرهم
بلفظ السيادة هو سلوك لا يصدر إلا عن متصوف، وهو يعتبر شركا في العقيدة الوهابية
كما هو معلوم.
ثالثا: سيره رحمه الله على منهج
السادة الصوفية في كثير من الأمور.
نذكر منها بإيجاز واختصار:
1- قوله
بجواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم حيا ومن بعد مماته، وهو ما يعتبره
الوهابية شركا بالله، وقد أصل رحمه الله لذلك انطلاقا من حديث عُثْمَانَ بْنِ
حُنَيْفٍ الذي جاء فيه :" اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ
إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي
تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ ، اللهُمَّ
شَفِّعْهُ فِيَّ" [15].
كما كان رحمه الله تعالى يثني
على السادة الصوفية بتوسلهم برسول الله، فقال:
"اعلم أن السادة
العارفين هم أرسخ الناس قدما في محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أدعيتهم
لله تعالى عند ذكره والتوسل به .."[16].
وأخبر عن نفسه أنه كان يتوسل
برسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: "وقد دعوت الله وحده، وتوسلت
له بنبيه، وتوجهت إليه به أن يميتني على ملته"[17].
وجه الاستدلال : أن هذا السلوك
هو عين التصوف وإن لم يسم صاحبه نفسه متصوفا، لأن التصوف سلوك لا مجرد تسمية.
2- نفيه
أن يكون وَالِدَا الرسول صلى الله عليه وسلم في النار، اللذان يستميت الوهابية في
إثبات تعذيبهما وتخليدهما في جهنم أبدا، فقد نفى رحمه الله ذلك انطلاقا من قواطع
الأدلة كقوله تعالى:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً"
هـ وغير ذلك مما ذكره في آثاره؛ مؤولا حديث مسلم الذي جاء فيه :".. إن
أبي وأباك في النار" هـ بأن الأب يطلق في اللغة ويُراد به العم، ومبينا
بأنه لا مناص من حمل الحديث على ذلك؛ لأنه حديث آحاد لا يقوى على قواطع الأدلة
الواردة في نجاة أهل الفترة كما قال[18]
.
وجه الاستدلال : أن هذا منسجم
تماما مع يقرره أرباب التصوف.
3- اشتغاله
بتدريس "متن ابن عاشر" ونحوه من كتب المالكية [19]،
وقد كان أول من حقق ونشر كتاب:" العواصم من القواصم" لابن العربي
الأشعري المالكي سنة 1347هـ وأشاد به وأثناء على صاحبه ومنهجه ثناء عظيما[20]
.
وجه الاستدلال: أن هذا يعتبر
ترسيخا منه للمرجعية الدينية المؤلفة من عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد
السالك بخلاف الوهابية الذين يحذرون من كتب العقيدة الأشعرية والتصوف.
4- احتفاؤه
بالمولد النبوي الشريف على نهج الساد ة الصوفية، خلافا للوهاية الذين يرونه بدعة
ضلالة منكرة، ومما قال في ذكراه :".. فيوم ولادته صلى الله عليه وآله
وسلم هو يوم ولد فيه العالم ولادة جديدة ؛ فلنجعل يوم ولادته من كل عام يوما نعزم
فيه على تجديدنا تجديداً روحياً وعقلياً وأخلاقياً وعملياً وتاريخياً تجديداً
إسلامياً محمدياً في جميع ذلك. لنولد في عامنا الجديد ولادة جديدة وهكذا نجدد
ونتجدد في كل ذكرى مولد"[21].
وأنشد في ذكراه قائلا [22]:
حييت يا جمع الأدب ***
ورقيـــــــت ساميــة الرتب
أحييت مولـد من بـه ***
حيـي الأنــــام على الحقب
أحييـــت مولـده بـما ***
يبري النفوس من الوصب
بالعلـم والآداب والأ ***
خـــــــلاق في نشء عجب
وهذا قليل من كثير .... ومن
خلاله يتجلي أن أبن باديس رحمه الله أبعدُ ما يكون عن الوهابية، وأقربُ ما يكون من
السادة الصوفية، وأن ما نسب إليه من محاربة الطرق الصوفية محمول على جهلة أدعياء
الصوفية ممن ساندوا الاستعمار وكانوا عونا له على تجهيل الشعب الجزائري ...
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى
أن التنافر الذي حصل بين الطرق الصوفية المعتدلة وبين ابن باديس وجمعيته عموما،
ابتداء من حادثة اجتماع نادي الترقي يوم 23 ماي 1932م لم يكن سببه الرئيس التوجه
المذهبي في العقيدة والسلوك، بل كان له أسباب أخرى، نفسية وسياسية واستعمارية؛ حيث
أعمل الاستعمار في التفريق بين الفريقين قاعدتَه المشؤومة : "فرق تسد".
فينبغي للباحثين دراسة ذلك
بإنصاف وموضوعية ، وفق ما نعبر عنه نحن في الفقه بـــ [تحرير محل النزاع] فهو
ضروري جدا لتمييز مواطن الخلاف وتحديد طبيعته ..
وهكذا ينبغي أن ننتهج فيما نسب
لابن باديس من مناوأة للصوفية، ونقارن بينه وبين ما ساقه هو بعباراته عنهم ، وما
انتهجه في مسائل الاعتقاد والفقه والسلوك وفق منهجهم ، لا أن نقف منه موقف الندّ
من عدوه اللدود دون فائدة مرجوة.
الهوامش
1- البخاري رقم 4777
2- التوبة 122
3- مسند أحمد رقم 16839
4- الدر الثمين والمورد المعين،
لأحمد ميارة المالكي ص545
5- صحيح مسلم رقم 107 - (1599)
6- حاشية العلامة علي العدوي على
شرح الإمام الزرقاني على متن العزية في الفقه المالكي 3 / 95
7- الرسالة القشيرية 79
8- نفسه 79
9- الاحزاب 21
10 مسلم رقم 2356
11 آل عمران187
12- الشيخ عبد القادر عثماني،
الطريقة الخلوتية الرحمانية طريقة قرآن وعلم وجهاد، ص 5
13- نفسه
14- أوردها كل من :
• العياشي
دعدوعة:الطريقة الرحمانية علمية جهادية إصلاحية. جريدة الأحرار، العدد 721، 15
جويلية 2000م ص 16
• عبد القادر عثماني: الزوايا
والتعليم الديني، مجلة الامام مالك بن أنس، دار الهدى عين مليلة 2002/ ص 20.
15- سنن الترمذي رقم 3578
16- آثار ابن باديس 3 /160
17- نفسه 3 / 37
18- نفسه 2 / 72
19- آثار ابن باديس 3 / 229
20- نفسه 4 / 128
21- نفسه 3 / 478 - 479
22- نفسه 3 / 570
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق