......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأحد، 28 ديسمبر 2014

مسالك النجاة المسلك الثالث: " عدم الرضا بالطاعة وعدم التعيير بالمعصية

المسلك الثالث:
" عدم الرضا بالطاعة وعدم التعيير بالمعصية "
محامد
الحمد لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا ، وأوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع الرسول عليها دليلا ، واتخذهم عبيدا له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلا ، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة نشهد بها مع الشاهدين ، و ندخرها عند الله عدة ليوم الدين ، واشهد أن الحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور ، واشهد أن محمدا عبده المصطفى ، ونبيه المرتضى  ، ورسوله الصادق المصدوق ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، أرسله رحمة للعالمين وحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، صلاة دائمة بدوام السموات والأرضين، مقيمة عليهم أبدا لا تروم انتقالا عنهم ولا تحويلا.
"  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران102)
مقدمة 
أيها الإخوة الكرام : قد تكلمنا فيما  سبق عن مسلك المحاسبة ، فبينا حقيقتها وأقسامها ودلائلها...... وسنتحدث اليوم عن مسلك آخر من مسالك النجاة ، وهـــو: " عدم الرضا بالطاعة وعدم التعيير بالمعصية " قال ابن القيم في مدارج السالكين نقلا عن صاحب المنازل أبي علي الهروي :
" اعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك ، وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك "
 هذه الحقيقة عدها ابن القيم أحد أركان المحاسبة ، وهذا يعني أن المحاسبة لا تقوم إلا بها ؛ لأن الركن هو: "ما لا وجود لذات الشيء إلا به".
أولا : المراد بقوله " اعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك ............ "
يعني أن العبد إذا رضي بطاعته - واعتقد أنه قد أداها على الوجه الأكمل كما يليق بمقام ذي الجلال والإكرام – فإنه بذلك يصيرها معصية ، فتكون وبالا وحسرة عليه ؛ لأن الرضا بالطاعة يؤدي إلى العجب والكبر والاستعلاء، وهو أكبر من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف اتفاقا... قال الله تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" [النجم:32]، وفي الحديث : " ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" [أخرجه البيهقي في الشعب6865]. وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئا ً؟ قالت: "إذا ظن أنه محسن".
فعلى طالب النجاة أن يتهم نفسه – دائما - بالتقصير ويسئ الظن بها ، وأن يكون على وجل من عدم قبول الطاعة ، وقد روي عن عمر أنه قال  "يا ليت أن الله تقبل مني مثقال ذرة ؛ فإن الله يقول: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ "[المائدة27].
فلا يرضى بطاعته إلا جاهل بنفسه وآفاتها وعيوبها ، و لا يدعي الكمال في الطاعة إلا جاهل بمقام ربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به جل جلاله.
ولهذا تجد العارفين بالله يكثرون من الاستغفار بعد الطاعات ؛ لأنهم يدركون تقصيرهم فيها ، وأنهم لم يقوموا لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه ، قال تعالى "والمستغفرين بالأسحار " قال الحسن في تفسيرها : "مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل". يعني بعد القيام. وقد جاء الأمر بالاستغفار بعد أداء الطاعات ، فمن ذلك :
-   قوله تعالى:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم"  فهو أمر بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفات ، أي بعد أداء أعظم ركن وهو والوقوف بعرفة.
-   وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ، ثم قال : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"  [رواه البخاري] .
-   ومن الأدعية المأثورة بعد أداء الوضوء: " سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين" [الترمذي رقم55]
وقال بعض العارفين : "متى رضيت نفسك وعملك لله ، فاعلم أنه غير راض به ، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر ، وعمله عرضة لكل آفة ونقص ، كيف يرضى لله نفسه وعمله"
وينبغي أن ننبه إلى أمر هام : وهو : أن الرضا بالطاعة والعجب بالعمل ....لا يعني أن العبد لا يفرح بتوفيق الله له لطاعته ، وإدراك نعمة الله تعالى بأداء الطاعة التي يترتب عليها رضا الله تعالى، ونيل ثوابه ، والدخول في ديوان الصالحين.....وفي الحديث " :من عمل حسنة فسر بها ، وعمل سيئة فساءته ، فهو مؤمن " .  [ رواه الهيثمي  في مجمع الزوائد رقم  285 ]. فالفرح بالطاعة أمر ممدوح ، أما الرضا بالطاعة – كما بينا - فهو مذموم.
والخلاصة :
 أن مريد النجاة لنفسه ينبغي ألا يرضى بطاعته مهما عظم شأنها ، بل عليه أن يستغفر الله بعدها ؛ لأنه مهما عظمت طاعته فلن ترقى لئن تليق بجلال الله جل جلاله ؛ ولأنه إذا رضي بطاعته دخله العجب والغرور والاستعلاء..وإذا حدث له ذلك كان من الهالكين.   
ثانيا : المراد بقوله " اعرف أن ...... كل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك"
هذه الحقيقة تحتمل أحد أمرين:
الأول: إما أن المعصية التي تعير بها أخاك - كأن تقول له يا نمام أو يا زاني ونحوهما..- فلا بد أن تصير تلك المعصية إليك ، أي لا بد أن تعملها ، وهذا مأخوذ من الحديث الذي رواه الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم :                   "منْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ, لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ ". والتعيير بالذنب فيه نوع خفى من إظهار الشماتة ، وفي الحديث:" لَا تُظْهِرَنَّ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ ". [الأصبهاني في الأمثال رقم 175]
والثاني: أن تعييرك لأخيك بذنبه هو أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته  ؛ لما فيه من الإعجاب  بالطاعة ، فكأنك  بذلك تزكي نفسك وتدعي البراءة من الذنوب ... ولعل أخاك - الذي تعيره بالذنب – تاب وانكسر بذنبه وتذلل لله وأنت لا تدري. ومن حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى:
"رب معصية أورثت ذُلاً وانكسارًا، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا"
 وكلام ابن عطاء الله يتفق تماما مع ما قاله ابن القيم رحمه تعالى:
 ".....إن الذنب الذي تَذِلُّ به لله عز وجل ، أحب إليه من طاعة تمُنُّ بها عليه سبحانه ، فإنك إن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا ، خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل ، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مُدِل [ أي مفتخر من الإدلال وهو الفخر والتيه] وأنين المذنبين أحب إلى الله عز وجل من زَجَل [صوت]المسَبِّحين المدِلِّين".
والخلاصة:
أنه لا ينبغي للعبد أن يزكي نفسه و لا أن يزدري غيره ؛ فلا يأمن كرات القدر وسطوته إلا أهل الجهل ، وقد قال الله تعالى - لأعلم الخلق به وأقربهم إليه وسيلة - :" ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ".
بل على طالب النجاة أن يسيء الظن بنفسه ؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش عن عيوب النفس ، وقد يلبس على العبد فيرى مساوئه محاسن ، وعيوبه كمالا ، كما قال الشاعر:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
يعني أنه متى كان العبد راض عن نفسه فلن يرى عيوبها أبدا ...فلزمه أن يسيء الظن بنفسه ؛ ليكتشف عيوبها وآفاتها؛ فيندفع لإصلاحها.

وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق