......................................................................... ..... ..................................كل الحقوق محفوظة لمؤلف المدونة

بحث في هذه المدونة

الخميس، 14 مارس 2019

ذكرى يوم النصر : بين التضحيات والتحديات


الخطبة الأولى

الحمد لله حق حمده ، والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده ، نحمده تعالى على تفضله وإنعامه ، ولطفه وإحسانه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدا عبد الله و رسوله  ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد/

أيها الإخوة الكرام:

في هذا الأسبوع تهل علينا ذكرى يومِ النصر، وما أدراك ما يومُ النصر ، ذلكم اليوم الذي صدر فيه القرار بتوقيف القتال، بين جيش التحرير الجزائري والجيوش الصليبية الغازية ، وكان ذلك في 19 مارس 1962م. فوضعت الحرب أوزارها، وتوالت البشائر بالنصر المبين ، بعد تلك التضحيات الجسام  التي قدمها شعب الجزائري،  في سبيل عقيدته وحريته ، فكان هذا اليوم الأغر الأزهر فاصلا بين مرحلتين ، مرحلة الظلم والاستدمار، ومرحلة العدل والسيادة والانتصار ، ولذلك  سمي هذا اليوم بيوم النصر:

* إقرارا بفضل الله القائل جل ثناؤه: "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ "

* وابتهاجا بما أولانا سبحانه وتعالى من نعمة النصر.  وهو ابتهاج مشروع لقوله تعالى : "وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ  بِنَصْرِ اللَّه".

ثم تخليدا للتضحيات الجسام التي قدمها الشعب الجزائري العظيم، الذي أرادت فرنسا الصليبة – ومن ورائها الحلف الأطلسي – أن تسلخه عن عروبته، وأن تطمس معالم هُويته ...  وحين أبي أن يروم إدماجا  له أو يحيد عن أصله،  قابلته بالتقتيل ، ومارست عليه كل أساليب القمع الوحشي، متجردة من كل القيم الإنسانية، ومتجاوزة كل الأعراف والمواثيق الدولية، فلم ترحم منا صغيرا ولا كبيرا، ولا رجلا ولا امرأة ، ودمرت مساكننا وقرانا ومداشرنا من فوق رؤوسنا ...  

وحينئذ أدرك هذا الشعب أن ما أخذ منه بالقوة،  لا يُسترد إلا بها، وفَقِهَ جيدا قولَ الحق جل جلاله : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".  فشرع في التغيير الحاسم ، من خلال ثورة التحرير المباركة، التي أخذت تشق طريقَها نحو فجر الحرية والنصر والسيادة ...

 وقيل لفرنسا العجوز :

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكــتاب
 يا فرنسا إن ذا يوم الـحــساب فاستعدي وخذي منــا الجواب
 ..............إن في ثــورتنا فصل الـخطاب ...............

وقيل للعالم أجمع:

لـم يكن يصغى لنا لـما نطــقنا   فاتـخذنا رنة البـارود وزنــا

وتــــــــــــــوالت قوافل الشهداء ... تسقي ربوع الجزائر بالدماء الطاهرة الزكية .. ولم يشهد التاريخ بقعة من الأرض ارتوت بدماء الشهداء ، كأرض الجزائر التي دفعت ثمن حريتها مليونا ونصف مليون من الشهداء أو يزيدون ..

أيها الإخوة الكرام: إن النصر نعمة عظيمة، امتن الله بها على عباده فقال: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "
وإن هذا النص القرآني لينطبق – بعموم لفظه - على يوم نصرنا هذا .. وعلى قضيتنا في هذته البقعة من الأرض،  فينبغي أن نستشعر جلال هذه النعمة، وأن نشكر الله عليها ، وأن نعمل على صونها من كل ما يخل بها، فالمحافظة على النصر بعد إحرازه، أعظم من تحقيقه في بادئ الأمر، ومن صور صون نعمة النصر:

أولا: العمل على بناء الوطن، وعمارته بكل ما يوصل إلى الخير والنمو والازدهار ...

وثانيا: العمل على تعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية أواصرها بين أفراد مجتمعنا، بمختلف مكوناته  الثقافية، وأنسجته الاجتماعية؛ فالوحدة الوطنية هي السبيل إلى بناء الوطن، والارتقاء به إلى مدراج الكمال ...

وثالثا:  الحذر من مكائد أعدائنا، فهم لا ييأسون أبدا من التحريش بيننا، وبث الفرقة في أوساطنا،
وما فتئوا يفسدون علينا ديننا وعقولنا، بما يلقون إلينا من أفكار مسمومة، وثقافات ماجنة، تنخر قوانا من داخلنا، يعمل على تجسيدها أذناب الاستعمار من بني جلدتنا، الذين بواعوا دينهم ووطنيتهم بعرض من الدنيا قليل.

رابعا :العمل على أن نظل مستمسكين بقيمنا الروحية وأخلاقنا الإسلامية، فهي عامل انتصارنا، وسر قوتنا.

أيها الإخوة الكرام: بالإضافة إلى ما سبق ، فإنه لا يجوز أن ننسى تاريخنا وتضحياتنا شهدائنا الأبرار،  الذين كانوا سببا في تحقيق هذا الانتصار، فاذكروا أمهاتكم اللائي متن تحت التعذيب، دون أن ينطقن بكلمة واحدة تمس بأمن ثورتنا المقدسة ، واذكروا أجدادكم الذين صاحوا بأعلى أصواتهم قائلين واقض يا موت في ما أنت قاض * أنا راض إن عاش شعبي سعيدا * أنــا إن مـت فالجزائـر تـحـيا * حـرة مستـقلـة لن تبيـدا..
وإنكم اليوم تتمتعون برغد العيش، وتأكلون مما لذ وطاب ، وتنعمون بالحرية والسيادة ، وتنامون في دياركم آمنين مطمئنين ، من أين لكم هذا؟  لولا الله ثم تضحيات الشهداء الأبرار، والقرآن العظيم يقول لنا :" وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ". وأي فضل أعظم من فضل الشهداء ، الذين قدموا أرواحهم رخيصة ؛ من أجل أن نعيش في جزائرنا سادة معززين مكرمين.

أيها الناس: إننا نذكر تلك التضحيات ، ونذكر بها الأجيال الحاضرة واللاحقة، من أجل  تجديد العهد للشهداء الأبرار، والوفاء لهم ، والمحافظة على الأمانة التي استودعونا  إياها،  وما أدراك ما أمانة الشهداء ؟  إنها الجزائر أيها الأحبة. جزائر الإسلام والعروبة .. جزائر العزة والإباء .. جزائرالبطولة والشجاعة .. جزائر الخيرات والبركات .. التي قال فيها مولانا الثعالبي قدس الله سره:

 إنّ الجزائـــر في أحوالها عجـب  ** ولا يدوم بها للناس مكـروه 
 ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع ** إلا ويُسر من الرحمن يتلـوه  

وحفظ أمانة الشهداء إنما يتم بالمحافظة على لحمة الجزائر ووحدتها وتماسكها،  وأمنها واستقرارها، ودينا ولغتها .. والوقوف في وجه أي مشروع يهدف الى تمزيقها أو طمس هويتها الوطنية ..

لا سيما في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، التي تشهد فيها بلادُنا مظاهرات سلمية، بأساليب حضارية، قوبلت بتفهم ومرونة من قِبل أجهزتنا الأمنية المختلفة .. وهو أمر يغيض – ولا شك - الأبالسة من الإنس والجن أجمعين .. إذ كانوا ولا يزالون يأملون تحول الحراك إلى عراك .. وعلى رأس هؤلاء فرنسا وعلوجُها راضعوا ألبانها.. وستخيب آمالهم .. وتنطفئ نيرانهم بإذن الله تعالى..

ووصيتي لكم اليوم – أمام هذه التحديات -  حكاما ومحكومين - هي أن تجعلوا مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ، وأن تحافظوا على سلميتكم وهدوئكم وسلوككم الحضاري ..  فإن الحبيب عليه الصلاة والسلام يقول: "إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ".

واحذروا ثم احذروا .. المندسين في أوساطكم لأجل الوقيعة بينكم .. وتجنبوا لغة التهكم والشتم الباعثة على التنفير والكراهية .. فالسلمية ينبغي أن تتجلى في الأقوال والأفعال .. واقتدوا بنبيكم   عليه الصلاة والسلام  الذي لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا طعانا ولا لعانا .. وكان يتألف حتى المشركين ويستميل قلوبَهم بالكلمة الطيبة والقول الحسن .. مراعاة لما تقتضيه المصلحة العامة للإسلام .. وسدا للذرائع الموغرة للصدور .. وبذلك استطاع عليه الصلاة والسلام تغيير العالم أجمع.

وتحلوا بالحكمة والعقلانية والمنطقية .. والزموا المشورة والحوار .. واتقوا الله عز وجل في وطنكم.. ولا تشمتوا به الأعداء .. وابتهلوا إليه سبحانه وتعالى بالدعاء بأن يرفع عنا المحن والإحن .. وأن يجمع كلمتنا على الحق والدين .. وأن يحكم بين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين .. وبهذا الأسلوب الذي ذكرت لكم تحفظون أمانة الشهداء .. وترعَوْن النصر الذي أحرزوه .. وتفوتون الفرصة على أعداء الإسلام والجزائر أيا كانوا .. وبإذن الله تعالى سنخرج من أزمتنا سالمين غانمين، وكم تجاوزنا عبر تاريخنا من أزمات  أخطر من هذه وأشد ؟ أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وآله وصحبه الشرفاء ، وبعد:

عباد الله أوصيكم ونفسي المخطئة المذنبة بتقوى الله ، فاتقوا الله حق تقواه ، وراقبوه مراقبة عبد يعلم يقينا أن الله مطلع عليه ويراه ، وتزودوا من هذه الدار الفانية للآخرة الباقية عملا صالحا يرضاه ، واعلموا أنكم من هذه الدنيا راحلون وإلى الله راجعون ، وبين يديه واقفون ، وعن أعمالكم محاسبون ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، ولا يظلم الله أحدا من العالمين ، وإن تكن حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما.

وإن الله قد أمركم بأمر عظيم ،  بدأه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه ، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه ، فقال عز من قائل ، ولم يزل قائلا عليما ، وآمرا حكيما :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

فاللهم وصل وسلم وبارك على البشير النذير ، والسراج المنير ، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار ، خصوصا على أجلهم قدرا وأرفعهم ذكرا ، ذوي المقام العلي والقدر الجلي ، ساداتنا وأئمتنا الفضلاء ، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة ، وعلى الحسنين الأحسنين أبي محمد الحسن وأبي عبدالله الحسين ، وعلى أمهما الزهراء وخديجة الكبرى وعائشة الرضى ، وبقية أزواج النبي المصطفى ، وعلى الصحابة أجمعين  ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

اللهم إننا قد رفعنا إليك أكف الضراعة، متوسلين إليك بصاحب الشفاعة ، فلا ترد خائبين يا أرحم الراحمين ، فاللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، واشف مرضانا وعاف مبتلانا ، وارحم والدينا ومن علمنا ....

ونسألك اللهم أن ترحم شهداءنا الأبرار ، وأن تمن علينا في هذه البقعة الطاهرة – الجزائر – بالأمن والاستقرار ، والعافية المعافاة ، الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، وأن تجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ومن أرادنا  بسوء  فاجعل  تدبيره في نحره واشغله بنفسه ...

ونسألك اللهم   ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل ، وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.

ونعوذ بك يا الله  ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق ، وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.




هناك تعليق واحد: