......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

السبت، 27 سبتمبر 2025

السيرة النبوية دستور شامل للحياة المرضية

 الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه الشرفاء، المستكملين الشرفا..

وبعد/ فإن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تسعد به النفوس، وتنشرح له الصدور، وتستمتع في ظله الخواطر.. وتستنير في رحابه البصائر..

فهو حديث عن أعظم قمة في تاريخ البشرية على الاطلاق، ولو اجتمع البلغاء والفصحاء على أن يأتوا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفوا به غليل السامعين، أو يطفئوا به لوعة المحبين، فلن يسستطيعوا لذلك سبيلا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؛ فما من شرف يذكر، وما من كمال ينعت، إلا ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر، والنصيب الأسمى.

فقد اصطفاه الله عز وجل من أفضل البشر، وأطهرهم معدنا، وأزكاهم نفسا، وأجملهم خَلْقا، وأعظهم خُلُقا، وأرقاهم أدبا، وجعله الله قدوة للإنسانية كلها، فقال تعالى: "لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ".

فهو صفوة منتقاة ، لا يُدانى في خلق ولا خلق كما قال سيدنا البصيري رحمه الله:

فاقَ النبيينَ في خلْقٍ وفي خُلُقٍ

            ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ

وكلهمْ من رسول اللهِ ملتمسٌ

       غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ

ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ يقول:

"لو أقيم سباق عام بين أصحاب المكارم والمواهب، لكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول السابقين فيه".

ولقد تفطن لهذه الحقيقة الدكتور الأمريكي مايكل هارت حينما صنف سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أول العظماء الخالدين في كتابه: [المائة الخالدون: أعظمهم محمد].

حيث جمع فيه مائة من العظماء عبر التاريخ، وصنفهم في القائمة حسب نجاحاتهم وإنجازاتهم، فوجد نفسه مضطرا من باب العدل والإنصاف أن يضع سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم في مقدمة العظماء الخالدين.

ونحن حينما ندرس سيرته صلى الله عليه وسلم فينبغي أن ننتبه الى حقيقة هامة، طالما كان ينبه اليها شيخنا البوطي رحمه الله، وهي أن دراسة سيرته صلّى الله عليه وسلم ليست من جملة الدراسات التاريخية، فليس شأنها كشأن الاطلاع على حياة الخلفاء أو العظماء أو الأمراء والسلاطين..

لأن سيرته العطرة صلّى الله عليه وسلم تعتبر دستورا جامعا وشاملا للمثل العليا وللحياة الفاضلة في كل شتى المجالات..

ففي سيرته صلى الله عليه وسلم نجد نماذج سامية:

-  للشاب المستقيم في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه..

-  وللداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بدافع الرحمة والشفقة على المدعوين..

-  وللمعلم الناصح المربي للأجيال بسلوكه وروائع أدبه..

-  وللزوج المثالي في حسن معاشرته..

-  وللأب في حنو عاطفته..

-  وللتاجر الصداق الأمين في معاملاته.

-  وللأجير المتقن لعمله المؤدي لحقوقه..

-  وللقائد العسكري في شجاعته وعبقريته..

-  وللسياسي المحنَّك في صدق نضاله..

-  وللحاكم العادل في حسن سياسته ورعاية مصالح شعبه..

-  وللمصلح الاجتماعي في مهارة إصلاح أوضاع مجتمعه..

 - وللمسلم الجامع بين روحانية التعبد، وبين المعاشرة اللطيفة مع أهله، والمعاملة الحسنة مع أصحابه والناس أجمعين...

فسيرته صلى الله عليه وسلم تضع بين أيدينا منهجا كاملا متكاملا للمثل العليا وللحياة الفاضلة في شتى المجالات...

كما أنها طريق قوي لفهم القرآن العظيم؛ لأن تصرفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الزكية وشمائلة العلية كلها كانت ترجمة واقعية تطبيقية للمنهج القرآني بواسطة القدوة الحسنة في الواقع والوجود، ولهذا لما السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم  قالت: "كان خلقه القرآن" .

أي كان صلّى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، والله تعالى حينما وصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بذات الوصف الذي وصف الذي به ، فقال تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم". وقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" .

وهذا يسمى في البلاغة بالتطابق أو التوافق والتماثل... ولم يذكر الله تعالى عبثا دون أن تكون له حكمة ودلالات، بل له تسفاد منه فوائد جمة، أهمها:

1-  أن من أراد أن يتعرف على حقيقة الشخصية المحمدية في أكمل صورها، فليقرأ القرآن بتأمل وإمعان .

3-  ومن أراد فهم القرآن فهما مترجما في واقع الحياة فليتأمل اخلاق النبي صلّى الله عليه وسلم التي مدحه بها ربه: "وإنك لعلى خلق عظيم".

3- أن سر عظمته صلى الله عليه وسلم - التي غير بها وجه التاريخ في في فترة وجيزة- عائد إلى أمرين:

أولهما: ما أكرمه الله به من الوحي: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم".

والثاني: ما أكرمه الله بها من محاسن الأخلاق: "وإنك لعلى خلق عظيم".

ومن هنا ندرك سر ثناء الله عى نبيه بمحاسن أخلاقه...

فلم يمدحه ربه بغزارة علمه، مع أنه صلّى الله عليه وسلم سيد العارفين، وقد قال عن نفسه: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية".

كما لم يمدحه بكثرة عبادته مع أنه صلّى الله عليه وسلم أول العابدين، وقد كان يقيم الليل حتى تتورم قدماه..

وإنما مدحه بحسن خلقه، لأن الأخلاق الحسنة لها سر عجيب وتأثير قوي في النفوس، فهي تعتبر أقوى وسيلة لتبليغ دعوة الإسلام إلى العالمين؛ حيث تجعل الناس ينجذبون إلى صاحبها وينقادون إلى دعوته بدافع المحبة، والتأثر بمحاسن اخلاقه، والإعجاب بروائع أدبه..  

كما قال أحد علماء الغرب المنصفين وهو يصف سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلم:

"وعلى شفيه ابتسامة حلوة، وفي فيه نغمة جميلة، كانت تكفي وحدها لتسحر سامعها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبا ".

فانظروا إلى قوله : "كانت تكفي وحده.."...

فكيف إذا أضيف إليه ذلك الكم الهائل، من شمائله الزكية وأخلاقه العليه!؟ كصدقه وأمانته، وحيائه وعفته، وحلمه وسعة صدره، وتواضعه وشجاعته، وشهامته وأنفته، ونظافته وحسن طلعته.. وعددوا ما شئتم من مناقبه...

فَإِنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ

            حَدٌّ فَيُعْرِبُ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

فهو كما قال واصفه:

بلغ العلى بكماله، كشف الدجى بجماله، حسنت جميع خصاله، فيا سامعين لمدحه صلوا عليه وآله..

فلقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون نبيه صلّى الله عليه وسلم متصفا بمحاسن الأخلاق منزها عن مساوئها؛ لتميل القلوب إليه، فيتحقق مقصود الرسالة، وذلك معنى قوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك" .

فلو كان صلّى الله عليه وسلم - وحاشاه أن يكون – إنسانا سيء الخلق لنفر منه الناس من حوله، ولو نفر الناس من حوله لتعطل الغرض من البعثة ولفات المقصود من الرسالة، وهذا محال؛ لأنه يناقض إرادة الله، فوجب عقلا ان يكون صلّى الله عليه وسلم متسما بمحاسن الأخلاق منزها عن مساوئها.

ووجب على أمته من بعده أن تتخذ من اخلاقه صلى الله عليه وسلم دستورا تتمسك به، ومنهجا تسير عليه في حياتها، للتمكن من تبليغ رسالة الإسلام إلى العالمين، فنحن مسؤولون أمام الله تعالى عن تبليغ دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الشعوب الأوروبية والغربية وغيرها؛ لقوله تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي".

فنحن مأمورون بما أمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ دعوة الله على بصيرة..

ولكن للأسف ونقولها بكل مرارة نحن اليوم ننفر شعوب العالم ونصدها عن دين الله بسوء اخلاقنا؟

فأنى  لهذه الشعوب أن تسعد بدين محمد صلى الله عليه وسلم وتستنير بأنواره.. وهي ترانا على ما نحن عليه من انحطاط خلقي في شتى الميادين؟ من محسوبية في التعامل، وهضم للكفاءات.. وغش في الأعمال، ويقول في المعيشة.. وتعفن في البيئة والمحيط.. بل وفي العقلول.. ومن تفرق وتشرذم وتقاطع وتباغض وتحاسد تآمر وتكايد وتخاذل..

وعددوا ما شئتم من مساوئنا؛ فإن مساوئنا اليوم ليس لها حد فيعرب عنه ناطق بفم.

وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله توجيه رائع في تفسير قوله تعالى: "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا".

قال: "مما يجعلنا فتنة للذين كفروا: أن ننفرهم من الإسلام ونصدهم عنه بسوء أخلاقنا.. ".

وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن أحبكم إلي وأقربكم من مجلسا يوم القيامة احاسنكم أخلاقا". فبالمفهوم المخالف أن أبغظ الناس إليه صلى الله عليه وسلم وأبعدهم منه مجلسا يوم القيامة أسوأهم اخلاقا.

ولقد أدرك السادة الصوفية ما للأخلاق الحسنة من أهمية بالغة؛ فقالوا: أن التصوف كله يدور حول محول واحد، هو: "محور الأدب".

وخلاصة القول:

-        أن سيرته صلى الله عليه وسلم وما انطوت عليه من الشمائل تعتبر دستورا جامعا للحياة الفاضلة..

-    وأن عظمته صلى الله عليه وسلم ترجع إلى ما أكرمه الله به من القرآن ومحاسن الأخلاق، الموصوف كل منهما بالعظمة

-    وإذا أرادت أمته صلى الله عليه وسلم أن تسترجع مكانتها بين الأمم، وأن تكون أمة ينظر إليها بالمهابة والإعزاز، فما عليها إلا أن تتخذ منهما دستورا تتمسك به، وتعيشيه واقعا وحياة..  وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر وصايه: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنة نبيكم". فإن سنته صلى الله عليه وسلم بمفهومها العام: هي طريقته ومنهجه في الحياة، فتدخل فيها شمائله الزكية وأخلاقه العلية، وقد عرفها أهل الحديث تعريفا أشمل وادق من تعريف الفقهاء والأصوليين، فقالوا: " كل ما أُثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، قبل البعثة أو بعدها".  

فينبغي أن نتخذ من مناسبة مولده صلى الله عليه وسلم فرصة لمراجعة أنفسنا؛ والاصطلاح مع ربنا؛ وتجديد العهد مع نبينا صلى الله عليه وسلم فإن "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ﷺ واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". كما قال سيدنا الجنيد قدس الله سره.

ونسأل الله تعالى أن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يوفقنا إلى اقتفاء أثر نبينا صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق