......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 26 ديسمبر 2019

من أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في مصائبها ومن أراد معرفة سرائر الأعمال فليراقبها في خواتمها


[صدقة على روح القائد صالح رحمه الله]
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه،ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتجهز به إلى يوم لقائه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أما بعد/ أيها الإخوة المؤمنون: قد تعودنا أن يكون خطابنا مسايرا لمناسبات الأمة ووقائعها ونوازلها، حتى يكون ملبيا لاحتياجات الناس، بالإجابة عن اهتماماتهم وتساؤلاتهم، وإعطاء البيان الشرعي لكل ما يلم بهم ويشغل أذهانهم ... وإننا في هذه الأيام .. قد ألمت بنا نازلة موجعة، جرحت أكبادنا ، وآلمت قلوبنا، وأدمعت عيوننا، وأثقلت كواهلنا، وأخرست ألسنتنا، وضيقتِ الأرضَ بما رحبت من حولِنا ...
أحبتي الكرام:  ذلك هو الوصف الموجز لما عاشه شعبنا، يوم أن نبئنا بفقد أبز قائد من قادتنا، ألا وهو المجاهد أحمد قائد صالح تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته، ولقد صدق من قال: "من أراد ان يعرف أخلاق الأمة فليراقبها في أحزانها وأفراحها "، فلقد تجلت كل الأخلاق النبيلة الكامنة في أوصال المجتمع الجزائري لدى ذا المصاب الجلل، والتي كان من أبرزها : الوطنية والوفاء والالتحام ، ونسيان كل خلاف لدى الشدائد والمصائب العظام، حيث تهلهل الشعب كله باكيا قائدَه، مؤازرا جيشه، متكاتفا مع بعضه، مجسدا في واقعه ، قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى" رواه مسلم.
فكانت تلك الهبة التضامنية رسالة ميدانية قوية من هذا الشعب إلى فرنسا وعبيدها وعملائها، بأننا لمؤامرة التفرقة لمدركون، وإننا مع جيشنا لمتلاحمون، ولما انتهجه قائده وأشباله في استئصال شجرتكم الخبيثة لمنفذون، وإننا على العهد الوطني النوفمبري لماضون وبه موفون ومصدقون...    
أيها الأحبة الكرام: لا جرم أن الوفاء الذي أظهره شعبنا لقائد جيشه لهو دليل على نبله وشهامته وطيب معدنه؛ فالوفاء من أخلاق المؤمنين الأتقياء، ومن شيم الرجال الفضلاء، وشمائل النبلاء، وقد قيل:
إنَّ الوفــــاءَ على الكريمِ فريضةٌ  ***  واللؤمُ مقرون بذي الإخلافِ
وترى الكريم لمن يعاشرُ منصفًا  ***  وترى اللئيمَ مجانبَ الإنصافِ
وقال آخر:
 عـشْ ألــفَ عامٍ للـــوفاءِ وقلّما *** ســادَ امـــرؤٌ إِلا بحفــظِ وفائهِ
وهذا وقد ضرب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة في خلق الوفاء، حتى أنه كان يكرم صديقات خديجة من بعد وفاتها، وكان يكثر من ذكرها، ويعلل ذلك بقوله:"... لَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وآوَتْنِي إِذْ رَفَضَنِي النَّاسُ..".
فدل ذلك على أن حفظ العهد لأرباب الفضل وصُنَّاع المعروف، من أسمى مقامات الوفاء،  ولا خير فينا إن لم نذكر هؤلاء ونرعى لهم عهدهم، ومنهم المجاهد أحمد قائد صالح رحمه الله،  الذي ضحى من أجل وطنه وشعبه بحياته ، فجاهد الغزاة الفرنسيين في صغره ، وخاض المعارك، وقاد الجيوش، وقطع الفيافي، وسكن الجبال، وتحمل المعاناة من أجل الدفاع عن هذا الوطن وعن هذا الشعب..  
ثم بعد الاستقلال واصل كفاحه ونضاله، مجسدا مقولة أسلافه من الشهداء الأبرار :"إذا متنا فدافعوا عن أرواحنا نحن خلقنا من أجل أن نموت ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة". فعمل القائد صالح رحمه الله بصمت وصدق وإخلاص على  استكمال مسيرة الشهداء، فحمى ثغور الوطن، وقضى ما يربو عن ستين عاما ما بين جهاد ورباط في سبيل الله، وارتقى بجيشه إلى أعالي المستويات، التي تواكب ما تتطلبه المرحلة من تقنيات التكنولوجيا الحديثة، وصنع منه أشبالا تتصدع الجبال أمام صلابتهم، ويفل الحديد أمام عزمهم، وتفرق الأسود من صولتهم ...
ويوم أن تلاقى اتفاق الأعادي وعملائهم على طمس هوية هذا الوطن، والعبث بمصيره ، وخرج الشعب هاتفا بالتغيير، وأوحى شياطين الإنس بعضهم إلى بعض بإغراق هذا الشعب الثائر الهادئ في حمامات من الدم،    وقف المجاهد أحمد قائد صالح حاميا لشعبه ، وأقسم بالله العظيم ألا تسيل قطرة دم واحدة، وهجر بيته وأهله وأولاده، ونذر نفسه لحماية شعبه ووطنه، وأدرك حجم المؤامرة التي تزول الجبال من مكرها ؛ والهادفة إلى تقسيم الجزائر وطمس معالم هُويتها،  فواجهها بخطى ثابتة، وتصدى لها بحنكة سياسية ثاقبة، وعبقرية عسكرية فذة، وعزيمة إيمانية صلبة، وشجاعة بطولية نادرة ... غير عابئ بتهديدات العدو الخارجية، ولا بمؤامرات العملاء الداخلية، وظل ثابتا كالطود الشامخ غير متأثر بشتائم السفهاء، ولا ملتفت إلى الدعايات الهدامة للأوغاد واللؤماء .... حتى اقتلع جذور الخونة الفاسدين، وبلغ بشعبه ووطنه بر الأمان، موفيا بالعهد الذي قطعه أول مرة، بارا بقسمه بألا تسيل قطرة دم واحدة..
وبعد أن أنجز وعده، وأدى أمانته، وسلم المشعل إلى أهله، أرسل الله ملائكته يوم الاثنين ليأخذوه إلى دار مُقامته، كأسلافه الماضين الذين صدقوا الله فصدقهم. " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ليجزي الله الصادقين بصدقهم".  
فكانت موتة هذا القائد أمارة من أمارات العناية الإلهية بهذا الوطن المعطر بدماء الشهداء؛ فما قبضه الله حتى أتم مهمتَه، وأبلغ شعبَه مأمنَه، وصدق من قال: إن الجزائر في أحوالها عجب ... كما كانت موتتُه – التي جمعت شعبَنا على كلمة سواء - علامة من علامات حسن الخاتمة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ، قِيلَ وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ " رواه أحمد. وهل ترون – أيها الناس – عملا صالحا أسمى وأجل من الجهاد والرباط في سبيل الله ؟ ومن حقن دماء الأمة؟ وتفويت الفرصة على على أعدائها؟ ومن التجاوز على السفهاء الذين لم يدعوا مسبة ولا تهمة إلا وجهوها إليه، وقد كان قادرا على أن ينتقم بالحق والعدل منهم ، ولكنه لم يفعل، بل قابلهم بالحلم والتجاهل، ونظر إليهم كما ينظر الوالد الكبير إلى أولاده الصغار الذين قد يؤذونه فلا يزيد على أن يبتسم ثم يمضي إلى شأنه، وتلك شيم العظماء الذين لا يقابلون السيئةَ بالسيئةِ ولا ينتقمون لأنفسهم، فإن تعلق الأمر بمصلحة الأمة وأمنها العام، كان انتقامهم باسلا مرا مذاقته كطعم العلقم ..
وعلاوة على ما ذكرت لكم من مناقب هذا القائد : فإن الله تعالى قد كتب له القبول فبكته وشيعته الملايين، وقد كان الإمام احمد رحمه الله يقول لأهل البدع: "بيننا وبينكم الجنائز". والله أعلم حيث يضع قبوله وهو القائل جل ثناؤه:" إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ". وإنما لنا الظواهر ولله السرائر.
 هذا وإن من محاسنه التي أمرنا الشارع بذكرها: أنه قد بنى مدرسة قرآنية بعين يقوت وجعلها وقفا وصدقة جارية لله تعالى، وبنى مسجدا بعنابة وسماه باسم الشهيد زيغود يوسف رحمه الله تعالى. ومن دلائل حسن خاتمته أن وقفت الملايين من المسلمين داخل هذا الوطن وخارجه كلهم يترحمون عليه ويتصدقون ويعتمرون ، وتلك مكرمة لم يحظ بها حتى العلماء.. فأي خبيئة وأي سريرة كانت بينك وبين الله أيها القائد العظيم، ذلك ظننا وهو أملنا ولا نزكى على ربنا احدا فهو وحده الأعلم بمن اتقى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، ثم الصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه الشُّرفاء، المستكملين الشَّرفا، وبعد/
أحبتي الكرام: رغم هول الفاجعة فإننا نستقبلها بما علمنا ربنا :"وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ  الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ". ونستلهم منها:
1-    أن العمر مهما طالت فلا بد من دخول القبر، كما أن الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر، فليحرص كل منا على أن يخلف أثرا طيبا يستجلب له الترحم من بعد موته ..

2-    وأن الأعمال بخواتمها .. فليحرص كل منا على أن تكون له خبيئة سرية بينه وبين ربه عسى الله أن يحسن بها خاتمته .  

3-    وأننا عندما عندما نعيش الأنفسنا تبدو لنا الحياة قصيرة ورخيصة، أما حينما نعيش لقضية فتبدو لنا الحياة طويلة وممتعة، فلنحرص على أن نعيش لديننا ووطننا كما قال العلامة ابن باديس:" أعيش للإسلام والجزائر". ولنحافظْ على اللحمة التي أظهرها شعبنا لدى هذا المصاب الجلل، فنستثمرها في الحفاظ على وحدة الجزائر وأمنها واستقرارها والتقريب بين جميع أبنائها؛ فإن الجزائر عهد عقبة بن نافع في ذمتنا، وأمانة الشهداء في أعناقنا، فاحفظوا الأمانة وصونوا الوديعة، ولا تعطوا الفرصة لأي مرجف أن يعبث بوحدتكم وأمنكم واستقراركم، وكونوا يدا واحدة على من سواكم، يحدوكم في ذلك قوله تعالى :" وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ".
وسيروا وأبشوا ؛ فإن مطلع فجر الجزائر قد اقترب، وسيعود إلينا من أمجادنا ما قد ذهـب... وستخيب بإذن الله مساعي الناعقين بالفتنة والفرقة والفساد، فالله سبحانه وتعالى لا يصلح عمل المفسدين ، كما أنه يضيع أجر المحسنين.
ونسأل الله تعالى أن يرحم فقيد الوطن أحمد قائد صالح، وأن يغفر له ويعفو عنه ، وأن يلحقه بالشهداء والصالحين، ونسأله تعالى أن يمن علينا في هذه البقعة الطاهرة بالأمن والاستقرار ، والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ومن أرادنا بسوء فنسأل الله أن يجعل تدبيره في نحره وأن يشغله بنفسه .
ونسأل الله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة، ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل ، وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض. ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق ، وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق