ضمانات أساسية من أجل مجتمع آمن

الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول بلا بداية وهو الآخر بلا نهاية، وهو الظاهر فما فوقه أحد، وهو الباطن فما دونه أحد، وهو الحي الذي لا يموت والخلق كلهم يموتون، وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره؛ فلولاه ما قام شيء في هذا الكون.

سبحانه لا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، إذ [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير].  

ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأمته أفضل الأمم.

أما بعــــد :

أيها الإخوة الكرام:

لا تكاد - اليوم - تجلس مجلسا أو تحاور أحدا أو تركب مركبا .. إلا وتجد الناس يشتكون مما وصل إليه حال مجتمعنا اليوم..

من مظاهر الانحراف الخلقي بكل أشكاله، ومظاهر الكلام الفاحش وسب الله ودينه، ومظاهر تفشي المخدرات والمهلوسات بكل أصنافها، ومظاهر العنف اللفظي والجسدي، ومثرة الشجارات وتشكيل العصبات لترويع الآمنين والسطو على الممتلكات..

وكل ذلك قد بات يحدث بشكل علني، دون خجل ولا وجل ولا رادع سلطاني، سواء في الشوارع والأحياء السكنية، أو في المؤسسات التربوية..

مما شكل تهديدا حقيقيا للمجتمع بكل أطيافه، وسلبه أمنه وسكينته واستقراره...

ونظرا لهذه الإشكاليات والتساؤلات المطروحة كان لا بد من تنبيه عام على الضمانات الأساسية، التي ينبغي أن يتعاون الجميع على تحقيقها في الواقع والحياة؛ من أجل إيجاد مجتمع آمن فكريا واجتماعيا، خال من المظاهر السلبية، والآفات الاجتماعية.

الضمانة[1] الوازع الديني أو الرقابة الذاتية:

وهو عبارة عن مانع أو زاجر قلبي خفي يحمل النفس على عدم مخالفة الشرع، وهذا خاص بالمؤمن الذي يشعر أن الله تعالى مطلع عليه ويراه، على نحو قول القائل:

وإذا خلوت بريبـةٍ في ظلمــة --- والنفس داعـية إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لها --- إن الذي خلق الظلام يراني

وقال آخر:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل -- خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

ولا تحسـبــن الله يغفل ساعــة -- ولا أن ما تخفيـه عنه يغيب

وكتاب الله تعالى مليء بالدعوة الى استحضار هذه الرقابة، كقوله تعالى : "إن الله كان عليكم رقيبا". وقوله تعالى:"واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه". وقوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا"

فالمؤمن الذي يخشى الله ويتقيه، ويشعر بأن الله مطلع عليه ويراه، ويعلم أنه سيُحاسب على أقواله وأفعاله، لا يحتاج إلى رقابة اجتماعية ولا إلى رقابة قانونية، فرقابته نابعة من إيمانه بربه، وإيمانه باليوم الآخر.

الضمانة[2] الوازع الفطري أو الجبلي:

وهذا عام في جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وهو وزاع طبيعي يجعل صاحبه يترفع عن اقتراف الدنايا؛ حفظا لكرامته ومروءته، ويمتنع عن السلوكات المشينة بمقتضى فطرته وإنسانيته السوية، مثل ما كان عليه العرب في جاهليتهم، من التحلي بمكارم الأخلاق كالكرم والصدق والأنفة والوفاء، والنفور من مساوئها كالكذب والخيانة ... وقد كان عنترة يقول في جاهليته:

وأَغُضُّ طرْفي ما بدَتْ لي جارتي --- حتى يُوارِي جارتي مأواها

فلو كان عنترة وأمثاله في زماننا لآثر الموت على أن يقف أمام مؤسسة تربوية؛ محدِّقًا نظرَه في فتيايتها.. والحديث قياس كما يقولون؟

فإن لم يكن لنا من الوازع الديني ما يمنعنا عن اقتراف الدنايا، فعلى الأقل نمتنع عنها بمقتضى قيمنا الإنسانية، ومن منطلق رجولتنا وأعرافنا وتقاليدنا الحميدة، التي عُرف بها آباؤنا وأجدانا، من حشمة وحياء واحترام وإباء...

الضمانة[3] الوازع لاجتماعي:

و يتجلى ذلك في إحياء فضيلة التناصح بين الزملاء والجيران والأقارب وسائر المؤمنين، فالجار ينصح جاره، والزميل ينصح زميله، والزميلة تنصح زميلتها، والأب والأم ينصحان أولادهما، والمعلم ينصح طلابه .. وهكذا.

وذلك من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة..".

ومن منطلق محبة الخير لجميع الناس، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

والنصيحة نوع من الدعوة إلى الله تعالى، ولا يخفى ما في الدعوة إلى الله من الأجر العظيم، فقد قال تعالى: "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله". وقال عليه الصلاة والسلام: "لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر".

ومن آداب النصيحة أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، وأن تكون بدافع المحبة للمنصوح والشفقة عليه، ومن آدابها أن تكون سرا لا علنا، فالنصيحة أمام الناس تعتبر فضيحة وليست نصيحة وصاحبها مأزور غير مأجور.

ومن آدابها أن تكون بأسلوب حسن، امتثال لقوله تعالى: "ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".

ومن آدابها أن تكون بتودد للمنصوح، ومثال ذلك: إذا رأى الشاب زميله أو جاره يتعاطى المهلوسات على سبيل المثال، فلا يعاديه ولا يشهر به، وإنما يقترب منه تدريجيا، ويكرمه ويثني عليه ثم يبين له مخاطر هذه الآفة، على صحته ودينه وماله وعقله، ويكشف له آثارها السلبية على مستقبله عند الدولة وعند المجتمع..

وإذا رأت الفتاة زميلتها في الدراسة أو في العمل على خطأ ما سلكت معها نفس الخطوات والأسلوب.. وإن عليك إلا البلاغ وعلى الهداية والتوفيق.

وهذا الأسلوب الدعوي أو التربوي له أهمية كبيرة في التأثير في من يُراد نصحه، وهو مستسقى من منهج النبوة؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام يقدم الثناء على النصيحة، فحينما رأى عمر يزاحم في الحرم قال له: "إنك امرؤ فيك قوة؛ فلا تزاحم في الحرم". وقال عن عبد الله بن عمر :"نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل". وقال لمعاذ : "والله إني لأحبك؛ فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم إعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".

كما يتجلى الوازع الاجتماعي في إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".

وينبغي أن تتعاون جميع شرائح المجتمع على القيام بهذه المهمة النبيلة، الأيمة والمعلمون ودور الشباب وأعيان المجتمع، وجمعيات المجتمع المدني، كل في مكانه وحسب استطاعته، وكان من المفترض أن تكون لنا ندوات في مراكزَ مختلفة، لأجل التحسيس بأهمية هذه المهمة، وتوعية المجتمع بأساليبها وضوابها وشروطها، كأن يكون المنكر معلوما لا مشكوكا أو موهوما، وأن لا يؤدي تغييره إلى منكر مساوٍ له أو أكبر منه من باب أولى، ومن أمثلة ذلك:

- التشهير بمن يُراد نهيه عن المنكر؛ لأن التشهير به أو الطعن فيه يعتبر منكرا فطيعا أعظم من المنكر الذي يُراد تغييره.

- ومن ذلك أيضا معاداة من نراه على منكر، لأننا إذا عاديناه وهجرناه نكون قد ارتكبنا منكرا آخر، ووسعنا بذلك دائرة المنكرات بدل تضييقها، وهذا مناقض لمقاصد الشريعة المعظمة، الهادفة إلى تضييق دائرة الضرر بقدر الإمكان.

وأذكر في هذا الصد أن الغزالي رحمه الله سئل عن حكم تارك الصلاة، وربما كان السائل ينتظر من الشيخ أن يقول له: تارك الصلاة كافر أو فاسق؟ لكن الشيخ بحكمته ونظرته المقصدية قال له: حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد.

فمثل هذه الثقافة ينبغي أن تُنشر في المجتمع، وأن يتعلمها الناس كما يتعلمون أحكام الوضوء والصلاة.

الضمانة[4] الوازع السلطاني:

والأصل في هذا الوازع القاعدة للفقهية :"تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة". منوط أي مرتبط ومعلق، ومعنى القاعدة: أن تصرف السلطان ومن يمثله على مستوى المصالح المختلفة، يجب أن يكون مبنيا على ما يحقق المصلحة العامة للرعية، بأن يسن من القوانين ما يحفظ لرعيته دينهم وأنفسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم، وأن يفعل تلك القوانين في الواقع والوجود، لأن منزلة السلطان من الرعية كمنزلة الولي من اليتيم كما قال الفقهاء؛ ولأن من النفوس ما لا ينزجر بوازع ديني ولا بوازع اجتماعي ولا بوازع فطري، فلهذا قال سيدنا عثمان رضي الله عنه:"إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وقالوا : من صفات الحاكم الحازم أن يجعل رعيته تحبه لعدله وتهابه لبطشه.

والخلاصة:

أن هذه الضامنات الأربع لا بد منها إذا أردنا أن نصنع مجتمعا فاضلا متحضرا، مطمئنا نفسيا، وآمنا فكريا واجتماعيا..

ولتحقيقها في الواقع والوجود ينبغي أن تتظافر جميع الجهود، من أجل التوعية ونشر الثقافة النافعة، على مختلف المستويات، في المساجد والمؤسسات التربوية، وفي دور الشباب والمراكز الثقافية، وفي المناسبات المختلفة كالمآتم والأفراح، وحتى في ومواقع التواصل الاجتماعي، وكان من المفترض ان يُستغل الفيسبوك ليكون وسيلة اعلامية هادفة ونافعة للمجتمع، لا أن يبقى عبارة عن بؤرة للمهاكرات الكلامية، أو منصة للسب والشتم والغمز واللمز، وتتبع العورات والعثرات والاهتمام بالتفاهات واستعراض العضلات.

وقفنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين