الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله
ولي الصالحين ، شهادة نستعد بها إلى يوم لقائه يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، أرسله الله على فترة من
الرسل وحاجة من البشر ، فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة ، وفتح به آذانا
صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا ، وما فارق الدنيا عليه الصلاة والسلام حتى ترك الناس
على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، فاللهم صل وسلم وبارك
عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
، وبعــــــد :
فإن الشريعة الإسلامية المعظمة، زادها الله شرفا و تعظيما، ما تركت
جانبا من جوانب شؤون الناس إلا وعالجته ، وشرعت له من الأحكام ما يدرأ
عنهم المفاسد والمضار في عاجلهم وعـاقبة أمرهم ... فما أحوجنا إلى أن نلتمس
الحلول لمشكلاتنا في ضوء هذه الشريعة ، التي تمـيزت تشريعاتها بقدرة هائلة
على إمداد الحياة - مهما اختلفت ظروفها وتطورت حضاراتها - بالحلول المناسبة لكل ما
يطرأ و يستجد من الوقائع و الحوادث المختلفة ، فما من نازلة إلا وللشـريعة حكم
فيها و موقف منها.
ألا إن من المشكلات الاجتماعية الخطيرة ، التي تكاد تعصف بمجتمعنا ،
مشكلة العنوسة وتأخُّر سن الزواج لدى فتياتنا ، اللواتي تتقدم بهن السنون عاما بعد
عام ، وتتفاقم العراقيل أمامهن يوما بعد يوم ، وقد طالعتنا آخر الإحصائيات
بأن نسبة العنوسة في الجزائر قد بلغت 12 مليون عانس ، 43% منهن قد بلغن سن اليأس
من المحيض ، وهي أرقام مخيفة ، تستدعي دق ناقوس الخطر ، و تحتم على الفقهاء
والأئمة والمسئولين والأعيان ورجال الإعلام في هذه البلد الطيب ، أن
يتعاونوا جميعا من أجل كشف أسباب هذه الظاهرة الخطيرة ، ثم العمل على رسم حلول لها
، أو على الأقل السعي إلى التخفيف من حدتها ، ؛ تطبيقا للقاعدة الفقهية :"الضرر يدفع بقدر الإمكان" ومعناها أن
نسعى إلى رفع القدر المستطاع من الضرر إن تعذر رفعه بالكلية ، وأن نسعى للحيلولة
دون وقوعه ، وذلك باتخاذ الإجراءات والاحتياطات الكفيلة بالوقاية منه.
ولا يخفى على حضراتكم ما للعنوسة من مخاطر على الفرد والمجتمع ، فإن
العونسة لها أثر على نفسية العانس ، فهي ترى مثيلاتها ينعمن بحياة زوجية مستقرة ،
مع أزواجهن وأولادهن ، وهي محرومة من ذلك كله ، مما يجعلها تعيش في قلق دائم
وأحزان متواصلة ، وقد يؤدي بها اليأس والإحباط إلى الوقوع في ما لا تحمد عقباه من
الفواحش التي حرم الله تعالى ، انتقاما من المجتمع أو من أوليائها ، الذين
تسببوا في عضلها ، أي في منعها وحرمانها من الزواج ، وقد تقع في شباك الذئاب
البشرية، من فاقدي المروءة والشرف ، فكم من فتاة قد تلاعبوا بعواطفها ووعدوها
بالزواج ، فأشبعوا منها غريزتهم البهيمية ، ثم رموا بها كالجيف في مكان سحيق ،
وبهذا يتجلى لكم – أيها الإخوة - أن العنوسة ، لها مخاطر على العانس نفسها ،
ولها مخاطر على الأمة بأجمعها ، مما يجعل الوقوف على أسبابها والبحث عن طرق
معالجتها أمرا حتميا.
ومن أهم أسباب تفشى العنوسة :
1- العادات
والتقاليد التي تمسك بها الناس في زماننا هذا ، حتى قدموها على أحكام
الشريعة الإسلامية وتوجيهاتها. فتجد بعض الأولياء يصرون على تزويج الكبيرة قبل
الصغيرة ، أو يرفضون تزويج مولياتهم من خارج القبيلة أو العائلة أو العرش ، أو
يشترطون أن يكون المتقدم لها ذا نسب أو ذا مكانة اجتماعية مرموقة ... ولا عبرة
بمثل هذا العرف في ديننا ، فزيد بن حارثة كان من الموالي ، وقد زوجه رسول
الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش ، وهي من أشراف قريش. وبلال الحبشي
هو الآخر كان عبدا مملوكا ، وقد زوجه عبد الرحمان بن عوف من أخته ،
وهي من أشراف قريش ، ولذلك فالمعيار الذي ينبغي النظر إليه ، إنما هو
الإيمان والتقوى : "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ".
فمتى كان الزوجا صالحا قادرا على تحمل مسؤوليات الزواج ، زوجناه دون النظر إلى
نسبه أو مكانته الاجتماعية.
2- ومن الأسباب التي
كانت وراء تفشي العنوسة ، التغالي في المهور ، وإحاطة الزواج بقيود عقدت أمر
الزواج ، وجعلت الإقدام عليه أمرا عسيرا ، فالمهر – على ارتفاع ثمنه – تتبعه هدايا
مشروطة مسبقا ، يسمونها الجرية أو التكبيرة أو غير ذلك من المسميات ... ثم تتبعه
مصاريف أخرى ، كحقوق الماشطة ، وحقوق الأعياد ، وحقوق الحمام ، وحقوق الحناء ،
وحقوق فستان العروس ، وما يسمونه شاة الحلال... وما إلى ذلك من المتاعب والمصاريف
المادية ، التي أدخلت المقبلين على الزواج في الضيق والحرج ، وأثقلت كواهلهم بتحمل
ديون باهضة ، وهو ما جعل العديد من الشباب يعزفون عن الزواج ، فضاعت الفتيات
بسبب تلك الشروط والقيود التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا طائل من
ورائها. والحل هو أن نيسر المهور ما استطعنا ، ونلغي ما يتبعها
من تلك الشروط التي تضر ولا تنفع ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أعظم
النساء بركة أيسرهن صداقا"[رواه الحاكم
وقال صحيح على شرط مسلم]. فالتيسير لا التعسير هو الذي يجلب البركة ، ويحقق
السعادة والهناء للزوجين. وقد نهى سيدنا عمر عن التغالي في المهور فقال رضي الله
عنه:: " لا تُغَالُوا
صَدَاقَ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ
تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ ، كَانَ أَوْلاكُمْ وَأَحَقَّكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلا
أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً .." (أخرجه
ابن ماجه).
3- ومن الأسباب التي
كانت وراء تفشي العنوسة ، أن بعض الأولياء يرفضون تزويج من كان فقيرا ، وهذا
تصرف خاطئ ينبغي أن نتجاوزه ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا خَطَبَ
إِلَيْكُمْ - وفي رواية إذا أتاكم - مَنْ تَرْضَوْنَ
دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ " (أخرجه
الترمذي) ، فالجانب الذي ينبغي النظر إليه ، إنما هو جانب الدين والخلق ، لا جانب
المادة ، فإن الفقير قد يصير غنيا ، والنكاح من الأسباب الجالبة للغنى ، قال الله
تعالى : "وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ "[النور32]. فانظروا إلى قول الحق جل وعلا:" إِن
يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ " ،
فهو وعد من الله بإغناء المتزوجين المريدين للعفاف ، وفي الحديث : "ثلاثة حق علي
الله عونهم" وعَدَّ منهم: "الناكح يريد
العفاف" [أخرجه الترمذي]. فإذا اتقينا الله في ما أمرنا ، حقق لنا ما
وعدنا به من الغنى.
4- وهناك سبب آخر
لتفشي العنوسة ، وهو : ضعف دين المرأة وفساد أخلاقها ، كتبرجها واختلاطها بالرجال،
وتجولها في الأسواق ، لغير ما حاجة أو ضرورة ، فامرأة هذا شأنها لا يرغب الأخيار
في نكاحها ، بل حتى الفاسق إذا أراد الزواج ، بحث عن ذات الدين ، التي تحفظ كرامته
، وتكون قدوة حسنة لأولاده ، وتلك هي المرأة التي رغب الشارع في زواجها قال عليه
الصلاة والسلام: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات
الدين تربت يداك" (أخرجه مسلم). يعني : أن الناس يقصدون في المرأة هذه الجوانب
الأربعة ، ثم هو صلى الله عليه وسلم وقف موقف الناصح ، فقال : " فاظفر
بذات الدين تربت يداك". فينبغي للمرأة وأوليائها مراعاة هذا الجانب ، والنظر إلى
مآلات ضعف دين المرأة ، وتركها للعفة والحياء ، فتلك أمور تعود عليها بالضرر في
دينها ودنياها كتعرضها للعنوسة.
5- ولعل من الأسباب التي ظهرت مؤخرا أن بعض الفتيات يرفضن الزواج بحجة
مواصلة دراستهن ، وبإمكان الفتاة أن تجمع بين الأمرين ، إذ لا تعارض بين الزواج
ومواصة الدراسة إذا وافق الزوج ، لكن إذا خيرت المرأة بين الأمرين فأرى أن الزواج
أهم ؛ لأن الفتاة إذا فوتت فرصة الزواج فقد لا تتاح لها تارة أخرى ، خصوصا إذا
تقدم بها السن ، فإن الخطاب يتقدمون إلى الصغيرة ويذرون الكبيرة ولو كانت متعلمة.
6- ومن الأسباب أيضا
أنه قد شاع بين الناس أن الرجل هو من يتقدم لخطبة المرأة ، وبعض الأولياء قد يكون
عنده بنت أو بنات ، وقد لا يتفطن الخطاب لهن ، فيجد الأولياء حرجا في أن
يخطبوا رجلاً لابنتهم، وهذا العرف الشائع لا إلزام فيه ولا عبرة به ؛ لمخالفته
للشرع ، فقد ثبت أن عُمَر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَرضَ ابْنَتَهُ
حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى عُثْمَانَ ، ثُمَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ،
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، أخرجه البخاري وبوب له في صحيحه بقوله :"عرض الإنسان ابنته
أو أخته على أهل الخير". وكذلك عرض الرجل الصالح - الذي جاء في بعض الرويات أنه
شعيب عليه السلام - إِحْدَى ابْنَتَيْهِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كما قص
علينا القرآن خبره :" قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ "[القصص27]. ولذلك فمن
المستحسن للرجل أن يعرض ابنته على أهل الفضل والصلاح ، فتلك سنة حميدة غائبة أو
مغيبة في مجتمعنا ، لو عملنا على إحيائها لأسهمت في التخفيف من ظاهرة العنوسة.
7- ومن الأسباب التي
كانت وراء تفشي العنوسة عزوف الرجال عن تعدد الزوجات ، بسبب عدم تقبل المرأة
للتعدد ، ثم إحاطة التعدد بقيود قانونية تجعله مستحيلا ، فمن خلال ما
جاء في المادة 8 من قانون الأسرة الجزائري ، نجد أن التعدد يخضع لثلاثة قيود أو
شروط ، وهي: 1- ترخيص القاضي بالتعدد 2- وتأكد القاضي من موافقة
الزوجتين السابقة واللاحقة. 3- وإثبات المبرر الشرعي وتأكد القاضي من قدرة
الزوج على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية ... وإذا
كان رجال القانون قد برروا تشريع المادة 8 بحماية
حقوق المرأة، فإن الواقع جاء عكس ذلك تماما ، فلم يعد هذا التشريع في صالح
المرأة ، بل صار وبالا عليها ، حيث أدى هذا التشريع إلى انتشار ظاهرة الزواج
العرفي من جهة ، كما أدى إلى الإسهام في زيادة ظاهرة العنوسة ،
نظرا لكثرة النساء وقلة الرجال كما هو معلوم ، ولهذا ينبغي للمشرع أن يعيد
النظر في هذه المادة ، وأن يسن من التشريعات ما يسهل التعدد للتخفيف من هذه
الظاهرة ، وليسد الذريعة أمام العلاقات غير الشرعية ، وهو ما تقضيه
المصلحة الشرعية التي قام عليها بنيان التشريع الإسلامي ، ومنها: قاعدة :
" تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة " أي متوقف
عليها ومعلق بها ، فتصرف الإمام ومن يمثله ، يجب أن يكون مبنيا على المصلحة العامة
، وما لم يكن كذلك كان تصرفا باطلا لا اعتبار له في الشرع. والتعدد وإن كان مباحا في الأصل بشرطي القدرة على العدل
والنفقة ، إلا أنه قد يعرض له ما يجعله واجبا كما لو كثر
النساء في المجتمع المسلم ، وكان الرجل يخشى على نفسه الوقوع في الزنا ، وهو قادر
على التعدد ، من حيث الإسكان والنفقة .. وقد يكون مستحبا كما لو
كثر النساء في المجتمع المسلم ، مع قدرة الرجل على التعدد ، وعدم خوفه من
الوقوع في الزنا.
أيها الإخوة
الكرام : خلاصة الخطاب : أن ظاهرة العنوسة قد تفشت بشكل رهيب في
مجتمعنا ، وهي تؤذن بخراب البيوت وفساد الأخلاق وتدمير المجتمع ، ولذلك ينبغي أن
يتجند الفقهاء والأئمة والمسئولون والأعيان ورجال القانون والإعلام والجمعيات
الخيرية وعامة المجتمع ... من أجل التخيف من هذه الظاهرة ، وذلك من خلال تيسير
أمور الزواج ، والقضاء على العادات والتقاليد السيئة التي تكتنفه ، وتوعية المرأة
وإقناعها بأن التعدد في صالحها ، وتشريع القوانين التي تسهله وتجشع عليه ، كمكافأة
المعددين أو الزيادة في رواتبهم ، وإني لأستغرب كيف لا تطرح مسألة بهذه الخطورة
على موائد الإعلام ، وكيف لا تقام حولها ملتقيات وندوات ودراسات .... أسأل
الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليما كثيرا ، والحمد لله ر ب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق