بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه الميامين.
بمناسبة يوم العلم أقدم للقارئ الكريم هذا المقال المختصر، الهادف إلى إبراز مكانة العلامة سيدي ابن باديس رحمه الله، ودحض ما طاله من تشويه، وما أثير حول منهجه ومعتقده من شبهات، مكتفيا بذكر الحقائق التي تبصر القارئ، دون الإشارة إلى تزييفها أو الرد على مزيفيها من أي جهة كانوا، ومعتمدا في ذلك على ما توفر لدي من مصادر، وعلى ما سمعت وبلغني من شهادات الثقات، كالشيخ الطاهر علجت، والشيخ عبد القادر عثماني، رحمهما الله، وكالشيخ مأمون القاسمي حفظه الله.
كلما أطلّت علينا ذكرى السادس عشر من أفريل، تمثلت أمام أعيننا صورة العلامة سيدي عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، تلك الصورة التي من الصعب أن تمحى من ذاكرتنا.
ويتساءل البعض:
- لِمَ اختير يوم 16 أفريل يوما للعلم؟ وهو يصاف يوم فاته؟
- فهل تحتفل الأمة بوفاة علمائها؟
- أم أن العلم انطلق في الجزائر بوفاة ابن باديس؟
- ولماذا لا يكون يوم مولده أو يوم تأسيس جمعية العلماء هو يوم العلم؟
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة ومتنوعة، والجواب المقنع
– فيما أرى – هو كما يلي :
- أن ابن باديس قد تصدى بقوة للمخططات الفرنسية الهادفة إلى طمس الهوية الوطنية.
- وأنه دخل في سباق مع فرنسا فسبقها، إذِ انقلبت على أعقابها خائبة لم تنلْ خيرا.
- ولما توفي ابن باديس أقامت فرنسا الأفراحَ ابتهاجا بموته، حتى قال قائلها: "آن لفرنسا أن تطمئن على بقائها في الجزائر فقد مات ألد أعدائها".
- وأجاب قائلنا – وهو محمد العيد – مخاطبا ابن باديس بعد موته:
نم هادئا فالشعـب بعد راشدُ
يختط نهجك في الهدى ويسيرُ
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى
فالــــوارثون لما تركت كثيرُ
ولا جرم أن ابن باديس إنما أجهض المخططات الاستعمارية وحفظ للجزائر هويتها بالعلم، وهذا العلم لم يمت بموته، بل ورثه عنه كثيرون؛ وعلى هذا الأساس اختير يوم وفاته يوما للعلم، وكأننا بهذا الاختيار نقول لفرنسا: لا داعيَ لئن تفرحي بموت ابن باديس؛ لأن العلم الذي قهرك به لم يمت بموته، بل ورثته عنه الجزائر برمتها، وعلى أسسه قامت الثورة التحريرية المباركة، التي اقتلَعْت جُـــذورَ الخَائنينَ الذين كان منهم كل العطب، وَأَذاقتْ نفُوسَ الظَّـالـمِينَ السم يُمْزَج باللهَبْ.
وإذن: فيوم العلم هو مناسبة للتعبير عن انتقال التركة العلمية التي خلفها ابن باديس إلى الأجيال من بعده، تلك التركة التي لولاها لما استطاعت أمتنا أن تحافظ على هويتها الوطنية، ولما استطاعت أن تحقق نصرا أو تطرد عدوا.. وصدق من قال شعرا:
العلم يبني بيوتا لا عماد لها
والجهل يهدم بيت العز والشرف
الناظر في سيرة ابن باديس رحمه الله يجده أنه قد كرس حياته كلها لتعليم الأمة الجزائرية، وإصلاح أوضاعها الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية والاقتصادية... فهو لم يعش يوما لنفسه أو أسرته، بل عاش لدينه ووطنه، كما قال في مقال له: (أعيش للإسلام والجزائر)
فقبل مجيئه كانت الجزائر تتخبط في أوحال من الجهالة والخرافة، التى غرسها الاحتلال البغيض في نفوس شعبنا، إلى أن جاء شيخنا بعد تخرجه من جامع الزيتونة عام 1912م وبعد أدائه لفريضة الحج.
فانطلق في إنقاذ أمته، وكله قوة وحماسة ونشاط، ورأى أن أول خطوة ينبغي القيام بها هى جانب الإصلاح، وغرس العقيدة الصحيحة في أبناء شعبه، ومقارعة البدع التي انتشرت في عهده، على غرار الشاطبي الذي بادر إلى تأليف: [الاعتصام]؛ لِما رأى من انكباب الناس على البدع في عصره، إذِ العالم ابن بيئته وزمانه.
فطفق رحمه الله يعلم الكبار والصغار والرجال والنساء، ليلا ونهارا، سرا وجهارا، سفرا وإقامة، غربا وشرقا، شمالا وجنوبا..
فلم يقتصر في عمله الإصلاحي على تعليم وتربية قوم محصورين أو مجموعة من المريدين، بل كان يتنقل بين المدن والقرى لتعليم كافة الجزائريين والجزائريات، وتقوية همهم وإثارة نار الحماسة في قلوبهم، وقد بلغت دروسه في اليوم والليلة خمسة وعشرين درسا.
ولما قال له أحد رجال الاستعمار: "إما أن تقلع عن هذه الأفكار وإلا أغلقنا المسجد الذي تنفذ فيه سمومكم ضدنا"
أجابه قائلا: "لن تستطيعوا ذلك! فأنا إن كنت في عرس علمت المحتفلين، وإن كنت في مأتم وعظت المعزين، أو في قطار علمت المسافرين، فأنا معلم مرشد في جميع الميادين، وخير لكم أن لا تتعرضوا لهذه الأمة في دينها ولغتها".
ولم يكتف بهذا فحسب، بل أنشأ العديد من الصحف والجرائد، للتعبير عن مطالب الشعب الجزائري ونظرته للاحتلال الفرنسي، وارتقى بمشواره الدعوي إلى تأسيس أكبر جمعية أنذاك، وهي: جمعية العلماء المسلمين الجزائرين، التي تأسست في 1931م وعُين رئيسا لها لكفاءته، ووضع لها أهدافا سامية، أهمها:
غرس المبادئ والمقومات التى حاول المحتل الفرنسي أن يمحوها من أذهان أبناء شعبنا، وهي: "العروبة والإسلام" وأنشد في ذلك أبياته الخالدة:
شعب الجزائر مســـــلم
والى العروبة ينتســب
مـن قال حاد عن اصله
أو قال مات فقد كــذب
ولقد حرص رحمه الله على أن يضم في جمعيته كل أطياف المجتمع الجزايري، من إباضية وصوفية وأثرية ووحدويين.. إلا أن بعض الغلاة وقاصري النظر أفسدوا عليه عمله، وأعمل فيهم الاستعمار خطته المقيتة: (فرق تسد).
استفاد ابن باديس من مشايخ الزوايا قبله؛ فسار على نهجهم في ربط الأمة بالقرآن العظيم، باعتباره العاصم الوحيد لهذه الأمة من ذوبان شخصيتها، واختلال عقيدتها، ومحو لغتها، وفصم وحدتها..
فوجه جهوده على غرار شيوخ الزوايا لتعليم القرءان للذكور والإناث، في مختلف ربوع هذا الوطن، وعكف على تفسيره في الجامع الأخضر بقسنطينة عدد سنين، وكان يوجه تلامذته إلى الزوايا لحفظ القرءان العظيم، كالزاوية الحملاوية بوادى سقان ولاية ميلة، وهو ما شهد به المعاصرون له كالشيخ الطاهر آيت علجت الذي درس في الزاوية الحملاوية من 1937 إلي 1941م
وقال رحمه الله قولته المشهورة: "فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول وهلة.. وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها"هـ
عمل ابن باديس رحمه الله على تكميل جهود علماء الجزائر من قبله في الحفاظ على مرجعية الأمة الجزائرية؛ فقرر تدريس الكتب المالكية المعتمدة، والتي ذُكر منها في آثاره: [الموطأ، وأقرب المسالك، والرسالة، وابن عاشر].
وهذا العمل يعتبر إسهاما وترسيخا منه للمرجعية الدينية الجزائرية، المؤلفة من عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك.
كما كان رحمه الله لا يخرج في فتاويه عن المذهب المالكي، وقد صرح بذلك في آثاره فقال: "أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه"هـ
غير أنه كان له اجتهادات خاصة مبناها على ما تقتضية المصالح الشرعية، كإفتائه بحرمة زواج المسلم الجزائري بالفرنسية، وردة المتجنس بالجنسية الفرنسية؛ سدا لذريعة الإدماج الرامية إلى طمس معالم الشخصية الوطنية، وقال رحمه الله:
"التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة الإسلامية، ومن رفض حكما واحدا من أحكام الإسلام عُدَّ مرتدا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع"هــ
وقد كان لهذه الفتاوى -المبنية على اعتبار المآل- أثر عظيم على صعيد الوحدة الوطنية، وحفظ الشخصية الجزائرية من الانصهار الذوبان.
كما سار رحمه الله في كتابه [العقائد الإسلامية] على منهج علماء السنة من السادة الأشاعرة، إلا أنه اختار التفويض على التأويل فقال:
"وَنُثْبِتُ الاِسْتِوَاءَ وَالنُّزُولَ وَنَحْوَهُمَا، وَنُؤْمِنُ بِحَقِيقَتِهِمَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى بِلاَ كَيْفٍ، وَبِأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفِ فيِ حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ"هـ
والمعنى : أننا نثبت الاستواء لأنه معلوم في كتاب الله كما قال مالك، ونؤمن به على نحو يليق بالله تعالى بلا تكييف، ولا تحديد لمعناه على وجه التفصيل والتعيين، بل نفوض معرفته على التحقيق إلى الله وحده، مع جزمنا بأن الاستواء اللائق بالله هو غير الاستقرار والجلوس المتعارف عليه في حقنا؛ لأن ذلك من صفات الأجسام التي يتنزه عنها الخالق جل وعلا، ولأن ذات الله لا توصف بالهيئات الحسية من الجلوس ونحوه.
وهذا الذي اختاره رحمه الله هو إحدى الطريقتين المنتهجتين عند الأشاعرة، وإليهما أشار صاحب الجوهرة بقوله:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا
كما سار حمه الله على منهج السادة الصوفية في الكثير من شؤونه، من ذلك:
1- قوله بمشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم حيا ومن بعد مماته، وقد أصل رحمه الله لذلك انطلاقا من حديث عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ الذي جاء فيه:
"اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ ، اللهُمَّ شَفِّعْهُ فِيّ".
وكان رحمه الله تعالى يثني على السادة الصوفية بتوسلهم برسول الله، فقال: "اعلم أن السادة العارفين هم أرسخ الناس قدما في محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أدعيتهم لله تعالى عند ذكره والتوسل به".
وأخبر عن نفسه أنه كان يتوسل برسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: "وقد دعوت الله وحده، وتوسلت له بنبيه، وتوجهت إليه به أن يميتني على ملته".
2- نفيه أن يكون وَالِدَا الرسول صلى الله عليه وسلم في النار، انطلاقا من قواطع الأدلة كقوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا". وغير ذلك مما ذكره في آثاره؛ مؤولا حديث مسلم الذي جاء فيه: "إن أبي وأباك في النار". بأن الأب يطلق في اللغة ويُراد به العم، ومبينا بأنه لا مناص من حمل الحديث على ذلك؛ لأنه حديث آحاد لا يقوى على قواطع الأدلة الواردة في نجاة أهل الفترة كما قال.
3- احتفاؤه بالمولد النبوي الشريف على نهج السادة الصوفية، ومما قال في ذكراه:
"فيوم ولادته صلى الله عليه وآله وسلم هو يوم ولد فيه العالم ولادة جديدة ؛ فلنجعل يوم ولادته من كل عام يوما نعزم فيه على تجديدنا تجديداً روحياً وعقلياً وأخلاقياً وعملياً وتاريخياً تجديداً إسلامياً محمدياً في جميع ذلك. لنولد في عامنا الجديد ولادة جديدة وهكذا نجدد ونتجدد في كل ذكرى مولد".
وأنشد في ذكراه قائلا:
حييت يا جمع الأدب
ورقيـــــــت ساميــة الرتب
أحييت مولـد من بـه
حيـي الأنــــام على الحقب
أحييـــت مولـده بـما
يبري النفوس من الوصب
بالعلـم والآداب والأ
خـــــــلاق في نشء عجب
ومن خدماته الجليلة للتصوف: تصحيحه (للمنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية) للشيخ سيدي عبد الرحمن باش تارزي، التي تعد من أدبيات الطرقية الثرية في علم التصوف، وقال رحمه الله في تصحيحه لها:
"تم طبع المنظومة الرحمانية ذات الأسرار الربانية الجامعة لأصول الطريقة الخلوتية، وآداب التربية الشرعية الدالة على علم ناظمها وبركته بما نفع الله بها من أتباعه وتلامذته".
وكان رحمه الله يجل مشايخ التصوف ويخاطبهم بألفاظ التبجيل، كما في رسالته للشيخ الطاهر العبيدي أحد أعلام الصوفية بوادي سوف، والتي خاطبه فيها - معتذرا عن التأخر في الكتابة له - قائلا:
إن كنتُ قد قَصَّرْتُ في الكتابة
واللهِ ما مِلْــتُ عن وِدادي
وإنـما كان ذلك مـني
عن غفلةٍ ليس عن مرادي
فسامحوا طاهري بفضـل
وحسْبُكم مَسْــكَنًا فؤادي
وقد ذكر له في تلك الرسالة أنه كان كثير الترداد على أضرحة أولياء الله الصالحين للتبرك بهم، حيث قال:
"فإني كتبته إليكم من حضرة قسنطينة، يوم قدومي من رحلة كنت أعملتها من ناحية الجزائر وتلمسان، لزيارة الأحياء والأموات من العلماء والصلحاء وأعيان الزمان، فتشرفت بسادات كثيرين منهم العلماء والصالحين، ومن أعظم الجميع قدرا وأشهرهم ذكرا: سيدي أبي مدين الغوث، وسيدي محمد السنوسي بتلمسان، وسيدي محمد بن عبد الرحمن، و سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر".
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن ابن باديس رحمه الله كان مالكيا أشعريا وهو إلى الصوفية أقرب، وأما ما نُسب إليه رحمه الله من تمجيد لابن عبد الوهاب فيحتمل أن يكون مدسوسا عليه، ولا غرابة في ذلك فإن ما في آثاره لم يكبته هو بنفسه، وقد نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فكيف بمن هو دونه؟
وعلى فرض صحة نسبته إليه فهو محمول على أنه مجده بناء على ما بلغه عنه، ولا مناص من حمله على ذلك؛ لأنه قد صرح بأنه لا يعرفه فقال:
"والله ما كنت أملك يومئذ كتابا واحدا لابن عبد الوهاب، ولا أعرف من ترجمة حياته إلا القليل، ووالله ما اشتريت كتابا من كتبه إلى اليوم، وإنما هي أفيكات قوم يهرفون بما لا يعرفون"هـ
فلا يستقيم - إذن - أن يمجده وهو لا يعرفه.
وانظر قولَه: (أفيكات قوم..) فإنه صريح في اعتبار اتهامه بالوهابية إفكا وبهتانا.
ومتى وجدتَ في كتبه مصطلح [السلف] ومشتقاته كسلفي وسلفية، فاعلم أنه لا يراد به عنده سلفية النزعة الفكرية، ذات التوجه الحنبلي أو الوهابي، وإنما يراد به سلفية القرون الثلاثة الأولى المشهود لأهلها بالخيرية، في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وتلك السلفية لا يستنكف مسلم عن الانتساب إليها والتأسي بها.
لقد كان لابن باديس رحمه الله دور كبير في التهيئة للثورة التحريرية المباركة، إذ هيأ لها التربة الصالحة والمناخ الملائم؛ بما غرس من عقيدة صحيحة في القلوب، وبما أوقد من حماسة في النفوس، وبما أرسى من وحدة في الصفوف، وقد لمح لإشعال تلك الثورة بوصيته الخالدة التي عهد بها إلى الجزائريين من بعده:
مـــَنْ كَــــــان يَبْغي وَدَّنَـــا
فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحبْ
أوْ كَــــانَ يَـــــبْغـي ذُلَّــنـَا
فَلَهُ الـمـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ
هَــــذَا نِــــظـــــامُ حَـيَـاتِـنَــ
بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ
حتَّى يَعـــــودَ لـقَــــومـــــنَـا
من مَجِــدِهم مَــا قَدْ ذَهَبْ
هَـــذا لكــــُمْ عَـهْـدِي بِــهِ
حَتَّى أوَسَّــدَ في الـتُّـرَبْ
فَــإذَا هَلَكْــتُ فَصـَيْحــتـي
تَحيـَا الجَـزائـرُ وَ الْـعـرَبْ
ففكرة الثورة كانت حاضرة في ذهن ابن باديس من أول وهلة، شأنه في ذلك شأن أسلافه من أعلام التصوف، كالأمير وابن زيان وبوعمامة والمقراني وبلحداد ولالة فاطمة.. إلا أنه رأى أن الظروف غير ملائمة لها، فكان يتحين الفرصة المواتية لإعلانها، وقد صرح بها في أكثر من مرة؛
من ذلك: لما بادر بعضهم إلى التطوع في صفوف الجيش الفرنسي، غضب ابن باديس رحمه الله وقال: "لو استشاروني لأشرت عليهم بالصعود إلى جبالي أوراس وشن الثورة منها على الاستعمار"هـ وقال في نادي الترقي: "إني سأعلن الجهاد على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا الحرب"هـ
ولما اندلعت ثورة نوفمبر المباركة بادرت جمعيته من بعده إلى مباركتها وتأييدها والدعوة إلى دعمها، في بيان حرره رفيق دربه البشير الإبراهيمي في 2 نوفمبر 1954م
كما كان تلامذة جمعيته من السباقين إلى الجهاد والاستشهاد، إلى جانب إخوانهم من طلبة الزوايا والكتاتيب القرآنية.. فأول محرر لبيان أول نوفمبر، وأول طالب شهيد، وأول شاب شهيد، وأول حافظ للقرآن شهيد، كان من تلامذة جمعية ابن باديس، وهو الشهيد [زدُّور ابراهيم] بن الشيخ الطيب المهاجي أبرز أعضاء جمعية العلماء بوهران.
ودار الحديث بتلمسان التابعة لجمعية العلماء التحق خمسون طالبا من طلابها بجيش التحرير الوطني، وقد استشهدوا جميعهم في ميدان الشرف، وأسماؤهم مدونة في لوحة رخامية على مدخل دار الحديث بتلمسان إلى اليوم.
ومعهد ابن باديس بقسنطينة الذي تخرج منه 960 طالبا التحق عدد هائل منهم بجيش التحرير أيضا؛ ولذلك أغقلته السلطات الاستعمارية سنة 1956م، وسجنت عددا من المدرسين به، منهم: محمد الصالح بن عتيق، وأحمد حماني، وحمزة بوشوكة، والجيلالي الفاسي وغيرهم..
أما مدير المعهد: الشيخ العربي التبسي الذي كان يحرض على الثورة ويجمع لها الأموال فقد قتلته السلطات الاستعمارية بتذوبه في الزيت الغالي، وللذلك لا يُعرف له قبر إلى اليوم عليه رحمة الله تعالى.
وقد أصدرت السلطات الاستعمارية تقريرا في 26 أكتوبر 1955م برقم [6642 SNA/RC.3] يصنف بن باديس أحد دعاة التمرد.
ثم أتبعته بتقرير آخر في 24 جانفي 1958م برقم: [1.070 RCC/MR. A] يتضمن أن جبهة التحرير الوطني قد اعتمدت على المذهب الإصلاحي لابن باديس، و أن كبار المتمردين الذين يشنون حربا ضد فرنسا باسم استقلال الجزائر هم من تلاميذ ابن باديس أو هم نتيجة تعلميه وعقيدته..
وخلص التقرير إلى اعتبار ابن باديس الأب الروحي لحركة التمرد في 1945م وفي 1954م.
وإذن : ففكرة إعلان الجهاد وتحقيق الاستقلال كانت هي الهدف الأسمى الذي يسعى إليه ابن باديس رحمه الله، وأن جهوده الإصلاحية لم تكن إلا تمهيدا وإعدادا له، غير أنه رأى أن أوانه لم يحن بعد؛ لذلك لما قيل له: قد لوحظ أنك لا تدعو إلى الاستقلال وتحرير الجزائر؟ أجاب: "نحن نبني الجدران، والاستقلال هو سقف الجدران، وهل هناك من يبني سقفا بدون جدران"؟
وفي الختام: نستخلص مما تقدم في هذا المقال المختصرأن ابن باديس رحمه الله كان شمعة مضيئة في ظلام دامس تركه الاستعمار في نفوس شعبنا، فأحىى الله به أمة، وكان وحده أمة، وهو معدود عند جميع المنصفين ممن قال فيهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا".
وقد ظل رحمه الله يناضل من أجل دينه ووطنه وشعبه مطبقا مقولته المشهورة: (أعيش للإسلام والجزائر). إلى أن توفاه الله في 16 أفريل 1940م. فانتقل إلى بارئه عن عمر يناهز الخمسين عاما، وقد وقيل: أنه مات مسموما.
فرحمة الله عليك يا شيخنا عشت عالما، و مت شهيدا، فنحسبك عند الله مع الذين قال فيهم جل جلاله: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".
----------------------
أهم مصادر الموضوع:
• آثار ابن باديس
• العقائد الإسلامية لابن باديس
• العياشي دعدوعة: الطريقة الرحمانية علمية جهادية إصلاحية. جريدة الأحرار، العدد 721، 15 جويلية 2000م ص 16
• عبد القادر عثماني: الزوايا والتعليم الديني، مجلة الامام مالك بن أنس، دار الهدى عين مليلة 2002/ ص ص 5- 3 - 20
• المنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية) للشيخ سيدي عبد الرحمن باش تارزي، تصحيح ابن باديس.
• البصائر عدد 79، سنة 1356 هـ. والعدد 95، سنة 1938م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق