......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

‏إظهار الرسائل ذات التسميات خطب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خطب. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 24 يونيو 2013

أضواء من حياة معاذ بن جبل ( رضي الله عنه )



الحمد لله حق حمده ، الحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله  ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .  
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين"(التوبة: 119) 
أما بعد / فيا أيها الإخوة الكرام : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً - أي: هدفاً للسباب والشتام- فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد أذاني، ومن أذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " ( رواه البخاري في التاريخ الكبير (5/131) دعونا أيها الإخوة لنعيش في هذا اليوم المبارك لحظات مع نجم من أولئك النجوم ، مع صحابي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم نجوم ...وقد جاء في الأثر : " أصحابي كانجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم "(رواه ابن عبد البر في جامع العلم 2 / 91) . ونجم هذا اليوم هو سيدنا معاذ بن جبل بن أوس الأنصاري الخزرجي ، أسلم رضي الله عنه وهو ابن ثماني عشرة سنة ، وكان أحد الستة الذين حفظوا القرآن في عهد الرسول الكريم ، وكان أعلم الناس بالحلال والحرام ، شهد بيعة العقبة وبدراً وكل المشاهد مع رسول الله ، لزم النبي صلى الله عليه وسلم منذ هجرته إلى المدينة ، وروى عنه الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة. 
أيها الإخوة المؤمنون : حياة هذا الصحابي الجليل مليئة  بالمواقف الطيبة والخصال الحميدة ، و حسبنا في هذا الخطاب أن نستعرض بعض المحطات من مناقبه الشريفه وخلاله النبيلة ؛  لنتستلهم منها العبر والدروس ، ونتخذ منها نبراسا مضيئا في واقع حياتنا :
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك ذات يوم يده الطاهرة الشريفة في يد معاذ وقال له { يا معاذ ! والذي نفسي بيده إني لأحبك ، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك شكرك وحسن عبادتك " أعظم هدية يهديها المحب لمن يحب أن يسدي له نصيحة تنفعه في دينه ودنياه ،  والنبي لما كان يحب معاذا أهدى له هذه النصيحة الغالية ، وما أعظمها من نصيحة ! (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (رواه أبو داود) وذلك بعد كل صلاة حيث يكون الدعاء مستجابا ، و ما أحوجنا نحن اليوم إلى المداومة على هذه الدعوات المباركات ؛ لأننا إذا لم يعنا الله فلا معين لنا ؟ و إذا لم يساعدنا الله فمن سيساعدنا ؟ وإذا لم يهدينا الله فمن سيهدينا ؟ ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا )
اثانيا: أن معاذا  سافر مرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وكان رديفاً له صلى الله عليه وسلم ، فسأله سؤالاً عظيما فقال: "يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار "  هذا سؤال العظماء النبلاء  الذين يريدون الله والدار الآخرة  !!!  فهو لم يسأل إمارة ولا منصباً و لا  أرضاً و لا أي شيء آخر  من أمور الدنيا الزائلة ....!!! بل سأل ما يقرب إلى الجنة ويباعد عن النار .
فأجابهم الحبيب صلى الله عليه وسلم ، قائلا: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: والصوم جنه -أي: وقاية من النار- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [السجدة:16] ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلك يا معاذ على ملاك ذلك كله ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا، وأخذ بلسان نفسه، فقلت: يا رسول الله! أئنا لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ  وَصَحَّحَهُ ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى)إنها لوصية جامعة مانعة ، اشتملت على كل الوسائل المقربة من الجنة والمباعدة من النار ، أعاننا الله وإياكم على تلك الوسائل ، وأعاذنا الله وإياكم من النار ...........
ثالثا: ذات يوم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ: " كيف أصبحت يا معاذ ! قال: أصبحت مؤمناً حقاً يا رسول الله! قال: إن لكل قول حقيقة ، فما حقيقة إيمانك، قال: والله ما خطوت خطوة إلا وكأن الموت يصرعني قبلها، والله ما أصبحت وأنا أنتظر المساء، وما أمسيت وأنا أنتظر الصباح، وكأني بعرش الرحمن بارز على رؤوس الناس يوم القيامة، وكأني بكل أمة جاثية، كل أمة تدعى إلى كتابها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: عرفت فالزم"
فحقيقة الإيمان : أن تتذكر الله وتتذكر لقاءه والوقوف بين يديه ، فتخلص في عملك فتؤديه بصدق وأمانة ، فلا ترائي ولا تخادع .. و لا تغش ولا تخون ..  ولا تماكس و لا ترابي ولا تناجش .. لأنك تعلم أن الله يراك في سائر الأحوال ، وأنك إليه راجع لا محالة ..وسيسألك عن  اعمالك كلها... هكذا عاش سيدنا معاذ ، بل وجميع الصحابة الكرام ...و هكذا ينبغي أن نعيش نحن إن كنا نريد الله والدار الاخرة....

رابعا: عاش سيدنا معاذ ثلاثا وثلاثين سنة ، قضاها كلها في نشر العلم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ..... ثم أصابه مرض الطاعون ، فخرج إلى الناس ورفع يده قالا: "اللهم إنك تبارك في القليل .. اللهم بارك في هذا الجرح ، اللهم ارزقني شهادة بالطاعون، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطاعون شهادة لكل مسلم " وعاد إلى بيته ومضت تلك القرحة تلتهم جسمه ، وهو يستقبلها بالابتسامة والرضا بقضاء الله وقدره ؛ لأن حب الله إذا رسخ في القلب هانت معه مصائب الدنيا بأجمعها ..
وفي الصباح قال لابنته : اخرجي فانظري هل طلع الفجر؟ فنظرت فقالت: لم يطلع بعد ، فعاد فاستغفر الله كثيراً وقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صباحها إلى النار، ثم قال: يا بنية ! اخرجي فانظري هل طلع الفجر؟ فنظرت فقالت: طلع الفجر، فصلى في مكانه ، ثم التفت إلى زوجته وأبنائه ، ثم قال: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور، وإنما كنت أحب الحياة لظمأ الهواجر، ولقيام الليل ، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ثم قال للموت: مرحباً بك، حبيب جاء على فاقة.. غداً ألقى الحبيب محمداً صلى الله عليه وسلم ، وذهب معاذ إلى الله ، إلى الدار التي بناها في الحياة الدنيا ، ذهب إلى القصور التي بناهل بالعلم والدعوة والجهاد....
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنــــيها
فـإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيـــــــــــــــها
أمــــوالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنــــــــــيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فـــاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانــــيها
قصـــــورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فـــــيها
فيا من يريد الله والدار الآخرة: اعمل كعمل معاذ بن جبل واسلك طريق معاذ ، وتذكر يوم أن تأتي الله مجرداً من كل قوة ، فلا منصبا ولا وظيفة .. ولا مالا ولا ولدا... ولا جاها ولا سلطانا... "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" [الأنعام:94].
عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة المذبة بتقوى الله عز وجل ، فاتقوا الله حق تقواه وراقبوه مراقبة عبد يعلم أن الله يراه ، واعلموا أنكم من الدنيا راحلون ، وإلى الله راجعون ، وبين يديه موقوفون ، وعن أعمالكم محاسبون ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، ولا يظلم الله أحدا من العالمين . اللهم صل وسلم و بارك على سيدنا وحبيبنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
جعلني الله وإياكم من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



الأحد، 16 يونيو 2013

فضائل شعبان


الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، شهادة نستعد بها إلى يوم لقائه يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، أرسله الله على فترة من الرسل وحاجة من البشر ، فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة ، وفتح به آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا ، وما فارق الدنيا عليه الصلاة والسلام حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه  أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران 102)
هنيئا لكم أيها المؤمنون بإدراككم لشهر شعبان المبارك ، وإن كثيرا من الناس ليغفلون عن فضائل هذا الشهر ، وإنه لشهر كثير الخيرات ، عظيم البركات ، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: " لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ فقال : " ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه ، بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (رواه النسائي) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " وما رأيته - أي النبي صلى الله عليه وسلم - في شهر أكثر صياما منه في شعبان" ( رواه البخاري ومسلم )
فمن خلال ما تقدم من النصوص يتبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصيام في هذا الشهر، و قد بين الحكمة من ذلك ، وهي :
 أن شهر شعبان ترفع فيه الأعمال وتعرض على رب العباد ، ثم انه شهر يغفل الناس عنه .
وإنما يغفل الناس عن شعبان لأنه جاء بين شهرين عظيمين ، الأول : شهر رجب وهو شهر حرام.
والثاني: شهر رمضان وهو شهر الصيام والقيام .
 فاشتغل الناس بهما عن شعبان ، فصار مغفولا عنه ، حتى أن كثيرا من الناس ليظنون أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان ، باعتباره من الأشهر الحرم ، و ليس ذلك بصحيح ، فإن صيام شعبان أفضل من صيام رجب للحديث المتقدم .
ومن أهم ما يستفاد من هذا الحديث الشريف :
1- استحباب القيام بالطاعة في وقت الغفلة ؛ لأن العمل فيه يكون أسر و أخفى ، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل من الجهر بها لا سيما الصيام ، فإنه سر بين العبد وربه ، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء ، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد ، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان ، فيتصدق بهما ويصوم ، فيظن أهله أنه أكلهما في سوقه، ويظن أهل سوقه أنه أكلها في بيته.
2- أن القيام بالطاعات في وقت غفلة الناس عنها يكون اعظم أجرا ؛ لكونها أشق على النفوس ، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس بشرط موافقتها للشرع ، وفي الحديث :"إن لك من الأجر على قدر نصبك و نفقتك"( أخرجه البخاري في صحيحه رقم1695 ).
والنصب هو التعب و المشقة ، وبقدر ما يكون التعب يكون الأجر ، إن قل قل و إن كثر كثر.
ولكن لماذا تكون الطاعات في وقت غفلة الناس شاقة و صعبة  على النفوس؟  والجواب واضح : وهو  أن النفوس تقتدي بغيرها ، فإذا رأت كثرة القائمين بالطاعة  سهل عليها القيام بالطاعة .
وأما إذا كثر الغافون عن الطاعات فانه يشق على النفوس المتيقظة أن تقوم بالطاعة لوحدها ، لقلة من يُقتدى أو يستعان به  في مثل هذه الأوقات المغفول عنها ، ولهذا كان المؤمن ضعيفا بنفسه قويا بإخوانه ، ولأجل ذلك  قال صلى الله عليه وسلم في شأن الغرباء في آخر الزمان: " للعامل منهم أجر خمسين منكم - أي من الصحابة - إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون" فالعلة في عظم أجر هؤلاء الغرباء ، أنهم لا يجدون على الخير أعوانا ؛ لأن أكثر الناس عن أعمال البر غافلون . 
ولهذه المعاني المتقدمة وغيرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام في هذا الشهر المبارك ، ويغتنم وقت غفلة الناس وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر !!
 و على هذا الدرب درج  الصالحون  فكانوا يجدّون في شهر شعبان ، ويتهيئون فيه لرمضان .
-  فهذا عمرو بن قيس كان إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القران .
- وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء .
- وقال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع ، وشهر شعبان شهر سقي الزرع ، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع ، فمن لم يزرع ويغرس في رجب ، ولم يسق في شعبان فماذا سيحصد في رمضان ! ؟
أيها المؤمنون : ها هو شهر رجب قد مضى وأقبل عليكم شعبان ، فما أنت فاعلون فيه إن كنت تريدون رمضان ! ؟
 فشعبان هو شهر الاستعدادات الروحية والإيمانية لرمضان..
وقد أكرمكم الله فيه بليلة هي موسم لاستجابة الدعاء ومغفرة الذنوب :
- فقد روى الإمام الشافعي في كتابه الأم ، قال : " وبلغنا أنه كان يقال : إن الدعاء يستجاب في خمس ليال، في ليلة الجمعة ، وليلة الأضحى ، وليلة الفطر ، وأول ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ....( قال الشافعي ) : وأنا أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي من غير أن يكون فرضا "
- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" (رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح)
وهذا الحديث يشير الى قضية اخرى من الاهمية بمكان وهي : انه لا فائدة  من صيام شعبان إذا ما كانت القلوب مظلمة بالشركيات والشحناء والأحقاد ....
ولهذا فان المطلوب منا - ايها المؤمنون - أن نتخذ من هذا الشهر المبارك فرصة لمراجعة أنفسنا ، بتصحيح اعتقادنا وتصفية قلوبنا ، ومضاعفة الأعمال الصالحة من صيام و صلاة وصدقة...عسى أن تعرض أعمالنا على الله ونحن صائمون ، ولعنا نحظى بمغفرة ذنوبنا في ليلة النصف من هذا الشهر و يستجيب الله فيها لدعواتنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (الشورى 26)
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأستغفر الله لي ولكم ولمجميع المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .



الخميس، 30 مايو 2013

خمس وصايا للممتحنين



محامد
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، شهادة نستعد بها إلى يوم لقائه يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، أرسله الله على فترة من الرسل وحاجة من البشر ، فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة ، وفتح به آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا ، وما فارق الدنيا عليه الصلاة والسلام حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه  أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد /
مقدمة
أيها الإخوة المؤمنون : في هذه الأيام سيقبل أبناؤنا وبناتنا على امتحانات  الباكلوريا  ، وسيُمتحنون ويختبرون فيما حصلوه من معارف و علوم ، وستُوَجَّهُ إليهم أسئلة  لا يعرفون مضمونها على وجه التحديد ، لذلك قد يفاجئون بها أثناء الاختبار ، ولهذا كان لهذه الاختبارات هيبةً في نفوس الطلاب ، و في نفوس آبائهم وأمهاتهم على حد سواء ، ونسأل الله تعالى أن يوفق جميع أولادنا للنجاح .  
وبهذه المناسبة الهامة نوجه لأولادنا بعض الوصايا سائلين الله تعالى أن ينفعهم بها وجميع المؤمنين والمؤمنات.
الوصية الأولى : تقوى الله مفتاح النجاح
وأول ما نوصي به أبناءنا وبناتنا أن يتقوا الله عز وجل فيما أمر ونهى ، فإن تقوى الله هي مفتاح النجاح في الدنيا والآخرة ، " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" وقال تعالى : " واتقوا الله ويعلمكم الله وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (البقرة:282) فتحقيق التقوى سبب للحصول على العلم المعرفة ، قال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى): وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه ، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه ، وقد يجعل في قلبه ابتداء فرقاناً أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل ، ومنه قوله تعالى: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " (الأنفال:29) فلنجعل من هذه المناسبة فرصة للاصطلاح مع الله تعالى ،  فإنه لا معلم إلا الله ، و لا مثبت إلا الله ، و لا مسدد إلا الله ، ومن أيده الله فلا خاذل له ، ومن خذله الله فلا مؤيد له ، و من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة.
ومن أعظم الآفات التي تذهب أنوار العلم والمعرفة الوقوع في المعاصي والمخالفات الشرعية ، كما قال الشافعي رحمه الله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي **  فأرشدني إلى ترك المعاصي
 واخبـــرني أن العـــلم نــــور **  و نور الله لا يُعـــطى لعاصي
الوصية الثانية : الإيمان بقضاء الله وقدره يمنح القوة والشجاعة
ومما نوصي به أولادنا أن يقووا إيمانهم بقضاء الله وقدره ، وهو أنَّ يعلموا أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وأنَّ ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ، وأنهم لو فَعَلوا ما فَعَلوا فلن يَغيروا  قضاء الله وقدره ، لأنه لا يمكن لأحد أن يفعل خلاف ما قدَّرَ الله . والإيمان بالقضاء والقدر من شأنه أن يمنحهم القوة والشجاعة ؛ فيتوجهون إلى مقاعد الامتحان بثقة وعزم وثبات ، غير مترددين ولا خائفين ، موقنين بأن ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن .
 وليس معنى ذلك أن يتواكلوا ويتركوا تقديم الأسباب ، كلا  ثم كلا ! فالمؤمن يقدم ما استطاع من أسباب ، ويعد ما استطاع من قوة ، ثم يتوكل على الله وحده ، ويطلب منه العون والمدد ، فإن حقق مراده فبها ونعمت ، وإن خفق رضي بقضاء الله وقدره ، وقال حينئذ: ( قدر الله و ما شاء فعل ) وفي الحديث عن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام : " المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان " (رواه ابن ماجه في سننه ج1/ص31 حديث رقم  79)
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، فَابْلُ مِنْ نَفْسِكَ الْجَهْدَ ، فَإِنْ غُلِبْتَ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " (أخرجه أحمد في مسنده  6 / 24 / 24483 )
الوصية الثالثة : الدعاء من أقوى أسلحة النصر
ومما نوصي به في هذا المقام : الاستعانة  بالدعاء فإنه من أنفع الأدوية وأقوى الأسلحة ، وعلى الآباء والأمهات أن يعينوا أولادهم بالدعاء أيضا ، فيدعون الله تبارك و تعالى أن يلهمهم و يسدد إجابتهم ، فالله تعالى بقول : " وقال ربكم ادعون أستجب لكم " وقال تعالى : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان "
ومن شروط إجابة الدعاء :
الإِخلاصُ للهِ رب العالمين - وأَن يَبْدأ في دعائه بحمدِ اللهِ والثناءِ عليه ثُمَّ بالصلاة على النَّبِّي ويختم بذلك – وأن يجزم في الدُّعاءِ ويوقن بالإجابةِ – و أن يلح في الدُّعاء فيكرره في تذلل وتضرع وخشوع  - وألا يستعجل فلا يقل دعوت فلم يستجب لي فيترك الدعاء فيهلك - و ألا يسأل إلا الله وحدهُ .
الوصية الرابعة :  الغش من اكبر انواع الفساد
والحذرَ الحذرَ من أساليب الغش ، فإن الغش ليس من أخلاق المسلمين لقوله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " من غشنا فليس منا والمكر والخديعة في النار" (رواه ابن حبان في «صحيحه) " فهذا الحديثُ دليلٌ قوي على تحريم الغِشِّ بجميع أنواعه ، وأنَّ الغاشَّ مخالفٌ لأمر النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديْه ، وأنَّه خارجٌ عن صفات المسلمين وهديهم .
والغاش لا يمكن أن يحقق نجاحا أبدا ، فهو وإن أجاب إجابة صحيحة عن طريق الغش ، إلا أنه ستدور عليه الدوائر ولو بعد حين ، و هذا أمر مؤكد لا ريب فيه ، يصدقه الواقع التاريخي للغاشين ، وتدل عليه – أيضا - عموم النصوص الشرعية الكثيرة ، منها :
- قوله تعالى : " إن الله لا يهدي كيد الخائنين " والغش خيانة .
- وقوله تعالى : " إن لله لا يصلح عمل المفسدين " والغش من أكبر أنواع الفساد ، وأي فساد أكبر من :
أن يكون طبيبنا مزور ، ومعلمنا مزور ، وإمامنا مزور ، وقائدنا العسكري أو السياسي مزور ، ومهندسنا مزور...... ؛ لأنهم  تأهلوا - جميعا -  لهذه المهام  عن طريق الغش ، فالجيل الذي يدير ويسير شؤون الأمة اليوم سينتهي بعد حين ، وهؤلاء الممتحنون هم الذين سيخلفون هذا الجيل في تسيير مختلف مؤسسات الأمة ، وكيف سيكون مصير أمة إذا يتولى زمام أمورها  شرذمة مزورون ؟ !
لهذا يجب على العاملين في المؤسسات التربوية والقائمين على الامتحانات من مراقبين وغيرهم أن يضربوا بيد من حديد على الغش وأهله ، وألا تأخذهم في ذلك لومة لائم ، ومن سمح للغش فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين.
الوصية الخامسة : تذكروا بامتحان الدنيا امتحان الآخرة
وأخيرا : علينا أن نتذكر بامتحان الدنيا امتحان الآخرة ، وما ابعد امتحان الدنيا عن الآخرة امتحان.
- فامتحان الدنيا موضوعه جزء من كتاب في ورقاتٍ معدوداتٍ ... ، وفي مجالٍ معين من مجالات الحياة .
أمَّا موضوع امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، فالصغائر مسجلة به ، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه ، في ذلك الامتحان ستنشر الفضائح ، وتظهر القبائح ، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان ، تحت ركام الغفلة والنسيان ! ( يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كلِّ شيء شهيد )
- الأسئلة في امتحان الدنيا محدودة في بعض مفردات الكتاب ، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج الدراسي ، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها ، ولعلَّه يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام مساعدةً له وتيسيراً عليه.
أما امتحان الآخرة فالأسئلة فيه شاملة  لكل جوانب الحياة ، عن الأفعال والأقوال .. عن النيَّات والأموال .. عن المعتقدات والأوقات .. عن المظالم والأمانات..وعن أطوار العمر كله ، قال صلى الله عليه وسلم ، :" لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عند ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس : عن عُمرِه فيما أفناه ، وعن شَبابِه فيما أبلاه ، وعن مالِه من أين اكتسَبَه وفيما أنفَقَه ، وماذا عمِلَ فيما عَلِم "( أخرجه الترمذي  في سننه عن ابن مسعود رقم 2418 و 2419 وقال حسن صحيح.)
وصدق القائل :
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا ..... لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا ..... ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ
فاتقوا الله يا عباد الله واستعدوا لامتحان الآخرة بالعقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة الموافقة لكتاب الله و سنة رسوله ، وإياكم وحقوق العباد ، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحنة .
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المؤمنين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا و مولانا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .



الثلاثاء، 7 مايو 2013

العمل عبادة



الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد /
إن الله سبحانه خلقنا لأجل عبادته ، فقال تعالى : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات56) والعبادة لا تنحصر في إقامة الشعائر التعبدية المعهودة، من صلاة وصيام وحج و زكاة فحسب.... بل لها مفهوم أوسع من ذلك بكثير، فهي تشمل  العبادات المذكورة ، كما تشمل كل عمل تعود منفعته على العامل نفسه أو على أهله أو مجتمعه و وطنه ... فالسعي لطلب الأرزاق هو الآخر عبادة جليلة ، متى توافرت فيه الشروط  وانضبط بالضوابط الشرعية التي سنبينها بعد حين.
 كانَ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا مَعَ أَصْحَابه ذَات يَوْم ، فَنظر إِلَى شَاب ذِي جلد وَقُوَّة وَقد بكر يسْعَى، فَقَالُوا: وَيْح هَذَا، لَو كَانَ شبابه وَجلده فِي سَبِيل الله ، فَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم "لَا تَقولُوا هَذَا، فَإِنَّهُ إِن كَانَ يسْعَى عَلَى نَفسه ليكفها عَن الْمَسْأَلَة ويغنيها عَن النَّاس فَهُوَ فِي سَبِيل الله! وَإِن كَانَ يسْعَى عَلَى أبوين ضعيفين أَو ذُرِّيَّة ضِعَاف لِيُغنيَهُمْ ويكفيهم فَهُوَ فِي سَبِيل الله، وَإِن كَانَ يسْعَى تفاخرا وتكاثرا فَهُوَ فِي سَبِيل الشَّيْطَان"[1]
والشاهد في هذا الحديث أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم اعتبر الساعي على نفسه أو عياله خارجا في سبيل الله ، ومن ثم فكل من خرج لأداء عمله فهو في عبادة ، أيا كان كان عمله ؟
فالمعلم في مدرسته ، والطبيب في مخبره، والطيار في جوه ، والغواص في بحره ،  والمرأة في خدمتها لزوجها وتربيتها لأولادها ، والتاجر والفلاح والبناء وطالب العلم ..كل أولائك في عبادة .
والإسلام  يدعو إلى العمل و يمجده ويعتبره سبيلا لنيل المغفرة والظفر بمحبة الله تعالى ،  قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم : " من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له "[2] . وقال أيضا : " إن الله يحب المؤمن المحترف"[3]
والإسلام مع حظه على العمل ، فإنه يذم البطالة والعيشَ عالة على الغير ، قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم  " لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه "[4].
وقال أيضا : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَةُ (قطعة) لحم"[5] .
لكن ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في العمل حتى يمكن اعتباره عبادة يؤجر صاحبها ؟
1-    الإخلاص . لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم : "إنما الأعمال بالنيات .."[6]
2- المشروعية. لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم : " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.. "[7] . فالذي يتاجر في المحرمات -مثلا - عمله ليس عبادة بل هو معصية .
3- الإتقان. لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه "[8] . فالذي يغش في عمله مأزور غير مأجور .
4- ألا يشغله عمله عن أداء الواجبات. لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله .." (المنافقون) . فلا خير في عمل يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة ، وغير ذلك مما افترضه الله على عباده . فهذه هي أهم الشروط التي إذا توافرت في العمل كان عبادة يستحق صاحبها المثوبة من الله تعالى .
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1] أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي معاجمه الثَّلَاثَة من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة بِسَنَد ضَعِيف.
[2] أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث ابْن عَبَّاس
[3] أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي وَضَعفه من حَدِيث ابْن عمر.
[4] رواه البخاري.
[5] متفق عليه .
[6] متفق عليه
[7] رواه مسلم.
[8] أخرجه الطبراني في الأوسط  رقم 897.


الخميس، 25 أبريل 2013

سلامة الصدر طريق إلى الجنة




الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الصادق الوعد الأمين ، صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين / أما بعد:
 أيها الإخوة المؤمنون : إن خطاب اليوم يحمل بشرى عظيمة لطلاب الجنة وعشاقها ، جعلني الله وإياكم من أهلها و سكانها .
 وذلك أن الرسول صلى اللهُ عليه وسلم كان جالسا ذات يوم مع أصحابه فقال لهم : " يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة "[1] و لا شك إن رجلاً تسبقُه البشارةُ إلى الجنةِ في الدنيا لهو حريٌُُ وجدير أن تشتاقَ  الأبصارُ إلى رأيتِه ، وتتلهفَ النفوسُ إلى لقائه .. و فجأة يدخلُ ذلك الرجل ! فإذا هوَ رجلُ  منهم ، يعيشُ بينَهم يعرفهم يعرفونَه ، ولكنهم لم  يكونوا يعلمون حقيقته ، فيخبرُهم النبيُ صلى اللهُ عليه وسلم  أنه من أهل الجنة . وفي اليوم الموالي  دفعَ إليهم النبيُ صلى اللهُ عليه وسلم الخبرَ ذاتَه قائلا: " يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة " و هنا يتساءل الحاضرون: أما الأول فقد عرفناه ، فمن سيكون المبشر الثاني يا ترى  ؟ ولم يطل الانتظار ، حتى دخل الرجلِ المبشر بالجنة ، فإذا هو صاحبُهم الذي دخل بالأمس . وفي اليوم الثالث يأتي ذلك الرجل وتأتي معَه البشارةُ أيضا: " يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة " فيدخلُ الرجلُ نفسه بهيئتِه التي دخل بها أول مرة ، تقطرُ لحيته ماءً من أثرِ الوضوء، وأطرافُه مبللةُ بالماء ، وقد أمسكَ نعلَه بشمالِه.
إن رجلاً يُبشرُ بالجنةِ ثلاثَ ليالٍ متعاقبة ، ويُخبرُ الصحابةَ قبل دخولِه بأنَه يدخلُ عليهم رجلُ من أهلِ الجنة  ، إن رجلا هذا شأنه  لحريُ أن يُقتصَ خبرُه ثم يُقتفى أثرُه ، وكم نحن مشتاقون إلى أن نتعرف على هذا الرجل ، لعلنا نحذو حذوه فننال ما ناله من البشارة بالسعادة السرمدية .
وجزى الله عبد اللهِ بنَ عمرو بنِ العاصِ رضي الله عنهما، إذ ذهبَ إلى ذلك الرجل ليطلع على أعماله التي أوصلته إلى هذا المقام ، فذهب إليه فقال له: (إني قد تخاصمتُ مع أبي فأقسمتُ أن لا أدخلَ عليهِ البيتَ ثلاثا، فإن رأيتَ أن تأوينِ عندك هذه الأيامَ الثلاثةَ ) . فرحبَ به الرجل  وآواه وأكرمَ مثواه، وباتَ عبد اللهِ أبن عمروٍ عند ذاك الصحابي يراقبُه ويتأمل حالَه ويترصدُ أفعالَه ، فوجده يأوي في الليلِ إلى فراشِه فينام الليل كله ، وكان عبد الله بن عمرو يظن أن هذا الرجل يبيت قائما راكعا وساجدا ، إلا أنه لم ير شيئا من ذلك ، ولم ير أي شيء يلفتُ الانتباه ، غير أن هذا الرجل كان كلما تقلبَ في فراشِه ذكرَ الله ، وكلما أفاقَ من نومِه ذكرَ الله ، فأنتظرَ عبد الله ليلةً ثانية ، وليلةً ثالثة فلم ير عملا بارزا يعتد به .
فلما انقضت الليالي الثلاث، أقبلَ عليِه عبدُ الله قائلا: يا أخي : إنَه لم يكن بيني وبين أبي خصومةُ ، ولكن رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم أخبرنا ثلاثةَ أيامٍ متعاقبةٍ أن رجلا من أهلِ الجنةِ يدخلُ علينا من الباب ، فكنتَ أنت الداخل في كلِ مرة ، فأردتُ أن أبيتَ عندَك لأرى عملَك ، لأرى بأي شيءٍ نلت هذه المنزلة. غير أنني لم أر شيئا ، فأخبرني بما نلتَ ذلك ؟
قال له الرجل : ما هو إلا ما رأيت ، فلما انصرف عبد الله ناداهُ الرجل فقال تعال ، ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيتُ حين أبيت فلا أبيتُ وفي قلبي غشُ على أحدٍ من المسلمين ، ولا أحسدُ أحدا من الناسِ على خيرٍ آثرَه اللهُ به. فأنصرفَ عبدُ اللهِ أبن عمرو وهو يقول:(أما إن هذه هي التي بلّغتك وهذه هي التي لا نُطيقُها ) عبد الله يقول هذا في زمانه هو ، زمن النبوة ، فمن يطيق في ذا الزمن  أن يأوي إلى فراشه بقلبٍ سليم ليسَ فيه غشُ لأحدٍ من المسلمين، وهو ينظرُ إلى نعمِ الله على عبادِه فيفرح بها ويتمنى دوامها  فلا يحسدُ منهم أحدا ! من يطيقُ ذلك ؟ هذا مقام رفيع ما يلقاه إلى ذو حظ عظيم . أيها الأخوةُ المؤمنون:إنها قصة مؤثرة ، وإنه لمشهدُ عجيبُ، قصة هذا الرجل الطيب ، السليم القلب ، الذي يطوي صدرَه على قلبٍ صافٍ كالزجاجة ، ليسَ فيه غلُ ولا حسدُ ولا غشُ ولا شحناءُ ولا بغضاء ، قلب صافٍ مصفى قد أُسلمَ لله رب العالمين . إن هذه القصة تتضمن فوائد جليلة النفع ، وجديرة بالتأمل :
فإن هذا الرجل كان يتعبدُ لله بتطهيرِ قلبِه ، وتصفيةِ فؤادِه ، ونقاء سريرته ؛ فنال البشارة بالجنة. ذلك لأن القلب هو ملكُ الأعضاء ، و في الحديث الشريف : " ألا إن في الجسدِ مضغةُ إذا صلحت صلحَ الجسدُ كلُه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُه، ألا وهي القلب "[2] فإذا صلح القلب صلحت سائر الأعضاء ، وإذا عمي القلب وانطمست بصيرته لم تغن أعمال الجوارح عن صاحبها شيئا . " فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"
إخوة الإيمان : ونحن نسرد هذه القصة لنأخذ منها العبرة ، حري بنا أن نسأل أنفسنا بصدق وصراحة : هل تفقدنا قلوبناَ من أمراض الاستعلاء والكبر والغرورِ والعُجب ؟! وهل تفقدنا قلوبَنا من شهوةِ الرياءِ وحبِ الظهور ؟ِ! وهل تفقدنا قلوبَنا من آثمِ الحسدِ والحقد و البغضاء ؟! وغيرِ ذلك من خطايا القلوبِ التي تذهبُ فضلَ الصيامِ وثوابَ القيام ، وتأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطب. وقد بلغنا قوله صلى اللهُ عليه وسلم : " لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من كبر"[3] . وقوله صلى اللهُ عليه وسلم " ثلاثُ مهلكات ؛ شحُ مطاع، وهوىً متبع، وإعجابُ المرءِ بنفسِه"[4] . وقوله صلى اللهُ عليه وسلم :" دبَ إليكم داءُ الأممِ قبلَكم ؛ الحسدُ والبغضاء هي الحالقَة، لا أقولُ تحلقُ الشعرَ ولكن تحلقُ الدين"[5] .
وما أكثر النذر في كتابِ الله وسنةِ رسولِه التي تحذر من خطايا القلوب وتنذر بالوعيدِ عليها.
وإن القضيةَ أيها الأخوةُ قضية جد لا هزلَ فيه ، فإننا أمامَ أمراضٍ قلبيةٍ مدمرة ، وآفاتٍ خطيرة .... ولا يكمن الخطر في هذه الأمراض بذاتِها فحسب ، بل الخطرُ الأكبر أن يتآلفُ الإنسان مع هذه الخطايا والأمراض القلبية ، فلا يتفقدُها في نفسه ، ويدعها تسري في كيانه حتى  يصل إلى مرحلة يحاول فيها أن يبرر أمراض قلبه ، ويصطنعَ المعاذيرَ لنفسِه ، ويفتحَ لها طرق التهربِ من الاعتراف بالحقيقة ... لذلك ترى أصحاب العداوات والأحقاد النابعة عن الحسد ونحوه ، يحاولون أن يلبسوها لباسِ الصالح العام ، من تقويم الآخرين ، أو من إحياءِ لعلم الجرحِ والتعديل ... أو  غير ذلك من الأغطية المزيفة التي يخدع بها الناس أنفسهم........وإذا وصل أحد إلى هذه المرحلة فصل عليه أربعا لنهايته المرة ..فاللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة الدين والدنيا والآخرة . 
أيها الإخوة:  إن البراءةَ من هذه الخطايا ، وتطهيرِ القلوبِ من هذه العلل ، يفضي إلى الوصولِ إلى مرتبةٍ عظيمة ، تلكم المرتبة التي أدخلت ذاك الصحابيَ الجنة ، فيوم خبر عملُه إذا هو لم يتميز بعمل يذكر ، ولكنه تميز بقلبٍ صافٍ وضيءٍ ..  لذا قال النبيُ لأصحابه وقد سألوه يوما عن أي الناسِ أفضل ؟ فقال : " كلُ مخموم القلبِ صدوق اللسان ، قالوا يا رسول الله قد عرفنا صدوق اللسان، فما مخموم القلب؟ قال هو التقيُ النقي الذي لا أثم فيه ولا بغي ولا حسد"[6]
فانظـــــــــــــــروا : كيف أن براءة القلب من الإثمِ والبغيِ والحسد أوصلت صاحبها إلى مرتبةٍ شريفةٍ صار فيها من أفاضل الناس.
فاتقوا الله عباد الله وأحرصوا على سلامة صدوركم فهي طريقكم إلى الجنة ، وأكثروا من ذكرِه تعالى فهو حياة قلوبكم ، وأكثروا من تلاوة القرآن العظيم. فهو الدواء وهو الشفاء لمن أراد أن يأتي ربه بقلب سليم ، واقرؤوا إن شئتم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ...). ثم جاهدوا  أهواءكم كما تجاهدون أعداكم ؛ لتحملوا  أنفسكم على التجرد من حب الذات ، وتلزموها الإخلاص لله رب العالمين ، وهو جوهر النجاة ، واعلموا أن الله يعلم ما أنفسكم فاحذروه ، و واعلموا أن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسام ولكن ينظر إلى قلوكم فطهروا محل منظر الله ، واستغفروا الله  لي ولكم ولجميع المسلمين ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم . والحمد لله ب العالمين.   



[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/166) ، وعبد بن حُميد في المنتحب رقم (1157) ، والبغوي في شرح السنة رقم (3535).  والنسائي في الكبرى رقم (10633) ..........
[2] رواه البخاري في صحيحه رقم (52) ، ومسلم في صحيحه رقم (4178). من حديث النعمان بن بشير .
[3] رواه مسلم وأحمد.
[4] أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.
[5] رواه البزار رقم [2232 ] و الترمذي [رقم/2510]، وأحمد [167/1]
[6] رواه ابن ماجة رقم  6421