اتفق
أهل العلم على أن لحوم العلماء مسمومة ، وأن " من ذكرهم بسوء فهو على غير
السبيل". وقال أبو حنيفة والشافعي وغير واحد : " إن لم يكن الفقهاء أولياء
الله فليس لله ولي. " وقال عكرمة رضي الله عنه : " إياكم أن تؤذوا أحداً من
العلماء ، فإن من آذى عالماً فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
إلا أن قوما أبوا إلا أن يطلقوا العنان لألسنتهم للطعن في العلماء ،
متغافلين عن سنة الله في هتك أستار منتقصيهم ، كما قال الحافظ ابن عساكر .
ومن ذلك وقوف بعضهم من البوطي أو القرضاوي - دون أي فائدة مرجوة - موقف
الندّ من عدوه اللدود ، وراح كل فريق من الفريقين المتنافضين ، يصف
العالميْن الجليلين بأقبح الأوصاف وأبشعها ، وتأويل كلامهما وصرفه عن وجوهه
... وكأنه اطلع الغيب أو تلقى من الرحمان عهدا بحرمانهما من رحمة الله ؟
أو إخراجهما من دائرة المغفور لهم في حديث ثعلبة بن الحكم عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : " يقول الله - عز وجل - للعلماء يوم القيامة إذا قعد
على كرسيه لفصل عباده : إني لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلا وأنا أريد أن
أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أبالي".
ولنفرض أن أيًّا منهما قد أخطأ ،
أو ليس خطأ المجتهد مغفورا ؟ ثم ألم يتفق أهل العلم على أن لكل عالم هفوة
أو أزلة ، ولو كان كل عالم يؤخذ بخطئه أو هفوته أو زلته لما بقي على ظهر
الأرض من عالم يذكر .. كما قال الإمام الذهبي : "ولو أنا كلما أخطأ إمام في
اجتهاده قمنا عليه وبدعناه ، وهجرناه ، لما تسلّم معنا لا ابن نصر ولا ابن
منده ولا من هو أكبر منهما".
والشيخان الجليلان كلاهما من ذوي
الأيادي البيضاء والأقدام الراسخة في العلم والمعرفة ، ولقد علمنا النبي
صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل مع المخطئين من ذوي الفضل والسوابق الحسنة ،
كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي بعث بكتاب إلى المشركين يكشف فيه سر
جيش المسلمين وهو في طرقه إلى فتح مكة ، فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي
الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها ، ومع
ذلك فقد عامل النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ حاطبا ـ رضي الله عنه ـ معاملة
رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة ، فقال : " لعل الله اطلع
على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
فجعل - صل الله عليه وسلم
- من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه ، وهو منهج تربوي حكيم . فلم ينظر
النبي - صل الله عليه وسلم - إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن
كانت كبيرة ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه ،
فوجد أنه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب
الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال
صالحة في حياتهم، في مجال الدعوة والجهاد ، والعلم والتربية ..
فلِمَ لا ننظر نحن إلى الشيخين من هذه الزاوية ، ولِمَ لا نتعامل معهما وفق هذا الأسلوب النبوي ؟
والشيخان الجليلان كلاهما قد بلغ مرتبة الاجتهاد ، وكلاهما كان مدفوعا
إلى إرضاء الله جل وعلا ، وقد تباينت أنظارهما في ما جرى في المنطقة
العربية من أحداث مؤلمة ، فرأى القرضاوي أنها بداية نهضة جديدة تتخلص فيها
الأمة من مظالم طال أمدها ... ورأى البوطي أنها مكيدة ومؤامرة نسجت حبالها
في ظلام الأروغة الصهيوأمركية ، وأن مآلها تدمير قدرات الأمة ، وإدخالها
في دوامة من الفتن لا تؤمن عواقبها ، وأن أعداء الأمة لن يدعوها - والوضع
على ما هو عليه - لتقطف ثمرة تغيضهم ...
ونحن - وإن كنا لم نبلغ
مبلغ الرجلين ولم ندانهما في علم ولا خُلُقٍ - إلا أنا نرى أن الحق كان في
جانب البوطي ، فهو كان منطلقا من ادراكه الكامل للواقع واكتشافه وتحليله
..... مستندا الى ما قرره العلماء قبله بإجماع ، من عدم جواز الخروج عن
الحاكم المسلم ، إذا كان ذلك يؤدي إلى فتنة أو مفاسد أكبر من مفاسد البقاء
تحت حكمه وسلطانه ...
إلا أن خطأ القرضاوي لا يطعن في مصداقيته أو
فقهه ، ولا يبرر سبه أو شتمه أو وصفه بما لا يليق ...أو تأويل كلامه أو
تحميله ما لا يحتمل ؟
وقد أمرنا أن نلتمس لعلمائنا أحسن المخارج ،
فلِمَ لا نلتمس للفقيهين أحسن المخارج ، ولِمَ لا نشبه اجتهادهما باجتهاد
سيدنا علي وسيدنا معاوية - رضي الله عنهما - وما جرى بينهما ، فقد سلك أهل
السنة في ذلك مسلكا وسطا وقرروا أن الحق كان في جانب علي ، وأن مقاتلة
معاوية لعلي لم تكن نتيجة تشهٍ أو هوي ، بل كان نتيجة اجتهادٍ شرعي،
والمجتهد مأجور وإن أخطأ كما هو معلوم.
وقد كتب العلماء في ذلك فيوضات علمية لا حصر لها ، ذكر العلامة البوطي خلاصتها فقال :
" .. فإننا نقرر ما قرره جمهور علماء المسلمين وأئمتهم من أن معاوية كان
باغيا في خروجه على عليّ، وأن عليّا هو الخليفة الشرعي بعد عثمان.غير أننا
يجب أن لا ننسى أن الباغي مجتهد ومتأول ، وإذا جاز لصاحب الاجتهاد المقابل
أن يحذره ثم ينذره ثم يقاتله، فإنه لا يجوز لنا وقد انطوى العهد بما فيه أن
نتخذ من انتقاص معاوية ديدنا وأن نقف منه- دون أي فائدة مرجوة- موقف الندّ
من عدوه اللدود.وحسبنا، في مجال العقيدة، أن نعلم طبقا لما تقتضيه قواعد
التشريع، أن الخليفة بعد عثمان هو عليّ رضي الله عنه؛ وأن معاوية، كان يمثل
في تمرده عليه طرف البغي، ثم نكل الأمر فيما وراء ذلك إلى الله عزّ
وجل.".[ فقه السيرة].
وإذا كنا نأبى اليوم إلا أن نقف من القرضاوي
أو من البوطي موقف الند من عدوه اللدود ، فما الفارق بيننا وبين الشيعة
الذين اتخذوا من لعن معاوية وعائشة -- وغيرهم من الصحابة المناوئين لعلي –
دينا يتعبدون الله به ؟؟ وما الفارق بيننا وبين أدعياء السلفية الذين
اتخذوا من تجريح العلماء منهجا يتقربون به إلى الله تعالى ؟
اعتقد أننا
في حاجة إلى مراجعة أنفسنا ، وضبط تصرفاتنا بموازين الكتاب والسنة وما
قرره علماء الأمة ، وإن لم نكف عن الطعن في العلماء والانتقاص من قدرهم فإن
خاتمة أيامنا قد تكون غير مرضية ، وأنبه – فيما يخص هذا الفضاء الأزرق –
أن من يسمح بسب العلماء ، أو أيا من المسلمين ، على صفحته فهو مشارك في
سبهم ، فالمغتاب والمستمع إليه شريكان في الغيبة كما ورد في الحديث ، بصرنا
الله بحقائق الأمور ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق