أصل هذا البحث محاضرة ألقاها علينا فضيلة أستاذنا الدكتور فيصل تليلاني بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة خلال السنة الدراسية 2009 / 2010م مع بعض التعديلات والإضافات الطفيفة، أقدمه للقارئ الكريم ؛ خدمة للعلم ونشرا لآثار أشياخنا الكرام.
أولا : تحرير محل الخلاف
أجمع العلماء على أن حرمة النكاح تثبت بالرضاع كما تثبت بالنسب
والمصاهرة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ".[1].
واختلفوا في مسائل ، منها المقدار الذي يحصل به التحريم.
ثانيا : بيان مذاهب الفقهاء في المسألة
اختلف العلماء في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب وبيانها كالآتي:
المذهب
الأول
يحصل التحريم بمطلق الرضاع ، فقليله وكثيره سواء ، وهو مذهب جمهور أهل العلم منهم الحنفية والمالكية
والثوري والأوزاعي ورواية عن الإمام أحمد ، وأصل هذا المذهب مروي عن الإمام علي وابن
عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
المذهب
الثاني
يحصل التحريم بثلاث رضعات
فأكثر، وهو مذهب داود الظاهري وأبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر.
المذهب
الثالث
يحصل التحريم بخمس رضعات
متفرقات ، وهو مذهب
الشافعي وابن حزم وظاهر الرواية عن الإمام أحمد ، وروي
ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، وإسحاق. [2]
ثالثا : أدلة كل فريق ومناقشتها
أدلة المذهب
الأول ومناقشتها
احتج أرباب المذهب الأول بالعديد من الأدلة ، نقتصر على ذكر أهمها :
1- قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ" [3]. ووجه الاستدلال : أن الشارع
علق التحريم بالرضاع ، من غير تقدير ولا تحديد ، فيُعمل به على إطلاقه ، وقد ورد
الرضاع مطلقا في السنة أيضا ، فقال صلى الله عليه وسلم :" يَحْرُمُ مِنَ
الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ".
وأجيب عن هذا بأنه مجمل بين شارع عدده ، أو مطلق قيدته السنة بالعدد
[4]
ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه زيادة على النص ، والزيادة على النص تعتبر
نسخا ، ولا يمكن لأحاديث الآحاد - التي ورد فيها التقييد بالعدد - أن تنسخ النص
القرآني المتواتر من حيث الثبوت.
2- احتجوا بما روي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
الحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عُزَيْزٍ، فَأَتَتْهُ
امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِي تَزَوَّجَ .... فَسَأَلَ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «كَيْفَ
وَقَدْ قِيلَ»، فَفَارَقَهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ[5]. ووجه
الاستدلال : أنه أمره بفراقها ولم يسأله عن
عدد الرضعات ، ولو كان التحريم لا يحصل بمطلق الرضاع ، وإنما يحصل بعدد معين ؛ لقال
له :" انظر كم مرة أرضعتكما ؟".
وأجيب : قد
يكون ترك الاستفسار عن عدد الرضعات ؛ لسبق بيانها منه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[6].
3- احتجوا
ببعض الآثار المروية عن الصحابة ، منها : ما روي عن ابن عُمَرَ أنه لما َقِيلَ
لَهُ : إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لَا تُحَرِّمُ
الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ ، قَالَ :
«قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ
قَضَائِكَ وَقَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ»[7]. وفي رواية البيهقي [8]:" كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَقُ مِنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ" وتلا قوله تعالى:
"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ". و روي مثله عن ابن مسعود. وأجيب
عن هذا بأنه معارض بمثله.
أدلة المذهب
الثاني ومناقشتها
احتج أرباب المذهب الثاني بالعديد من الأدلة أيضا ، نقتصر على ذكر أهمها
:
1- قوله عليه الصلاة والسلام :" لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ"[9].
2- ما روي عن عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، قَالَتْ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى
نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي بَيْتِي، فَقَالَ: يَا
نَبِيَّ اللهِ ، إِنِّي كَانَتْ لِي امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجْتُ عَلَيْهَا أُخْرَى،
فَزَعَمَتِ امْرَأَتِي الْأُولَى أَنَّهَا أَرْضَعَتِ امْرَأَتِي الْحُدْثَى
رَضْعَةً أَوْ رَضْعَتَيْنِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ
وَالْإِمْلَاجَتَانِ"[10].
ووجه الاستدلال: أن هذه أحاديث ثابتة ، وهي صريحة في نفي التحريم بما دون الثلاث ،
فتكون مقيدة لمطلق القرآن المتقدم.
وأجيب : بأن هذه الحديث مسوقة لدفع توهم ثبوت التحريم بمجرد التقام
الصبي الثديَ ، إذا لا يثبت التحريم بدون
وصول اللبن إلى جوف الصبي ، وهذا خارج عن محل النزاع.
أدلة المذهب
الثالث ومناقشتها
احتج أرباب المذهب الثالث بالعديد من الأدلة أيضا ، نقتصر على ذكر أهمها
:
1- بما روي عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّهَا
قَالَتْ: " كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ
الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ
مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ
فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ "[11].
وأجيب : بأنه قد اختلف في العدد الذي يثبت به التحريم – فقيل مصة واحدة
، وقيل ثلاث رضعات ، وقيل خمس ، وقيل سبع ، وقيل عشر - فوجب الرجوع إلى أقل ما
يطلق عليه اسم الرضاع.
أن حديث عائشة لا يصح الاحتجاج به عند الأصوليين ؛ لأنه لم ينقل على
أنه حديث ، فلم تقل الراوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا
أو فعل كذا .. وإنما قالت أن ذلك كان قرأنا يتلى ، وهذا لا يصح ؛ لأن القرآن إنما يثبت بالتواتر لا بالآحاد[12].
كما أن خبر عائشة هذا يوحي بأن شيئا قد ضاع من القرآن بعد وفاة النبي
، وهذا محال ؛ لأن الله قد تعهد بحفظ كتابه.
2- ما رواه مالك في موطئه أن سهلة بنت سهيل جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت مشكلة
سالم مولى أبي حذيفة، فقالت: يا رسول الله: كنا نرى سالماً ولداً، كان يدخل
عليّ وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟ فقال لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه
خمس رضعات فيحرم بلبنها..."[13].
وأجيب : بأنه خبر مضطرب ، فقد رواه مسلم دون أن يذكر عددا للرضعات ، وهذا
الاضطراب يضعفه ، وقد قيل أن العدد خاص برضاع الكبير[14].
رابعا : سبب الخلاف والرأي المختار
أما سبب الخلاف :
فقال قال ابن رشد :" وَالسَّبَبُ
فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعَارَضَةُ عُمُومِ الْكِتَابِ
لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّحْدِيدِ، وَمُعَارَضَةُ الْأَحَادِيثِ فِي
ذَلِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا..."[15].
وأما الرأي المختار :
فعندما ننظر في أدلة المذاهب الثلاثة نستخلص ما يلي :
- أن الرضاع لا يثبت بما دون
الرضعة ، والرضعة إنما تتحقق بوصول اللبن إلى جوف الصبي ، وبهذا يكون القرآن مطلقا
في الرضعات قليلها وكثيرها ، وتكون أحاديث المصة والمصتين والإملاجة والإملاجتين
متفقة مع هذا الإطلاق ، فهي لدفع توهم
ثبوت التحريم بمجرد التقام الصبي الثديَ دون أن ينتقل شيء من اللبن إلى جوفه.
- أما حديث عائشة الذي العمدة الأقوى عند الشافعية ، فلم يعد صالحا للاحتجاج ؛ لأنه
لم ينقل على أنه حديث ، ولم يثبت كونه
قرآنا كما تقدم في المناقشة ، وعلاوة على هذا فقد نص العلماء على اضطرابه ، وأيضا
يحتمل أن يكون خاصا بالرخصة الخاصة برضاع الكبير ، ومن القواعد
المقررة لدى أرباب الأصول أن: "الدليل إذا
تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال"[16]. كما
أنه يوحي بأن شيئا قد ضاع من القرآن بعد وفاة النبي ، وهذا محال ؛ لأن الله قد
تعهد بحفظ كتابه.
- ثم أننا عندما نتأمل المسألة نجد أن هناك دليلا من المعقول احتج به
القائلون يثبوت التحريم بمطلق الرضاع ، وهو : أن الأحكام تعلق بالأوصاف الظاهرة
المنضبطة لا بالأوصاف الخفية المضطربة ، ألا ترى أن قصر الصلاة وإباحة الفطر في
رمضان ، قد تعلق كل منهما بالسفر لظهوره وانضباطه ، ولم يتعلق أي منهما بالمشقة ؛
لاضطرابها وتغيرها ...؛ وكذلك الغُسل قد تعلق بالإيلاج لا بالإنزال ؛ لظهور الأول
وخفاء الثاني ... وكذلك ينبغي أن يتعلق الحكم بمطلق الرضاع ؛ لظهوره وانضباطه ، ولا
يصح أن يتعلق الحكم بجزئية اللبن المنتقلة من ثدي المرأة إلى جوف الصبي ؛ لأن هذه
الجزئية خفية عنا ، وغير منضبطة أيضا ؛ لأن أثداء النساء تختلف في الشدة والرخاوة
، وقدرة الرُّضَع على المص تختلف من صبي لآخر. وهذا الدليل لا مدفع له.
- وبناء على ذلك فالراجح هو رأي الجمهور ، وتؤيده قَاعِدَة : "الْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ . [17]" فينبغي الاحتياط فيها ، قال
ابن العربي :"وَرَأَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَخْذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّقٌ بِهِ،
وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيمِ فِي الْأَبْضَاعِ
وَالْحَوْطَةِ عَلَى الْفُرُوجِ ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ يَرَى
الْعُمُومَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ"[18].
لكن ينبغي أن ننبه إلى أن الفتوى فبل الابتلاء شيء
وبعده شيء آخر ، فقبل الابتلاء لا يجوز العدول عن الدليل الراجح الذي ذكرنا ، أما
بعد الابتلاء كما لو تم الزواج بين المتراضعين ، وطال أمده وولدت الأولاد ، فإنا
نعدل عن الإفتاء بدليلنا الراجح إلى دليل الشافعي المرجوح ، القائل بأن التحريم لا يثبت إلا بخمس
رضعات مشبعات ؛ لأن المرجوح قد ترجح في الواقعة بعد وقوعها
، بالنظر إلى ما يؤول إليه الإفتاء بالراجح من فساد كبير ، وأصل
مراعاة الخلاف يرجع إلى هذا المعنى ، وكذلك أصل الاستحسان.
والله
تعالى أعلى وأعلم
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
1- صحيح البخاري
رقم 2645
2- انظر مذهب الفقهاء في المراجع الآتية:
- - بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد الحفيد 3 / 60.
- - الاستذكار
لابن عبد البر 6 / 249
- - والمغني
لابن قدامة المقدسي 8 / 172.
- - بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع لكاساني 4 / 7.
- - البيان
في مذهب الإمام الشافعي للعمراني اليمني الشافعي 11 / 114.
3- النساء: 23
4- انظر: سبل
السلام للصنعاني 3 / 438. ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 312.
5- رواه البخاري
في صحيحه رقم 2640.
6- نيل الأوطار
للشوكاني 6 / 312 – 313.
7 – رواه الدار
قطني في سننه رقم 4377.
8- رواه البيهقي
في السنن الكبرى رقم 15643
9- رواه مسلم
رقم 17 - (1450).
10 - رواه مسلم رقم 18- (1451).
11- رواه مسلم
رقم 24 - (1452)
12 فتح الباري لابن
حجر 9 / 147.
13- رواه مالك
في موطئه وأبو داود في سننه
14 أحكام القرآن
للجصاص 3 / 67
15 – بداية
المجتهد ......... 3 / 60
16 أنوار البروق
في أنواء الفروق ، للقرافي ، ج 2 ص 100.
17 - لْأَشْبَاهُ
وَالنَّظَائِرُ لابْنِ نُجَيْم ص 67
18 – أحكام القرآن
لابن العربي 1 / 481
السلام عليكم شيخنا الكريم انا من المتابعين لما تنشره و قد استفدت منه كثيرا جعله الله في ميزان حسناتك لو تكرمت و كتبت لنا فتوى مطولة نوعا ما عن مسألة المجسمات في تعليم الناس مناسك الحج مشروعيتها و حدودها، دمت في صحة و عافية
ردحذف