......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 16 يناير 2025

القرآن العظيم وبشائر النصر المبين

(بمناسبتي: جائزة حفظ القرآن / وانتصار غزة)

الخطبة الأولى

الحمد لله حق حمده، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه، ولطفه وإحسانه، ونسأله المزيد من أفضاله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في صفاته وأفعاله، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحأبه.

وبعد: أيها المؤمنون: إن حديثنا اليوم يتمحور حول أهمية القرآن في حياتنا، ومدى احتياجنا إليه، وواجبنا نحوه.. وذلك بمناسبة جائزة حفظ القرآن العظيم، التي درجت بلادنا على تنظيمها سنويا، والتي يتزامن تنظيمها هذا العام، مع مناسبة الإسراء والمعراج، ولا شك أن الأمة التي تعتني بالقرءان وأهله لجديرة بحفظ الله وتأييده، وإذا كان سيدنا عبد الرحمن الثعالبي قدس الله سره قد قال:

 إنّ الجزائـر في أحوالها عجـــب   

              ولا يدوم بها للناس مكروه

 ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع   

             إلا ويُسر من الرحمن يتلـوه

   فإن السر في ذلك عائد إلى هذا القرآن، فنحن إنما نستمد قوتنا من قوته، وخلودَنا من خلوده، ورغدَ عيشنا من بركاته، وسدادنا من أنواره، وسعادتنا من فيض أسراره، وصدق من قال: (لا يجتمع الشقاء مع القرآن)؛ لقوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[طه2]. 

فالقرءان العظيم هو سر سعادتنا، وهو عامل انتصارنا وازدهارنا، وهو حياة قلوبنا ونفوسنا، فلا حياة لنا من دونه، ولعل هذا هو مدلول قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)[الشورى52].

فالتعبير عن القرءان بالروح فيه إشارة إلى أنه لا حياة للقلوب والنفوس إلا بالقرءان العظيم، فالقرءان للأمة بمنزلة الروح للجسد، فإذا فارقت الروح الجسد مات الجسد، وكذلك الأمة إذا فارقت القرءان.

وفي آية أخرى قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال24].

يعني أن في القرءان وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة لنا، والمراد: الحياة الطيبة السعيدة، لا حياة الأنعام التي يحياها كثير من البشر.

وإن هذه الأمة قبل أن ينزل عليها القرءان كانت أمة ميتة، تعيش في ظلمات متراكمة، وضوائق مترادفة، وأزمات خانقة.. فأحياها الله بهذا القرءان، وقد نبه الله الناس إلى هذه الحقيقة، ولكنَّ أكثرهم لا يعقلون، فقال عز وجل: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)[الأنعام122].

فهذا لم يكن ميت الجسد، بل كان يدب على الأرض، ويأكل ويتمتع كالأنعام، ولكنه كان ميت القلب، ميت الضمير، ميت الأخلاق والقيم.. فأحياه الله بالقرءان، وأنار طريقه في ظلمات الحياة بهذا القرءان..  

وبالقرءان العظيم أخرجنا الله من الظلمات إلى النور؛ قال عز وجل: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[ابراهيم1].

فواجبنا الأول نحو القرءان العظيم، هو: أن نجعله قائدنا إلى شاطئ الإيمان، وأن نعتني بحفظه وتحفيظه، وأن نتخلق بأخلاقه، وأن نعيشه واقعا وحياة، ففيه حياتنا وعزنا ونصرنا وسيادتنا..

لقد كانت أمتنا ضعيفة هزيلة، فلما أكرمها الله بهذا القرءان، أضحت خير أمة أخرجت للناس، وانتقلت من العبودية الى السيادة، ومن رعاية الغنم إلى قيادة الأمم .. وصار يقف أضعفها أمام أعظم القادة قائلا له: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَور الأديان إلى عَدْل الإِسلام).

هذا الكلمات الخالدات  قالها (ربعي بن عامر)  رضي الله عنه لرستم يوم معركة القادسية.

هذا الصحابي الجليل بالأمس القريب كان يرعى المعز، فلا هو درس في جامعة، ولا هو تخرج من أكاديمية، واليوم غدا يقف أمام قائد جيش الفرس، ليخاطبه بهذه الثقة القوية، وبهذه اللهجة المقرونة بالتحدي، فما الذي غير حاله وبلغ به هذا المقام؟ لا جرم إنه القرءان العظيم، الذي تخلقوا بأخلاقه، واتخذوه دستور حياتهم.

ولله در البشيري الإبراهيمي رحمه الله حيث قال:

(إن أول أمتكم شبيه بآخرها عزوفًا عن الفضائل، وانغماسًا في الرذائل، فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة النعم رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأمية أعلام العلم والحكمة، فإن زعم زاعم أن الزمان غير الزمان، فقولوا: ولكن الإنسان هو الإنسان). نعم، ونضيف: أن القرءان هو القرءان.

لكن للأسف أن أمتنا اليوم أعرضت عن القرءان إلا من رحم ربي وقليل ما هم، وابتغت العزة والسيادة والازدهار في غيره.. فكانت التيجة: أن أذلها الله عز وجل، وسلط عليها أعداءها، وجعل بأسها بينها.. وأصبحت كلمتها سائبة، وكلمة غيرها عزيزة ومصونة، وإذا مات كافر واحد اهتز العالم كله لموته، أما إذا مات المسلمون، وانتهكت أعراضهم وتقطعت اشلاؤهم وسالت دماؤهم ودمرت منازلهم.. فالأمر أقل من العادي، وكأنه شيء لم يكن، وكأنهم لا تشملهم حقوق إسنان ولا حقوق حيوان، وما كان ليحدث لنا ذلك لولا إعراضنا عن القرءان.

وصدق الله العظيم إذ يقول: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..)[طه124].

أيها المؤمنون الكرام: إن حياتنا وسعادتنا وانتصارنا وسيادتنا تكمن في هذا القرءان، ولا مخرج لهذه الأمة من ازماتها المختلفة إلا بالعودة إلى هذا القرآن، فهو العاصم من كل فتنة، وهو المخرج من كل أزمة، فبذلك أخبر المصطفى فقال صلى الله عليه وسلم:

(ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت يا رسول الله: ما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى...)[رواه الترمذي].

وإن آباءنا وأجدادنا بالأمس القريب ما سادوا وشادوا، وما انتصروا على فرنسا وقوات الحلف الطلسي إلا بهذا القرءان، الذي تمسكوا به، وعظّموا أهله، واتخذوهم مرجعا للفصل والحسم في ما يلم به من قضايا دينهم ودنياهم، حتى أنهم كانوا يقولون: (إن في حامل القرءان شعرةً من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم). مبالغة منهم في توقيره وتبجيله، وإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدَرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ)[رواه الحاكم في المستدرك].

ولولا التفاف جزائرنا حول القرءان لابتلعتنا الصليبية بلا رجعة، ولكنا اليوم أندلسا ثانية، فما حافظنا على هويتنا وشخصيتنا وأصالتنا إلا بالقرءان، وما هزمنا الجيوش الغازية إلا بالقرءان.. فالحذرَ الحذرَ من هجرانه؛ ففي هجرانه  كل العطب، والحذرَ الحذرَ من ازدراء حملته، فإن المستهين بهم موقوف على الخطر.

جعلني الله وإياكم من أهل القرآن العظيم

وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم


الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

أيها المؤمنون الكرام:

ولولا القرءان العظيم لما انتصر إخواننا اليوم في غزة، الذين تعرضوا للحصار من الكفرة والمنافقين، وتعرضوا لأبشع الهجمات الحربية، وتعرضوا للإبادة الجماعية الممنهجة، التي نفذها اليهود من ورائهم أمريكا الطاغية، ومن حذا حذوهم من الكافرين والمتخاذلين،  

الذين تلاقى جمعهم  واتفقت كلمتهم على ضرورة إبادة هذه العصبة المؤمنة،  لا لشيء إلا أنهم قالوا ربنا رب السماوات والأرض فلن نركع لغيره ولن نخضع لسواه.

ورغم كل ذلك فقد صمدوا في وجه الطغيان، وصبروا وثبتوا.. غير عابئين بحصار، ولا متأثرين بخذلان.

- فأسقطوا خرافة الجيش الذي لا  يُقهر.

- وقتلوا أكثر من ألفين وخمسائةِ صهيوني. 

- وعوّقوا آلاف الجنود جسديا ونفسيا.

- ودمّروا نحو ألفٍ وخمسمائةِ  ما بين دبابة ومدرعة.

- وأسر وا أكثر من مائتين وخمسين بينهم رتب سامية.

- وهجّروا أكثر من نصف مليون من المستوطنين. 

- وشلّوا حركة الاقتصاد الصهيوني وألحقوا به خسائر فادحة.

- وأسقطوا صفقة القرن، ومشروع التطبيع، ومؤامرة الديانة الإبراهيمية.

- وأفشلوا خطة تهجير شعب غز ة. 

- وزعزعوا أمن الكيان الصهيوني ووحدته الداخلية.

- وكشفوا نفاق وخبث النظام العالمي المتصهين.

- وفضحوا خيانة الأنظمة العربية وعمالة الطوائف السلفية.

- وأعادوا قضية فلسطين إلى مكانتها المحورية.

- وبعثوا روح الجهاد والاستشهاد في الأمة الإسلامية.

- وأعطوا للعالم صورة عالية عن سماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى.

- وأعادوا للأسـرى المحكوم علهيم بالإعدام أو المؤبد الأملَ في الخلاص والحرية.

- ورغم قلة عددهم وضعف عدتهم.

- ورغم الحصار والخيانة والخذلان..

- ورغم تكالب قِوى الشر عليهم.

- ها هم اليوم يعدلون كفة  الميزان. 

- ويقهرون جبروت هذا الكـيان. 

- ويرغمونه على الرضوخ لمطالبهم والاستسلام لشروطهم.

هم الرجال وعيبٌ أن يقال لمنْ

          لم يتصفْ بمعان وصفهم رجلُ

وقد ظلت العناية الإلهية تصحبهم من بداية معركتهم إلى نهايتها..

ويا لها من آية تلك النيران الملتهبة ذات الريح العاتية، التي سلطها الله على أمريكا الطاغية، الراعي الرسمي للحرب على غز ة والممول الرئيسي لها؛ فترتبت عنها خسائر فادحة، تربو عن خسائر تمويل تلك الحرب القذرة؛ مما اضطر الإدارة  الأمريكية إلى أن تضغط على ابنتها المدللة بأن يرضخ لشروط الرجال خاسئة ذليلة.

وبمثل ذلك نصر الله النبي ﷺ وصحبه يوم الأحزاب؛ إذ سلط الله عليهم ريحا هوجاء اقتلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم؛ فولَّوْا على أدبارهم خاسئين وكفى الله المومنين القتال.

(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). كأين من آيات في السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها غافلون).

أيها إخوة الكرام: تلك هي بعض ثمار معركة طوفان الأقصى، وتلك نتيجة الصبر والإيمان؛ وصدق الله العظيم إذا يقول: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران120].

وهو القائل جل ثناؤه: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة149]. 

وإن النصر مهما تباينت أنواعه وتعددت أسبابه فهو بيد الله وحده، فليس هناك قوة في الكون تستطيع أن تمنح النصر إلا الله، وهو القائل جل ثناؤه: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[آل عمران126].

فلله الحمد والمنة؛ أن نصر إخواننا في غزة، وكشف عنهم الغمة والمحنة، وإن في نصرهم لعبرة للعالمين، بأن من توكل على الله كفاه، ومن كان مع الله كان الله معه، بحفظه ونصره وتأييده، ومن كان الله معه فلن يُغلب ولن يُهزم، كيف لا؟ وهو القائل جل وعلا: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران 160].

أيها الإخوة: إن هذا النصر ما كان ليتم لولا تلك التضحيات الجسام، التي بذلها إخواننا في غزة، وما كانوا ليضحوا ويثبتوا ويسطروا تلك البطولات الأسطورية، التي لم تشهد الدنيا لها مثيلا في العصر الحديث، لولا القرءان العظيم، الذي آثروه على كل شيء، وعاشوه واقعا وحياة، حتى صار يسري في حياتهم كالدماء في عروقهم، فاستمدوا منه صلابة عزيمتهم، وقوة إيمانهم، ونور بصيرتهم... ولقد رأيناهم كيف كانوا عاكفين على حفظ القرءان، وتحفيظه لأبنائهم وبناتهم، وهم تحت الحصار والقصف والدمار، فكانوا بحق جيلا قرآنيا من الطراز الأول، وجيل القرآن لا يمكن أن يهزم أبدا.

هذا هو سر عظمة الغزّاويين وانتصاراتهم الباهرة، وهو ما ينبغي أن تفقهه الأجيال، وأن تتناقله ذكرا مجيدا، ورحم الله ابن باديس إذ يقول:

(إننا نربي تلامذتنا على القرآن من أول وهلة.. وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها).

فالقرآن العظيم هو الذي يربي الرجال، وهو الذي يصنع أجيال النصر، كما صنعها بالأمس في مواطن كثيرة، وكما صنعها اليوم في غزة،  فعلموه لأولادكم، واتخذوه منهج حياتكم، تسعدوا في عاجلكم وعاقبة أمركم.  

 أيها المؤمنون الكرام: رغم الآلام التي تعرض لها أهلنا في غزة، ولا يزالون يتعرضون لها، فإننا اليوم مبتهجون ببشائر النصر المبين، فإن الابتهاج بالنصر أمر مشروع، وقد جبلت النفوس على الفرح به، كما قال جل جلاله: "وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ  بِنَصْرِ اللَّه"[الروم5].

ونسأل الله تعالى أن يتم على إخواننا في غزة نعمتَه، وأن يداوي جراحهم، ويشفي مرضاهم، ويرحم شهداءهم، وأن يمكن لهم في الأرض ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين....

 

هناك 8 تعليقات:

  1. جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل

    ردحذف
  2. بارك الله فيك الشيخ العيد ربي يحفظك

    ردحذف
  3. بوركتم شيخنا الحبيب .

    ردحذف
  4. مشكور شيخنا

    ردحذف
  5. نفع الله بكم سيدي

    ردحذف
  6. نفعنا الله بكم وبعلومكم شيخنا الفاضل

    ردحذف
  7. الخطبة المناسبة في الوقت المناسب

    ردحذف