بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى ثم الصلاة والسلام على النبي المصطفى وآله وصحبه الشرفا، وبعد:
فإن من أعظم الفتن التي يُستعاذ بالله منها، مصيبة الاستخفاف بالعلماء وبأهل القرآن، فهي فتنة متعدية الآثار، آيلة إلى سقوط مكانة وهيبة أهل العلم في أعين الناس، وإذا سقطت هيبة هؤلاء فممن سيأخذ الناس أمر دينهم؟ ومن سيقف حاميا للشريعة المعظمة من التحريف والتزييف؟ ومن سيحمل ميراث النبوة للأجيال المتعاقبة؟
ولأجل ذلك فخمت الشريعة المعظمة شأن هذه الطائفة، واعتبرت الاستخفاف بها استخفافا بالدين والقرآن، ومن ذلك قوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ"هـ
وقد بين العلماء أنها نزلت في طائفة من المنافقين في غزوة تبوك قالوا في مجلس لهم: "ما رأينا مِثل قرَّائنا هؤلاء أرغبَ بطونًا، ولا أجبنَ عند اللقاء"هـ
قال سيدنا عبدالله بن عمر رضي الله عنه: أنا رأيته [أي القائل ذلك] متعلقًا بحقب ناقة رسول الله وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله يقول له: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ فكان الاستهزاء بحملة القرآن استهزاء بالله وآياته ..
وحذرت الشريعة من حضور المجالس التي يُستهزأ فيها بالقرآن وأهله ، قال تعالى :"وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ"هـ
وهذا ينطبق على تلك المجالس التي تنعقد في بعض القنوات ويُستخف فيها بأهل العلم وأهل القرآن.
وبالمقابل نوهت الشريعة بمكانة حملة القرآن ووصفتهم بالربانيين ، قال جل ثناؤه : "كُونوا رَبانيينَ بِما كُنتُم تُعلِمونَ الكِتابَ وَبِما كُنتم تَدرُسون"هـ
والمعنى - والله أعلم بمراده - : كونوا ربانيين بتعلمكم وتعليمكم ومدارستكم للقرآن العظيم، والربانية التي وُصِف بها حملة القرآن هي أعظم نسبة ينسب بها العبد إلى مولاه من بعد النبوة.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل العلم وأهل القرآن هم خلفاؤه وورثته من بعده فقال :"وإن العلماءَ وَرَثةُ الأنبياء وإن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهًما ولكن ورَّثوا العلمَ فمن أَخَذه أخذ بحظ وافر"هـ
وقال أيضا : "من أَوتى القرآن فكأَنما أُدْرجتِ النبوّة بين جنبيه، إِلاَّ أَنّه لم يوحَ إِليه"هـ
وإذا كان الشريعة المعظمة قد عظمت شأن هذا الطائفة، فإنه من الواجب على الأمة أن تعظمها وترعى لها حقوقها، فإن تعظيمها من تعظيم الله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ"هـ.
وكيف للأمة تؤمن بالله ورسوله أن تحقر ما عظم الله ؟ أو تضع ما رفع الله ؟ وقد بين سبحانه وتعالى أنه رفع أهل العلم درجات علية، فقال جل شأنه:"يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"هـ. ومن وضعهم فقد وضع ما رفع الله.
وجاء في الحديث الشريف: "من أعطي القرآن فرأى أن أحدا قد أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله" هـ . ولا جرم أن المستخف بحامل القرآن مصغر ومحقر لما قد عظم الله تعالى.
والمجتمع الجزائري معروف عبر تاريخه بتوقيره لأهل القرآن وإجلاله للعلماء، واتخاذهم مرجعا للفصل والحسم في ما يلم به من قضايا دينه ودنياه ..
إلا أننا في الآونة الأخيرة لاحظنا استخفافا وازدراء بالأئمة، الذين قد جمعوا بين العلم وحفظ والقرآن، وبين الدعوة إلى الله وحماية الوطن من الانهيار والتقسيم والانزلاق، وتلك بلية عظيمة لم تشهد الجزائر مثلها أبدا، وإذا لم تعالج في حينها، وتوأد في مهدها فستترتب عليها نتائج وخيمة، تعصف بتماسك شعبنا وبمرجعيته الدينية وثوابته الوطنية.
لقد تجلى الاستحفاف بالسادة الأئمة في مواقف شتى ، منها تصريحات بعض الأشخاص، الذين هم على رأس هيئات رسمية، ومنها تجاهل معاناة الأئمة التي اضطرتهم إلى أن يخرجوا إلى الشارع مستغيثين، ملفتين نظر الرأي العام إلى ما قد وصلت إليه حالتهم، من المعيشة المزرية، ومن الاعتداءات الجسدية والمعنوية، وكأنهم أقلية مضطهدة لا حق لها في هذا الوطن، الذي لم يدخروا جهدا في حماية أمنه وثوابته ومقدساته واستكمال رسالة شهدائه، ومللأوا أرجاءه علما وقرآنا وتزكية وإحسانا .. ولولا جهودهم المتواصلة لتصدعت أركانه، وانهار بنيانه، وأكل أهله بعضهم بعضا كالوحوش الضارية ..
وكان من نتائج الاستخفاف بالأئمة أن تجرأ عليهم المخنثون، ومن لا حظ لهم في دين ولا وطنية، كما قد رأينا ورأى العالم أجمع في بعض قنواتنا الفضائية، وهذه مصيبة عظمى لم تشهد الجزائر مثلها من قبل ..
وتشويه صورة الأئمة هو - بلا شك - مؤامرة مقصودة ، كتلك التي طالت مؤسساتنا العسكرية أيام الفراغ الرئاسي، والتي تصدينا لها في حينها وكشفنا عن أهدافها في خطاباتنا المنبرية ..
أما هذه فهي أكبر من أختها، وأهدافها واضحة، وهي أن أطرافا أمشاجا مستفيدة من حملة ضرب مصداقية الأئمة:
* منها طراف ذات اتجاهات تغربية، تسعى - بدعم فرنسي - إلى طمس شخصية المجتمع الجزائري وسلخه عن قيمه وأصالته، وزعزعة بنيانه الثقافي والاجتماعي.
* ومنها أطراف ذات اتجاهات عقائدية طائفية، تسعى هي الأخرى - بدعم خارجي متعدد - إلى الاستحواذ على المؤسسات الدينية، من أجل تمرير أفكارها ونشر عقائدها، لتحل محل المرجعية الدينية الأصيلة للمجتمع الجزائري، ولذلك هم يسعون بكل الوسائل إلى تشكيكه في تراثه الفقهي والعقائدي والسلوكي، والطعن في رواد مرجعيته ورميهم بالبدعة والضلالة.
ولا يمكن لتلك المؤامرة الخبيثة - بشقَيْها - أن تنجح وتحقق نتائجها، والمجتمع الجزائري محمي بأئمة - أولى فكر وسطي معتدل - يتلون عليه آيات ربه، ويعلمونه أمور دينه، ويربطون حاضره بماضيه المجيد، ويحمونه من عوامل التفكك الأسري والانهيار الخلقي، ومن العقائد والأفكار المتطرفة الدخيلة على ثقافته.
فلذلك تلاقى اتفاق الطرفين - عمليا - على ضرورة تشويه صورة الأئمة، وضرب مصداقيتهم، وأسقاط هيبتهم في عيون الناس، وجعلهم في محل دفاع عن أنفسهم بدل الدفاع شعبهم ووطنهم .. حتى يتسنى لكل منهما الوصول إلى بغيته.
ومن هنا يتضح جليا أن المستهدف - من خلال هذه الحملة - ليس شخص الإمام ، وإنما هو مشـروع الإمام ورسالته.
وبناء على ما تقدم فإنه :
* يتعين على الأئمة - بالدرجة الولى - أن يتصدوا لهذه المؤامرة الخبيثة، بكشف أهادفها ومآلاتها، وبتوعية الأمة وتنبيهها إلى حجم المؤامرة ومخاطرها، على غرار مسلكنا في التصدي لمؤامرة ضرب مصداقية الجيش، وكشف مخاطر المرحلة الانتقالية والمجلس التأسيسي، وهذا يتطلب من الأئمة أن يوحدوا صفوفهم ويتجاوزا خلافاتهم، وأن يطلقوا - البتة - التراجع والروح الانهزامية، وأن يدركوا أنهم أصحاب قضية مشروعة، وأن ما يناضلون من أجله من مطالب تتعدى آثارُه أشخاصَهم إلى حفظ المصلحة العليا للإسلام والوطن.
* كما يتعين على عموم الأمة أن تساندهم وتتكاتف معهم، لمل سبق بيانه من إجلال حملة العلم والقرآن، ولأنها هي المستهدفة في عقيدتها ومرجعيتها وشخصيتها الإسلامية، فإذا خذلت حُماتَها فقد خذلت نفسَها، وإذا فرطت في حراس دينها فقد ضيعت دينها ..
* كما يتعين على الحاكم ومن ينوبه أن يتدخل لإيجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلة بصفة نهائية، من خلال النظر بجدية في معاناة الأئمة، وتحقيق مطالبهم المعقولة، ورد الاعتبار لهم وحمايتهم من الإرهاب الفكري الذي يمارس عليهم في مساجدهم، ومن كل التجاوزات الواقعة عليهم، باعتبارهم هيئة دينية رسمية واقعة في أعلى المراتب؛ إذ لا قوام لبقية مؤسسات الدولة بدونها ..
وليس من المعقول أن يقف الحاكم من رعيته موقف المتفرج على الديكة المتصارعة، التي يحرش الصبيان وسفهاء الأحلام بينها، فإنه مسؤول - أمام الله وأمام الأمة - على حفظ النظام،وعلى رعاية مصالح رعيته بمختلف شرائحها وهيئاتها، وقد أقسم وأتته الأمة مواثيقَها على ذلك ، فإن نكث أو فرط فقد خان قسمه وأمته، وإن الله تعالى يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن.
أسأل الله أن يكتب لهذه النصائح القبول وأن يفتح لهل القلوب والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق