الخطبة الأولى
الحمد
لله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وأكرمنا بهذه الشريعة الإسلامية الواضحة
الغراء، القائمة على رعاية مصالح المكلفين، ودرء الفساد عنهم في الدارين، فمن اتبع
هداها فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن أعرض عنها فله معيشة ضنكا ثم هو يوم
القيامة من الخاسرين.
والصلاة
والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله
أكرم الرسل، وأفضل البشر، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومن
اهتدى بهديهم واستن بسنتهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
أما
بعدُ: أيها المؤمنون: كثيرا ما نسمع الحديث عن الوطن والوطنية، وحب الوطن والحفاظ
عليه والوفاء له.. وما إلى ذلك من الأقوال والشعارات ذات الصلة بالموضوع.والسؤال
المطروح أمامنا: ما علاقة هذا الموضوع الشائع بديننا الإسلامي؟ وهل ورد في القرآن
العظيم والسنة المطهرة ما يدل على الاعتناء به؟ أم لا؟
وفي
خطاب هذه الجمعة سنحاول الإجابة بإيجاز عن هذا الإشكالية، إجابة يحصل بها الإقناع،
ويُزال بها الالتباس والغموض، وتصحح بها التصورات والمفاهيم.. ونسأل الله تعالى
التوفيق والسداد والإعانة.
أيها
المؤمنون الأكارم: إن الناظر في النصوص الشرعية، يجد أن الله سبحانه وتعالى قد قرن
حب الوطن بالدين، فقال جل جلاله:
(لَا
يَنْهَـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[1].
فقد
أفادت هذه الآية الكريمة أن البر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلمين، ولم
يعمل على إخراجهم من أوطانهم، والجمع بين الدين وحب الوطن دليل على تقارب مكانة
كلٍّ منهما في الإسلام وفي النفوس.
وقال
سبحانه وتعالى في آية أخرى: (وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)
[2].
ومحل
الشاهد فيها: أن الله تعالى سوّى بين الأنفس وبين الأوطان من حيث الأهميةُ
والمحبة، والتعلق بكل منهما..
وفي
هذا الصدد نجد أن الله سبحانه وتعالى يطمئن رسوله عليه الصلاة والسلام، ويمتن عليه
بأنه سيرده لوطنه الذي أُخرِج منه؛ فقال جلت قدرته وتقدست أسماؤه: (إِنَّ
الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)[3].
قال
سيدنا ابن العباس رضي الله تعالى عنهما: (إلى
مكة)[4].
وذكر
غير واحد من المفسرين أن هذه الآية نزلت حين اشتاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلى مكة. ومحل الشاهد فيها: أن العودة للوطن نعمة جليلة امتن الله بها على نبيه
عليه الصلاة والسلام.وفي اشتياق المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى وطنه ترسيخ لمعاني
الوطنية في النفوس، وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لمكة:(مَا أَطْيَبَكِ مِنْ
بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا
سَكَنْتُ غَيْرَكِ)[5].
وعلى
هذه المحبة درج الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين الأولين، فكانوا إذا ذكروا مكة
بكوا شوقا إليها، ولما دخلوها فاتحين كان الرجل منهم ينزل عن ظهر فرسه أو بعيره
ويمرغ وجهه في التراب، من شدة المحبة والشوق إلى وطنهم، والرسول صلى الله عليه
وسلم بين أظهرهم وما نهاهم عن ذلك. بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم كان يقول عن جبل
أحد وهو عبارة عن جماد: (أُحُدٌ جَبَلٌ
يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ)[6].
لأن
جبل أحد قد ناصر المؤمنين؛ إذ لاذوا به بعد المعركة فحماهم من المطاردين..
أفلا
يجدر بنا نحن أيها المؤمنون أن نستشعر هذه المعاني؟ وهذه العاطفة الجياشة نحو
وطننا؟ فحينما ننظر إلى جبالنا أو نتجول في أرجائها نشعر حقيقة أننا نحبها وأنها
تحبنا، ونتذكر من خلالها تضحيات أجدادنا، وما حققوه فيها من انتصارات باهرات،
ونستحضر قول شاعر ثورتنا:
(من
جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للاستقلال)
ولله
دَرُّ الإمام ابن باديس رحمه الله إذ كتب قائلا: «لمن
أعيش» ثم أجاب: «أعيش
للإسلام والجزائر».
ومن
خلال ما تقدم نخلص إلى أن حب الوطن جزء لا يتجزأ من بنيان ديننا، فهو فرع من فروع
الإيمان، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية المعظمة، فمقاصد الشريعة خمسة وهي:
)حفظ
الدين، فالنفس، فالعقل، فالنسل، فالمال(
وكيف
يُحفظ الدين؟ إذا لم يكن له وطن يحتضنه، وتُمارس فيه شعائرُه، وتُقام فيه دعائمُه
وأركانُه.. وكذلك الأنفس والأموال وبقية المقاصد..
ومن
هنا يتجلى لنا أن الوطن دعامة أساسية لحفظ الدين والأنفس والأموال.. وكل ذلك واجبٌ
حفظُه إجماعا، و(ما لا يتم الواجب إلا
به فهو واجب)؛ وإذن: فحفظ الوطن واجب بلا امتراء، وللقيام
بواجب حفظ الوطن وسائل كثيرة، نذكر منها في هذا الخطاب ما يسمح به الوقت ويقتضيه
المقام:
- 1تقوية
عوامل الاعتزاز بالانتماء إلى الوطن؛
لأن
حب الوطن هو الباعث على التضحية والتفاني لأجل حمايته والمحافظة عليه، والعمل على
النهوض والارتقاء به؛ ليلتحق بركب الدول القوية، عسكريا واقتصاديا وثقافيا
وحضاريا.. فواجب علينا أن نعمل على تقوية معاني الوطنية في نفوس أجيالنا الصاعدة؛
امتثالا لما تقدم من التأصيل الشرعي لحب الوطن والمسوغات الباعثة عليه...
وتأسيا
بأجدادنا البواسل الذين ضربوا أروع المثلة في افتداء الوطن بالدماء والنفوس، من
أمثال الأمير عيد القادر، ولالا فاطمة انسومر، والشيخ بوعمامة، والعربي بن مهيدي،
وزيغود يوسف، والعقيد عميروش، والعقيد لطفي.. وغيرهم ممن استبسلوا في تخليص هذا
الوطن من أيدي الغزاة الفرنسين، وقد قالوا جميعا بلسان الحال والمقال كما حكى شاعر
الثورة على لسانهم:
واقض
يا موت في ما أنت قاض
أنا راض إن عاش شعبي سعيدا
أنا
إن مــــت فالجزائـــــــــر تحيا
حــــــرة مستقــلـــــة لن
تبيـــدا
وما
أعظمها وما أثقلها من أمانة!! تلك التي حمّلنا إياها الشهداء الأبرار على لسان
الشهيد ديدوش مراد الذي قال:(إذا ما استشهدنا
فدافعوا عن أرواحنا، نحن خُلقنا من أجل أن نموت، ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال
المسيرة).
ومن
استكمال مسيرة الشهداء الأبرار: أن نتفانى في حماية هذا الوطن الذي سقوه بدمائهم،
وأن نعمل على أمنه واستقراره، ونموه وازدهاره؛ بدافع المحبة والوفاء.
-
2المحافظة على أمن الوطن واستقراره؛
فالحياة
لا تستقيم إلا بالأمن والاستقرار، ولذلك جاء الأمن مقدما على الرزق في دعاء الخليل
إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)
[7].
فانظروا
أيها المؤمنون كيف قدَّم الأمن على الرزق؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يبحث عن
الرزق، ولا يتأتَّى له الشعور بلذته، إذا كان فاقدا للأمن في حياته.
وتزيد
السنة النبوية هذه الحقيقة تبيانا وتأكيدا، فيقول عليه الصلاة والسلام: (مَنْ
أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًا فِي جِسْمِهِ عِنْدَهُ طَعَامُ
يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)
[8].
فلو
ملكت الدنيا بأجمعها، ما كان لك لتنعم بها أو تشعر بلذتها، لو لم تكن آمنا مستقرا
في حياتك ووطنك، معافى في بدنك وأهلك وأولادك... وهل نستطيع أن نحقق نموا أو رخاء،
أو تقدما أو ازدهارا.. إذا لم نكن آمنين مستقرين في أوطاننا؟!
-
3 العمل
على صلاح الوطن وإصلاحه؛
إن
القرآن العظيم حينما تحدث عن الوطن أكد على أن الأوطان إنما تبقى منيعة قوية غنية
آمنة مطمئنة.. إذا ما أحبها أهلها، وعملوا على صلاحها، وأن صلاحها نتيجة لصلاح
أهلها، وذلك معنى قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ)[9].
فصلاح
الأوطان مرهون بصلاح أهلها، فبصلاح الرجل يصلح اللهُ له ولدَه وزوجتَه وتجارتَه
ووطنَه وجميعَ من حولِه.. فمتى كان الناس مؤمنين صادقين مخلصين محسنين مصلحين، كان
الله معهم بتوفيقه وعنايته، يبارك أرزاقَهم، وييسر معيشتهم، ويؤمنهم في أوطانهم،
فلا هم يخافون ولا هم يحزنون.. أما إذا فسدوا وبدلوا وغيروا وجحدوا نعم الله ..
فقد عرّضوا أنفسهم للهلاك، وعرّضوا أوطانهم للخراب، واتلوا بتدبر وإمعان قوله
تعالى:
(وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
[10].
أستغفر
الله لي ولكم ولجميع المؤمنين إنه هو الغفور اللرحيم
الخطبة
الثانية
أيها
المؤمنون الكرام: اعلموا أن من أهم عوامل استقرار الوطن وصلاح شؤونه، أن يكون له
حاكم قوي، يستمد قوته وشرعيته من تزكية رعيته، وها قد جاء موعد اختيار الحاكم الذي
سيسوس البلاد، ويرعى شؤونها، ويرسي قواعد أمنها واستقرارها، ويعمل على نموها
وازدهارها..
فاختاروا
من المرشحين من ترونه أهلا لقيادة البلاد في هذه المرحلة الحاسمة، التي تكالب فيها
علينا الأعداء من كل جانب، وهم يتربصون بنا، وينتظرون اختلال قوتنا..
ودواعي
ذلك معلومة لدى الخاص والعام، فنحن الجبهة الوحيدة التي بقيت صامدة في وجه مشروع
الكيان الصهيوني الغاشم، تقاوم التطبيع، وتفشل مخططات صفقة القرن وتهويد الأقصى
الشريف، وتدعم المقاومة الفلسطينة دعما مطلقا، فلا غرابة أن نكون هدفا مقصودا لهذا
الكيان وأذرعه من حولنا..
وبإذن
الله تعالى لن يكون لهذا العدو ولا لغيره من الأعداء سبيل علينا، إذا ما اتحدنا
وتضامنا وكنا يدا واحدة على من سوانا، وسارعنا في تنصيب حاكمنا، بتزكية شعبية
قوية، تمنحه القوة في اتخاذ قراراته، وتمنحه الشرعية القانونية، وتجعل لكلمته وزنا
بين الأمم وفي المحافل الدولية، وتمكّنه من المضي في دعم المقاومة الفلسطينة
الباسلة، التي تخوض اليوم ملحمة جهادية لم يشهد التاريخ لها مثيلا، كان الله لها
عونا ونصيرا..
فتسلحوا
أيها المؤمنون بالوعي وفقه الدين وفقه الواقع وفقه المآل، وقوموا بواجبكم تجاه
وطنكم، من خلال المبادرة إلى اختيار من ترونه الأصلح والانجح والأنفع للبلاد
والعباد، بما أتيح لكم من وسائل الانتخابات التي أصبحت في الأعراف الدولية هي
الوسيلة الوحيدة لنصب الحاكم، ومنها يستمد شرعيته..
اللهم
اجعلنا من عبادك الذين قالوا سمعنا وأطعنا، ونعوذ بك أن نكون كمن قلت فيهم: قالوا
سمعنا وعصينا..
اللهم
أنزل رحماتك الصيبة، وصلواتك الطيبة، على أرواح شهدائنا الأبرار، وجازهم عن
الإسلام وأمته خير الجزاء، وألحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولائك رفيقا.
اللهم
أمّنا في وطننا واحفظنا واحفظ جيشنا الباسل، وأحرسه بعينك التي لا تنام..
وأيّد
بتوفيقك ولاةَ أمورِنا، واحفظهم من بطانة السوء التي تزين المنكر وتقبح لهم
المعروف، ووفقهم إلى ما فيه خير العباد والبلاد..
اللهم
أيد بنصرك وتوفيقك المجاهدين بأرض فلسطين، واجعل لهم الغلبة على اليهود الآثمين،
وأتباعهم الفاجرين، اللهم داو جرحاهم واشف مرضاهم، وفُكَّ حصارهم، واربط على
قلوبهم، وسدد رميهم، واحم ثغورهم..
اللهم
زين ظواهرنا بالمجاهدة، وزين بواطننا بالمشاهدة، وأصلح أعمالنا وأقوالنا وسائر
أحوالنا، وفرج همومنا واكشف غمومنا واقض ديوننا، ويسر معيشتنا وأرزاقنا، واشف
مرضانا وعاف مبتلانا..
اللهم
اغفر اللهم لنا ولأمهاتنا وآبائنا، ولمن علمنا ولأرباب الفضل علينا، ولسائر
المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم
اجعل بلادنا بلاد العلم والدين، وراحة المحتاج والمسكين، واجعل لها بين الأمم صولة
وحرمة ومَنَعَةً ودولة، واجعل من السر المصون عزها، ومن الستر الجميل حرزها، ومن
كادنا فكده، ومن خدعنا فافجعه، ومن وسعى بنا فلا تسعده..
وصل
اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومولانا محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه
الميامين، ومن والاه إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
الممتحنة8
النساء66
القصص85
رواه البخاري
رقم 4773
رواه الترمذي
رقم 1213
رواه البخاري
رقم 1481.
البقرة126
رواه الترمذي
رقم 2346]
[الأعراف96]
[النحل 112]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق