قال الله تعالى :" قَالُوا إِنَّ هَذَانِ
لَسَاحِرَانِ
". [طه 69].
هذا الكلام ورد على لسان فرعون وَمَلَئِهِ ، وكثيرا ما يتساءل
بعض الإخوة عن إعراب هذه الآية ، بناء على ما يعلمون من حكم المثنى في لغة العرب ،
وهو أن يرفع بالألف نيابة عن الضمة ، نحو : " هَذَانِ خَصْمَانِ ". وينصب بالياء نيابة عن الفتحة
، نحو :" فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ ".
ويجر بالياء نيابة عن الكسرة ، نحو: " يَمْشِي
عَلَى رِجْلَيْنِ
".
و[هَذَانِ] في الآية اسم [إن] التي
تنصب المبتدأ وترفع الخبر ، ولكنها جاءت على خلاف الحكم المذكور للمثنى ، كما لو
قلنا مثلا :" إن هذين لتلميذان مجتهدان ". فهذين : اسم [إن] منصوب
وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة ؛ لأنه
مثنى.
والحق أن هذا الحكم المذكور للمثنى إنما هو جانب من جوانب اللغة
العربية ، فاللغة العربية واسعة وشاسعة ، فهناك
جوانب أخرى يخرج عليها إعراب هذه الآية :
لكن قبل ذلك نشير إلى أن في قراءة حفص أتت [ إن ] مخففة ، " إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ". وبالتالي لا إشكال فيها ، واللام في "لَسَاحِرَانِ".
هي اللام الفارقة ، يعني تفرق بين النفي والإثبات ، فإذا قلت :" إنْ أنت
ساحر" فهذا نفي ، يعني أنك لست ساحرا. أما لو قلت : " إنْ أنت لساحر
". فهذا إثبات ، يعني أنك ساحر.
أما في قراءة ورش فقد أتت فيها [ نَّ ] مثقلة ، وبالتالي تكون ناصبة
للمبتدأ كما قلنا ، لكن حكم المبتدأ المشهور ، والذي ذكرناه آنفا ، ليس هو اللغة
العربية الوحيدة ، فهناك جوانب أخرى في لغة العرب ، تخرج عليها هذه الآية ، نذكر منها
تخرجين حتى لا نطيل على القارئ الكريم :
1- التخريج الأول هو : أن هناك عدة قبائل عربية تعامل المثنى بالألف
مطلقا ، فتقول : " جاء رجلان .. ورأيت رجلان .. ومررت برجلان ]
وعلى هذه اللغة تكون الضمة والفتحة والكسرة مقدرة على الألف ، كما في
الاسم المقصور نحو [المصطفى]. ومن ذلك قول الشاعر:
أعرف منها الجيدَ والعينانا ** ومنخرين أشبــها ظبيانا
والشاهد فيه : " والعينانا
" فهو مثني معطوف على الجيد ، والجيد مفعول به منصوب ، والمعطوف على المنصوب
منصوب ، ولكنه لم يقل : " والعنيْن ". بل عامل المثنى معاملة الاسم
المقصور.
وهذه اللغة هي لغة كنانة ، وبني الحارث ،
وبني العنبر ، وبني هجيم ، وبكر بن وائل ، وزبيد ، وخثعم ، وهمدان ، وعذرة .
فقد تكون
هذه الآية نزلت على لسان هذه القبائل ، وبالتالي يعرب [هذان] على أنه اسم إن منصوب
وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على الألف كما تقدم.
2- والتخريج
الثاني : هو أن [ إنَّ ] قد تأتي بمعنى [ نعم ] كما في قول الشاعر العربي عبد الله
بن قيس:
بَكَرَ العَـــوَاذِلُ فِي الصَّبَاحِ يَلُمْنَنِي
وَأَلُومُهُنَّهْ **وَيَقُلْنَ: شَيْبٌ قَدْ عَلَاكَ وَقَدْ كَبِرْتَ، فَقُلْتُ:
إِنَّهْ
والشاهد فيه :[ فَقُلْتُ: إِنَّهْ
] أي قلت نعم ، والهاء إنما هي هاء السكت ، وبالتالي : يكون إعراب : [ إنَّ هذان] إن : حرف جواب لا محل له من الإعراب
، وهذان : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة ، وساحران خبر ، واللام
فيه زائدة.
وهذا التخريج الأخير فيه نوع من الإعجاز القرآني ، وهو أن الدراسات
العلمية الحديثة أثبتت أن [ إنَّ ] من
أقدم أدوات الجواب ، ففي اللغة الآراميّة تأتي [
إن ] بمعنى نعم . وكذلك
في اللغة العبرية تأتي [ إن ] بمعنى نعم ، ثم مع تطور اللغة العبرية
أصبحت تنطق [كِينَّ] ، وهي اليوم هكذا في اللغة العبرية ، وتكتب على هذا
الشكل [כן] .
ويكون فرعون وقومه قد استعملوا [ إن ] بمعنى نعم ، على لغة العبريين
القدامى ، الذين كانوا في عصره ، أي أجاب عن موسى وهارون بلغة العبريين فقال
:" إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ".
أي ؛ نعم هذان لساحران.
ووجه الإعجاز هو أن العرب حينما كانوا يستعملون [ إنَّ ] للجواب ، لم
يكونوا يعلمون بأن العبريين القدامى كانوا يستعملونها كذلك ، وإنما اكتشف ذلك حديثا ، إذن : فمن أخبر محمدا صلى الله عليه
وسلم بهذه الحقيقة ، ومن أخبره بأن فرعون قد استعملها وأجاب بها العبريين، لو لم
يكن هذا القرآن كلام الله الذي يعلم السر وأخفى ؟.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق