......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 13 ديسمبر 2012

أفعل الخير و لا تنتظر الشكر من أحد


خطبة الجمعة بمسجد مالك بن أنس بمدينة – التلاغمة- الجزائر  01/ 02/ 1434 هـ = 14/ 12/ 2012م
محامد
الحمد لله حق حمده ، الحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله  ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  .
تمهيد
أيها الإخوة : إن الله تعالى خلق الخلق وطلب منهم أن يعيشوا – في ملكه متآلفين لا متنافرين ، و متعاونين على الخير في مختلف جوانب حياتهم ، يعطف بعضهم على بعض ، و يعين بعضهم بعضا ، و يأخذ أقواهم بيد أضعفهم ، والمؤمن ينبغي أن يكون لأخيه المؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "[1] و (( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ))[2] كما ثبت عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم – ومن صفات المؤمنين المسارعة إلى فعل الخيرات ، إلا أن هناك بعض العوائق الخطيرة التي كثيرا ما تأثر في نفوس الخييرين ، مما يجعلهم قد يحجمون عن فعل الخير وإسداء المعروف أو يندمون على فعله  ، وتتمثل تلك العوائق في نكران الجميل ، أو مقابلة الإحسان بالإساءة ، والخير بالشر ، والجميل بالقبيح ....وقد رأيت كثيرين يتألمون من التنكر لصنائعهم الجميلة ، وبعضهم أخذته الدهشة والذهول حين قوبل إحسانه بالإساءة ، و طفق يسلي نفسه بقول الشاعر :
ومن يجعل المعروف في غير أهله            يكن حمده ذما عليه ويندم
ولما كانت تلك العوائق لها آثار سيئة وخطيرة على المحسن والمحسن إليه ، والمعطي والمعطى له ، كان لزاما علينا معالجتها ،  وبيان ما يحيط بها من غموض و ملابسات  ، وذلك من خلال الكشف عن الأمور الآتية :
أولا : الدعوة إلى  الشكر والمكافأة على المعروف
فمن المناكر القبيحة المتفشية بين الناس : خلو النفوس من الشكر  وامتلاؤها بالجفاء ونكران الجميل ، و هذا خلق دنيء و قبيح ينبغي أن يتنزه  عنه المؤمنون والمؤمنات ، فإن الإسلام الحنيف  يعلمنا  أن نستقبل ما يسدى إلينا من معروف بالحفاوة والتقدير لأصحابه ،  و يوجه المعطى له إلى ذكر النعمة التي سيقت له ، و الثناء الجميل على صاحبها ، و مكافأته عليها بأية وسيلة من وسائل المكافأة ،  فإن لم يجد الجزاء المادي الذي يكافئ به  فليشكر بلسان الحال والمقال ، وليدع الله تعالى أن يثيب من أحسن إليه ، قال رسول الله-  صلى الله عليه وسلم - : "من اصطنع إليكم معروفاً فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد شكرتم، فإن الله شاكر يحب الشاكرين " [3]. فقوله  صلى الله عليه وسلم (( إن الله شاكر يحب الشاكرين )) يستفاد منه عن طريق مفهوم الخالفة أن الله يكره ويمقت الجاحدين .
 وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : "من أعطي عطاء فوجد فليجز به ، فإن لم يجد فليثن. فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر"[4] . وقال أيضا : " إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس "[5].   وقال أيضا: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة. والفرقة عذاب "[6]
وقوله صلى الله عليه وسلم ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) يدل على أن شكر الناس من شكر الله تعالى ، فكأنه يقول : لا فائدة من شكرككم لله إذالم تشكروا الناس على إحسانهم إليكم ، ومما يؤيد هذا قول ابن عباس : من شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل الله منه ، وإذا كان الشكر للناس من الشكرلله ؛ فإن الله تعالى قد بين لنا الجحود يعرض النعم  للزوال ، فقال تعالى :"مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ " (النحل112) .
 وقوله صلى الله عليه وسلم ((من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير)) فيه إشارة إلى أن الشكر مطلوب ولو كانت الخدمة المقدمة لك يسيرة ، كأن يهديك أخوك كتابا أو قارورة مسك أو يتكرم عليك بنفنجان قهوة...فينبغي أن تشكره على ذلك وأن ترد إليه الجميل إن استطعت.
وانظروا  - أيها الأخوة - كيف ربط بين الشكر والجماعة في الحديث الأخير : ((والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة. والفرقة عذاب )) فذكر الجماعة  وما فيها من الرحمة متصل  بما قبله من شكر النعم ؛ ذلك لأن التقاطع والبغضاء والتفرق يرجع - غالبا - إلى جحود النعم وإهمال أصحابها والتنكر لما أسدوه من جميل ، فكان الجحود - بذلك- ذريعة إلى قطع روابط الائتلاف بين جماعة المؤمنين وتعريضها لعذاب الفرقة ، وكفى بذلك قبحا ونكرا . وأما شكر النعم والثناء الجميل على مرسليها فهو من وسائل المحافظة على أواصر الإخوة والمودة بين المؤمنين . ووسيلة الحرام حرام ووسيلة الواجب واجبة .
ثانيا : الجحود صفة ملازمة لبني البشر
أيها الأخوة : ينبغي أن نعلم أن الجحود صفة دنيئة  ، وهي قديمة قدم الإنسان نفسه  ، تنبت في النفوس كما تنبت الأعشاب والنباتات الضارة على وجه الأرض دون أن يزرعها أحد ، بخلاف الشكر فهو كالزهرة التي لا تنبت إلا بالسقي وحسن التعهد .
وهذا هو السبب في أنك قد تبذل جهدك في تقديم العون لبعض الناس ، وتسوق إليهم ما تستطيع من نعم ، حتى إذا استقرت تلك النعم في أيديهم نظروا إليك متنكرين ، ثم و لوا عنك مدبرين!! وقد يتحولون – في أحيان كثيرة - إلى مهاجمين ومحاربين ، ويضيرهم ويشعل نار قلوبهم أن تكون في مكان يصلهم منه إحسانك ، وجريمتك التي جعلتهم يقابلوك بمثل هذا ؟؟  {{ أنك أسعفتهم يوم أن احتاجوا إليك !!!! }}
ومع  ذلك كله ينبغي للمؤمن ألا يحزن  لهذا التصرف المشين ؛ لأن الناس قد صنعوا ذلك حتى مع ربهم وخالقهم ، فعلى الرغم من أن آلاء الله تغمرهم من كل جانب ، ونعمه  تلاحقهم في كل نفس يملأ صدوهم بالهواء ، وكل خفقة تدفع الدماء في عروقهم ؟ ولكنهم قلما يشعرون بذلك الفضل العظيم ، و قلما يشكرون صاحبه الذي أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وهو  القائل : " وما بكم من نعمة فمن الله "[النحل54] وقال جل ثناؤه" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " [ابراهيم34] (( ظلوم كفار ))  أي كثير الجحود لنعم الله ، وقد نبه سبحانه و تعالى في أكثر من آية إلى هذا الجحود المتأصل في نفوس الكثيرين ،  فقال جل ثناؤه: "وقليل من عبادي الشكور " [سبأ13] وقال أيضا : "وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ "[ النمل73]
وروى أن عيسى ابن مريم عليه السلام شفى عشرة من المفلوجين فى يوم واحد، فلم يشكره منهم إلا  واحد فقط!!. أما الآخرون فقد انصرفوا دون أن يذكروا جميله بكلمة واحدة.
وكان أبو بكر يرعى قريبا له اسمه  "مسطح " وينفق عليه ، لكن" مسطحا "هذا ما إن سمع الإشاعات الكاذبة تدور حول "عائشة" بنت أبي بكر حتى أسرع يعين على ولى نعمته ويروج مع الأفاكين والمنافقين مقالة السوء ، بدل أن يرد جميل قريبه وولي نعمته بالدفاع عن عرضه!!.
و ما أكثر تلك المواقف : التي يتجلى فيها إيذاء الأوغاد للأمجاد ، بالتنكر لجميلهم وإحسانهم ، ومقابلة خيرهم بالشر  وإحسانهم بالإساءة .
 ولا شك أن تلك المواقف المخزية إنما تدل على دناءة أصحابها وخبث معدنهم ، ثم هي منتهية بهم إلى البوار لا محالة ، ولن تضير أولي الأيادي البيضاء مثقال ذرة .  
ثالثا : محض نيتك لله وارج الثواب منه وحده
وإن الإسلام الحنيف مع دعوته للشكر ، و نهيه عن الجحود ونكران الجميل ، وتحقيره لشأن الجاحدين ، فإنه يطلب من أهل الخير أن يجعلوا أعمالهم خالصاً لوجه الله ، وأن يرجو الثواب منه وحده لا شريك له ،  " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة به أحدا " [الكهف110]وفى الحديث " أن الله عز و جل يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز و جل فإن الله لا يقبل إلا ما أخلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء "[7] وقد أثنى الله تعالى على عباده الأبرار الذين  محضوا نياتهم لله وحده  ، وقدموا صنائع المعروف مجردة من كل غرض يخدش النية ، فقال سبحانه وتعالى : (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)[الإنسان8-9] فالآية الكريمة تعبر عما علم الله في قلوب هؤلاء من نيات صافية، ومشاعر نقية ؛ وليس المقصود أنهم يقولون ذلك بألسنتهم؛ لأنه يحرج الفقراء ، والإحراج أذى ، والأذى محظور شرعا .         فينبغي للمؤمن أن يفعل خيره ويقدم جميله بدافع العشق لصنائع المعروف ، وابتغاء مرضاة الله و مثوبته، و ألا ينتظر أن يشكره الناس على معروفه أبدا ، بل يتوقع أن يحقد عليه الناس ، وينسوا ما  قدمه لهم من فضل ومعروف ! وأن يعاملوه على نحو ما ذكر الشاعر:                     
إنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بهَا فَرَحاً ... مِنِّي ومَا سمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
                   صُـمّ إذَا سَمِعُوا خَيراً ذُكِرْتُ بِه ... وإنْ ذُكِرْتُ بِشَرٍّ عِنْدَهُمْ أذِنُـوا
والإسلام الحنيف - أيها الإخوة- حريص كل الحرص على تحرير  القلوب من قيود الأغراض والمآرب  ؛ لتتجه  إلى فعل الخير بدافع الحب له ،  دون نظر إلى مدائح الناس ، أو تطلع إلى نيل منزلة بينهم ، قال عبد الله بن عباس: " إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل فأحبه ولعلى لا أقاضى إليه أبداً!!. وأسمع بالغيث يصيب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به وليس لى به سائبة ولا راعية!!. وآتى على الآية من كتاب الله فأود لو أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم ". هكذا ينبغي أن يكون المؤمن محبا لانتشار الحق والخير والعلم ، ويفرح من أعماق قلبه لو استمتع الناس بما في ذلك من خيرات و بركات ، ولو لم يمسه من ذلك نصيب .
الخاتمة
أيها الإخوة : خلاصة الخطاب  :
-    أن المؤمن عليه أن يمحض نيته لله تعالى ، وأن يكون دافعه لفعل الخير حبه للخير وطمعه في مثوبة الله في الدنيا والآخرة  ، وألا ينتظر الشكر أو الجزاء من أحد .
-       وأن من جرد نيته لله فلن يحرم الجزاء على معروفه ولن يخزيه الله أبدا ، وليكن شعاره في ذلك :
أزرع جميلا ولو في غير موضعه ...  فلن يضيع جميل أينما زرعا
 -   أن من أسدي إليه معروف ينبغي أن يكافئ عليه  و يشكر صاحبه ويثني عليه الثناء الجميل ،  فإن لم يجد ما يكافئ به فليدع لصاحب المعروف ، عملا بقوله -  صلى الله عليه وسلم - "من اصطنع إليكم معروفاً فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له"
-    وأما نكران الجميل فهو خلق دنيء لا يتسم إلا أوغاد الناس وأراذلهم ، وهو من أبرز أسباب الخزي والمذلة والهوان ،  ثم أنه يعتبر جحودا لنعمة الله لقوله -  صلى الله عليه وسلم – " ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله "
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الهوامش

[1] أخرجه مسلم في صحيحه رقم ((7028))
[2] أخرجه الطبراني في الكبير رقم ((8014))
[3] أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (29 ))
[4] أخرجه البيهقي الكبرى رقم ((12388))
[5] أخرجه البيهقي في الكبرى ((11813))
[6] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ((9119))
[7] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ((6836))

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق