......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الأربعاء، 1 أبريل 2020

تعليق على قرار غلق المساجد بسبب وباء كرونا

رغم الألم الذي يعتصر قلوبَنا بسبب غلق المساجد، إلا أنه لا ما كان للمشاعر والعواطف أمام ما يقرره الشرع ويصدقه العقل، فنعم القرار الذي اهتدت إليه لجنة الإفتاء بعد تردد وتهيب، فإنه لا يصح أبدا - أمام ما نشهده اليوم من حرب مدمرة بالفيروسات القاتلة - تركُ المساجد مفتحة، والسماح للناس بارتيادها والاجتماع فيها خمس مراة في اليوم والليلة كما جاء في البيان السابق الذي لم يكن مقنعا، لأن ذلك تغرير بالأنفس، لكونه مظنة للعدوى ونقل الفيروس في أي لحظة، والضرر المتوقع حكمه حكم الضرر الواقع في وجوب دفعه والحيلولة دون وقوعه، تطيقا للقاعدة الفقهية : "الضرر يدفع بقدر الإمكان".

وذلك لا يتحقق بتقصير مدة الاجتماع في المسجد لأداء الصلاة جماعة كما ذكرنا في منشورات سابقة، فعطسة واحدة في ثانية كافية لهلاك خلق كثير إذا ما كان صاحبُها مكْرونًا والعياذ بالله. وقد أمرت الشريعة المعظمة أمرا حاسما بــ (منع الإفعال المشروعة المؤدية إلى مفسدة قطعا أو ظنا) وهو ما يسميه العلماء بــ "اعتبار المآل"
وقد اتفق العلماء على ميزان شرعي يهتدون من خلاله إلى الترجيح به بين المصالح والمفاسد أو بين المأمورات والمنهيات المتعارضة، ومن ذلك ما ذكره الشاطبي في موافقاته وأطال في بسط تطبيقاته ودلائله:

 الْمَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ لِلْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّةِ
اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ يَلْــزَمُ مِنْهُ اخْتِــلَالُ الْبَاقِيَيْنِ
لَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْبَاقِيَيْنِ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ

وهو ما أشرت إليه ضمن هذه الأبيات :

فَــــمَـــا عَــــلَى فَـوَاتَـــــهِ تَـــرَتَّــبَا        الْهَـــلَاكُ سَـــمِّ بِالضَّـــرُورِي دَائِبًا
ومـا بِفْــــوتِهِ تَــــَرتَّــبَ الحَــــرَجْ      فحـــاجيٌ يُحْفَـــظُ جَـلْـبًا لِلْفَــــــرَجْ
وَمَـا أَتَـى فِي عــادَةٍ مُسْتَحْسَـنَا       كَسَتْــرِ عَـــوْرَةٍ  فَتَـحْسِيـــنِي لَـنَا
وَحَـاجِيٌ أَصْـــلٌ لِتَـحْسِينِي كَـمَا       أَنَّ الضَّــرُورِيْ هُـوَ أَصْــــلٌ لَهُــمَا
والفـرْعُ بِاخْتِلَالِ الَاصْلِ يَنْخَرِمْ       مِـنْ غَيْرِ عَكْسٍ  فَلِذَا صُنِ الأَهَمْ

ومعنى ذلك : إذا تعارضت مصلحة ضرورية مع مصلحة حاجية، فإننا نهمل الحاجية في سبيل المحافظة على الضرورية التي هو أصل المصلحة؛ لأن اختلال الأصل يؤدي إلى اختلال الفرع من باب أولى.
ومن أمثلة ذلك: تعارض مصلحة حفظ النفس [وهي مصلحة ضرورية] مع بعض مصلحة حاجية كأداء الصلاة جماعةً، فلو أهملنا المصلحة الحاجية هاهنا، لأحرزنا بإهمالها مصلحة ضرورية، وهي [ حفظ النفس] أما لو التزمنا المصلحة الحاجية - وهي غير متوفرة إلا بأداء الصلاة جماعة - فإن ذلك سيفوت علينا المصلحة الضرورية، التي هي أصل للحاجية، فإذا فاتت الضرورية فاتت معها الحاجية أيضا، من حيث أريد إحرازُها والمحافظةُ عليها.

وإذا لم تستثمر هذه الأصول الشرعية - المتفق عليها - في حماية أرواح الناس من هذا الوباء القاتل فما عسانا فاعلين بها ؟
وينبغي لعموم المسلمين أن يفقهوا مثل هذه الحقائق ليكونوا على بصيرة من أمرهم، وعلى قناعة بما يفعلون، حتى لا يقعوا في شباك المرجفين من الرويبضات الذين يهرفون بما لا يعرفون.

وأجر الجماعة ثابت للجميع إن شاء الله تعالى، فقد جمع العلامة ابن رشد بين أقوال فقهاء المذهب المالكي في حكم صلاة الجماعة فقال: "هي فرض كفاية في البلد ، وسنة في كل مسجد ، وفضيلة في حق كل فرد"هـ
وبما أن الإمام الراتب يقوم مقام الجماعة اتفاقا ، فإن الفريضة الكفائية لا تزال قائمة ، فلو أذَّن إمام مسجد مالك بن أنس - مثلا - وصلى وحده لسقط الإثم عن التلاغمة كلِّها ، فكيف وكلُّ المساجد تؤذن ويصلي أئمتها الراتبون ، فهذا يعني أن الفريضة الكفائية و السنة لم يتعطلْ أيٌّ منهما ..
ولم تفت إلا الفضلية بالنسبة للأفراد ، وفواتُها هنا أفضلُ من تحصيلِها بكثير، لما يترتب عن فواتها من تحصيل مصلحة حفظ النفس، التي لأجل صونها أباح الشارع أكل الميتة والخنزير، وأباح تركَ الصيام والوضوء والغسل ...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق